[table1="width:85%;background-color:darkred;"]
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ..
وبعد : يقول الله تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَـهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ{46} قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ{47} وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ{48} وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ{49}) [ الأنعام : 46 – 49] .
[46] يُذكِّر الله تعالى المشركين بنعمه عليهم بالسمع والبصر والعقل , ويأمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: أخبروني إن أخذ الله سمعكم فأصمكم , وأخذ أبصاركم فأعماكم وطبع على قلوبكم فأصبحتم لاتفقهون شيئًا فأيُّ إله غير الله عز وجل يقدر على رد ذلك إليكم ؟! فانظر – أيها الرسول – كيف نُنوِّع لهم الدلائل على قدرة الله جل وعلا ووحدانيته ثم هم بعد ذلك يُعرضون عن التذكر واتباع الحق .
[47] ثم يذكِّرهم الله سبحانه بعذابه الذي يصيب به المكذبين ويأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقول لهم: أخبروني إن حلَّ بكم عذاب الله فجأة وأنتم لاتشعرون به , أو ظاهرًا لكم بمقدماته وأنتم تشاهدونه , فمن هم الذين سيحل بهم؟ إنما هم الظالمو أنفسهم بالشرك والمعاصي , ولن يستطيعوا دفع العذاب عنهم لأنهم أعجز من ذلك , ولن يستطيع ذلك أولياؤهم الذين أشركوهم مع الله تعالى لأنهم مثلهم مخلوقون ضعفاء .
[48] والله سبحانه يرسل المرسلين عليهم الصلاة والسلام مبشرين أهل الإيمان والاستقامة بالنعيم المقيم في الجنة , ومنذرين أهل الشرك والمعاصي بالعذاب الأليم في النار , فمن جمع بين الإيمان الصادق والعمل الصالح فأولئك لهم الأمن يوم الفزع الأكبر , ولايحزنون على مافاتهم من حظوظ الدنيا .
[49] والذين كذبوا بآيات الله المسطورة في كتابه , والمشاهدة في خلقه , والمعجزات التي أظهرها على يد رسله عليهم الصلاة والسلام فأولئك يصيبهم العذاب يوم القيامة بسبب خروجهم عن طاعة الله تعالى .
ويقول الله تعالى (قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ{50} وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ{51}) [الأنعام : 50 – 51] .
[50] يوجه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن يبين لأولئك المشركين الجاهلين بحقيقة النبوة بأن النبي لايملك خزائن الله تعالى في الأرض حتى يحوِّل أتباعه إلى أغنياء بعد الفقر وحتى يستجيب لمطالب الكفار بتحويل الجبال إلى ذهب, وأنه ليس من صفاته ادعاء الغيب -كما يفعل الكهان والسحرة والمتنبئون وكما يفعل بعض المسلمين من دعوة الأولياء لجلب النفع لهم أو دفع الضرر عنهم لاعتقادهم بأنهم يعلمون الغيب - وأنه بشر مثلهم ليس ملكا , وإنما هو رسول من عند الله تعالى يتَّبع مايوحى إليه , ويبلغ هذا الوحي للناس , ويطبق شريعة الله عز وجل في الأرض , كما يوجه رسوله صلى الله عليه وسلم إلى أن يقول لأولئك الكفار الجاهلين : هل يستوي الكافر أعمى البصيرة الذي لم يبصر حقيقة النبوة وظل يعيش في أوهامه ولم يؤمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم .. هل يستوي هو والمؤمن الذي أبصر حقيقة النبوة فآمن بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم واستقام على شريعته , أفلا تتفكرون أيها الناس فتبصرون الحق وتؤمنون به ؟!
[51] ثم يأمر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يخوف بهذا القرآن الذين يعلمون أنهم سيحشرون إلى ربهم جل وعلا يوم القيامة , فهم مصدقون بوعد ربهم ووعيده لايعتقدون بولي غير الله ينصرهم ولاشفيع يشفع لهم عند الله تعالى فيخلصهم من عذابه , لعلهم بسماع هذا التخويف يستقيمون على شريعته بفعل أوامره واجتناب نواهيه ، وهذا إنذار خاص بعد إنذار جميع الناس .
ويقول الله تعالى (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ{52} وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَـؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ{53}) [الأنعام :52-53] .
[52] يبين الله سبحانه مقياس الكرامة في الإسلام وميزان الرفعة , فالناس لايرتفعون في الإسلام بشرفهم الدنيوي ولا بأموالهم , وإنما يرتفعون بإيمانهم وعملهم الصالح , فالمشركون من أهل مكة تكبروا أن يتبعوا النبي صلى الله عليه وسلم وعنده المستضعفون من أمثال بلال وصهيب وعمار وخباب , وطلبوا منه أن يطردهم من أجل أن يتبعوه فنهاه الله سبحانه عن أن يطرد أولئك العُبَّاد الذين يعبدون ربهم أول النهار وآخره , وهم إنما يريدون بأعمالهم الصالحة وجه الله تعالى , ويبين الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه ليس عليه شيء من حساب أولئك المؤمنين المستضعفين وما من حسابه عليهم من شيء بل يرجع ذلك كله إلى الله تعالى , وأن طردهم ظلم لهم وتجاوز لحدود العدالة .
[53] وكذلك فتن الله جل وعلا أولئك الكفار المستكبرين بأن مَنَّ على أولئك المستضعفين بالهداية إلى الإسلام , فسبقوا بذلك المستكبرين , فكان ذلك عاملا من عوامل صدودهم عن الإسلام لمَا جبلوا عليه من الكبرياء , حيث أصبحوا يقولون : أهؤلاء الضعفاء الذين كنا نستخدمهم مَنَّ الله عليهم بالهداية إلى الإسلام من بيننا ؟! أليس الله تعالى أعلم بالعناصر الزكية من البشر الذين يشكرون الله عز وجل على نعمائه , فيوفقهم إلى الهداية لدينه ؟!
هذا وقد جاء في سبب نزول هاتين الآيتين ما أخرجه الإمام الطبري من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : مرَّ الملأُ من قريش بالنبي صلى الله عليه وسلم وعنده صُهيب وعمار وبلال وخباب، ونحوهم من ضعفاء المسلمين ، فقالوا : يا محمد ، رضيت بهؤلاء من قومك ، أهؤلاء الذين من الله عليهم من بيننا ؟ أنحن نكون تبعًا لهؤلاء ؟ اطرُدهم عنك ، فلعلك إن طردتهم أن نتبعك . فنـزلت هذه الآية (وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ) إلى آخر الآية. ( تفسير الطبري 9/258 – 259).
ويقول الله تعالى (وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ{54} وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ{55}) [الأنعام : 54 – 55] .
[54] يوجِّه الله سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم إلى إكرام المؤمنين الصادقين لإيمانهم واستقامتهم على الإسلام , فهذا هو المبدأ السامي الذي يرفع الإنسان في هذه الحياة بغضِّ النظر عن نسبه ولونه ومستواه الاجتماعي , لقد كانت الأعراف الجاهلية تقوم على الطبقية والتميز القائم على موروثات لايمكن أن يصل إليها الإنسان بجده واجتهاده , وإنما هي حِكرٌ على طائفة من الناس , بينما الطوائف الدنيا في نظر المجتمع تبقى جامدة على مستواها الذي وصلت إليه , فليس بإمكان المولى أن يكون سيدا ولا وضيع النسب أن يكون شريفا , ولا من امتُهِن للون بشرته أن يغير من ذلك , ولكن الإسلام جاء بميزان التقوى فرفع الأمة إلى مستوى الإيمان الصادق والعمل الصالح , وهذا مبدأ سامي بإمكان كل إنسان أن يصل إليه وأن ينافس في الرقي فيه , ثم يبين تعالى أنه كتب على نفسه الرحمة بعباده – تفضلا منه وكرما- وذلك بمغفرة ذنب من ارتكب منهم ذنبا بجهالة منه لعاقبة تلك السيئة , إذا تاب إلى ربه عز وجل توبة نصوحا ، وأتى بالأعمال الصالحة التي تطهر نفسه من آثار المعاصي فإن الله تعالى ساتر ذنوب عباده التائبين رحيم بهم حيث لم يؤاخذهم على جهالتهم.
[55] وبمثل هذا البيان الواضح الذي بينه الله جل وعلا لعباده يبين الحجج الواضحة التي تظهر الحق من الباطل وتكشف طريق أهل الباطل المكذبين للرسل عليهم الصلاة والسلام , ليكون معروفًا عند أهل الحق فيحذروه , وليكون معروفا عند المنخدعين به فيجتنبوه .
| [/table1]