03-13-2014, 07:53 AM | #1 |
مجلس الادارة
|
ليـــهـ تتكبر ياَ إبن اَدم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
التَّواضع إنَّ من البدَهيات في بناءِ الشَّخصيةِ الإنسانية وصقْلِ جوهرِها أنْ يعرفَ الإنسانُ وضعَه، وأن يقدرَ نفسَه، وأن يعقلَها بحجمِها الحقيقي، وأن يتصورَها في نطاقِها المناسب، دون تهويلٍ أو تزيُّدٍ يضيفانِ عليها هالةً ليست لها، أو انتقاصًا وتهوينًا يبخسانِها امتيازًا فيها؛ لأنَّ في التزيد من قيمةِ النَّفسِ والتَّضخيم من حجمِها تهويلاً لشأنِها، قد لا تستحقُّه وليستْ في حاجةٍ إليه، وإذا استشرى هذا وتغلغلَ في توجُّه الإنسانِ أدَّى إلى إصابةِ النفس بالعُجبِ والاختيال والفخر، ثُمَّ الغرورِ والغطرسة والكِبْر. كما أنَّ في انتقاصِ النَّفسِ والتهوين من شأنِها، تحقيرًا لها، واستخفافًا بها، وقد يؤثِّر هذا في شخصيةِ الإنسان، فيصيبها بالقلقِ والاضْطرابِ والتردُّد، ثُمَّ بالخوف والانزواء والعُزْلة، وكلُّ هذه الصِّفات التي تصيبُ النَّفس وتؤثِّر في نموِّها وعَلاقاتِها واتجاهاتها - إنَّما هي ثمارٌ خبيثة وسلوكٌ معوجٌّ، يأتي لما بذر في النَّفس من بذور الضَّعَةِ والهوانِ أو الكِبْر والعلو، وخيرُ ما يقي النَّفسَ الإنسانية شرَّ هذه وتلك هو أنْ يدركَ الإنسانُ معنى التَّواضع، ويلتزمَ بالمنهج الإسلامي الذي جاء به الإسلامُ الحنيف، والتَّواضع فضيلةُ الفضائل، وأساسُ مكارمِ الأخلاقِ، يقول "ابن منظور" في لسان العرب: "إنَّ التَّواضع في اللغة هو التذلُّل، وتواضعَ الرَّجلُ ذلَّ"، والتَّواضع لا يكونُ إلا للهِ - سبحانَه وتعالى. وقيل: التَّواضع: الاستسلامُ للحقِّ وتركُ الاعتراض على الحكمِ، وذكرَ أحدُ العلماء أنَّ التَّواضع قبولُ الحقِّ ممن كان، وسُئل أحدُ الصَّالحين عن التَّواضع فقال: خفضُ الجناح للخلقِ ولينُ الجانبِ لهم، وقال الفضيل، وقد سُئل عن التَّواضع ما هو؟ فقال: أن تخضعَ للحقِّ وتنقادَ له، ولو سمعتَه من صبيٍّ قبلتَه، ولو سمعتَه من أجهلِ النَّاس قبلته، وقال عبدالله الرَّازي: "التَّواضع تركُ التمييز في الخدمة"، وهذه التعاريف التي جاءتْ في التَّواضع، تدعو في وضوحٍ إلى تهذيبِ الطِّباع النَّفسية والنَّزعات الفطرية، والعملِ على الحدِّ من غلواء النَّفس؛ حتَّى لا تطغى بصاحبِها فتردى به في مهاوي الغرور والهَلكة، قال الله - سبحانه وتعالى -: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [القصص : 83]، وروى الإمامُ أحمدُ وأبو داود وابنُ ماجه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قال الله - عزَّ وجلَّ -: الكبرياءُ ردائي والعظمةُ إزاري، فمن نازعني واحدًا منهما قذفتُه في النَّار))، وروى مسلمٌ في صحيحِه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: ((لا يدخلُ الجنةَ من كان في قلبِه مثقال ذرَّةٍ من كِبْر))، قال رجلٌ: يا رسول الله، إنَّ الرجلَ يُحبُّ أنْ يكون ثوبُه حسنًا ونعله حسنًا، قال: ((إنَّ الله جميلٌ يحبُّ الجمال، الكبرُ بَطَرُ الحقِّ وغَمْطُ النَّاس))، وبطر الحق؛ أي: دفعه، وغمطُ النَّاس: احتقارُهم، فالإسلامُ الحنيف جاء يدعو النَّاس إلى التَّواضع ويأمر به، ويحضُّ عليه، ويهتف بالمؤمنين أن يأخذوا أنفسَهم به ويلتزموه، ويجنحوا له مُسْتمسكين بالحقِّ، مقبلينَ عليه، مُنْقادين له، ولقد كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أحرصَ النَّاس على التزام التَّواضع، وكان في ذلك مضربَ الأمثال في كلِّ أحواله: في أقوالِه ونصائحِه وتوجيهاتِه، وأساليب تربيتِه، ثُمَّ في أعمالِه اليومية وممارسته العادية، مع أصحابِه وفي بيتِه وبين أهلِه ومع خدمه، وفي حلِّه وفي سفرِه وفي ركوبه وفي مشيه، وفي حديثِه ومعاملاتِه وعبادتِه، وفي كلِّ شأنٍ من شؤونه، وفي رياض الصَّالحين عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لو دُعيتُ إلى كُرَاعٍ أو ذِراع لأجبتُ، ولو أُهدِيَ إلى ذراعٌ أو كراعٌ لقبلتُ))، وعن أبي غالبٍ قال: قلتُ لأبي أمامةَ: حدِّثْنا حديثًا سمعتَهُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كان حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - القرآن، يُكثِرُ الذِّكرَ، ويقصر الخطبةَ، ويطيلُ الصَّلاةَ، ولا يأنَفُ ولا يستكبرُ أنْ يذهبَ مع المسكين والضَّعيف حتَّى يفرغ من حاجتِه". وروى مسلمٌ عن عياض بن حماد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنَّ اللهَ أوحى إليَّ أن تواضَعُوا حتَّى لا يفخر أحدٌ على أحدٍ، ولا يبغي أحدٌ على أحد)). والذي يسبرُ فضيلةَ التَّواضع يدرِكُ أنَّها خليقة من أنبلِ الخلائق، وأسمى الخِلال التي يدعو إليها الإسلامُ ويرغِّبُنا فيها، ويأمرُنا أن نأخذَ في سلوكِنا دورَ الممارسةِ الفعلية الحانية الأصيلة التي تشعُّ في المجتمع كلِّه؛ بحيث يعرفُ الإنسانُ نفسَه ويقدِّر ربَّه ويَذِلُّ لجلالِه، ويذعن للحقِّ ويلين له، ويقبلُ عليه ويسلِّم إليه وبه وفيه، ويرفق بالخلقِ ويلين لهم، فيخفض جناحَه ويدنو بجانبِه، ويُطامِنُ من نفسِه هاشًّا فيهم، وباشًّا لهم، ويمنحُهم من ودِّه ويعطيهم من عطفِه، ويحيطُهم بألفتِه ويغمرهم بأُنسِه، أجل، يتواضَعُ المرءُ في ذاتِه وفي مِشيتِه وحَرَكتِه وقولِه وحديثِه ومعاملتِه، خشوعًا وخضوعًا ووقارًا واتزانًا. ويتواضعُ المرء مع أهلِه: أبويه وزوجِه وأولاده وقرابته وذوي رحمِه، وبرًّا بشيوخِهم، ورفقًا بضعيفهم، وشفقةً على صغيرهم، وودًّا لهم جميعًا، وإحسانًا بهم وبأبناء المجتمعِ الإسلامي عامَّةً؛ من طيبِ عشرةٍ وحسن خليقةٍ ولين عَريكة، وكرم معاملة وإغضاء عن الهفوات، وصفحٍ عن الزَّلاتِ، ومعرفةٍ لأقدارِ النَّاس وإنزالِهم منازلَهم، روى الإمامُ أحمدُ والحاكم عن عبادة بن الصَّامت - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((ليس منَّا مَنْ لم يجلَّ كبيرَنا ويرحمْ صغيرَنا ويعْرِفْ لعالِمنا حقَّه))، والمؤمنُ الحقُّ الذي امتلأ قلبُه بالإيمان هو الذي يعقلُ ويدركُ أنَّ التَّكَبُّر لا يرفعُ صغيرًا، وأنَّ التَّواضع لا يخفضُ كبيرًا، وأنَّ خفض الجناح ولينَ الجانب والرِّفق والرَّحمة - أمورٌ ما شاعتْ في الأمة إلا كانت سبيلَ ألفتِها وباعثَ وحدتِها، وكم للرَّسول الأمين محمدٍ - عليه الصَّلاةُ والسلام - وكَمْ لأصحابِه - رضوانُ الله عليهم - والتَّابعين والصَّالحين من وقائعَ في التَّواضع غدتْ آيةَ الآيات، وأول الشَّواهد على ما اتَّسموا به من خُلق - رضي الله عنهم - وسلوكٍ سويٍّ، وفضائلَ ذاتية انعكستْ آثارُها على صفحة المجتمعِ فأحالتْهُ مجتمعًا متوادًّا متحابًّا، على نحو ما وصفَ القرآنُ الكريم في قوله - تعالى - في سورة الفتح: ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ﴾ [الفتح: 29]، والمتواضعون من المسلمين هم أهلُ الحظْوةِ بعبوديتِهم للهِ - سبحانه وتعالى - ولقد بلغَ من شرف التَّواضع وعظيمِ أثرِه أنْ جعلَهُ اللهُ أوَّلَ الأوصافِ التي وصف بها عبادَه، فقال - تعالى - في سورة الفرقان: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان : 63]، وفي معنى الآيةِ يقول الشَّيخ المراغي في تفسيره: "أي: وعبادُ الله الذين حُقَّ لهم الجزاءُ والمثوبة هم الذين يمشون في سكينةٍ ووقارٍ، لا يضربون بأقدامِهم كِبْرًا ولا يخفقون بنعالِهم أشرًا وبطرًا"، رُويَ أنَّ عمر - رضي الله عنه - رأى غلامًا يتبخترُ في مِشيتِه فقال: "إنَّ البخترةَ مشيةٌ تُكْرَهُ إلا في سبيل الله، وقد مدح اللهُ أقوامًا فقال: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان : 63]، فاقصدْ في مشيتِك، وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "هم المؤمنون الذين يَمْشونَ علماءَ حلماءَ ذوي وقارٍ وعِفَّة". والمتواضِعون من المؤمنين، أكرمَهم اللهُ - سبحانه وتعالى - برفيعِ الدَّرجاتِ وأعلى المقاماتِ والمراتب في الدُّنيا والآخرة، ولا يطيب العيشُ في الدُّنيا ولا الحياة في الآخرة، إلا لأهلِ الخضوع والتَّواضع والمنقادين للحقِّ المذْعِنين لهُ، والصَّالحين الْمُصلحينَ الذين لا يُريدون علوًّا في الأرض ولا فسادًا، وأثرُ التَّواضع في المجتمع الإسلامي يبدو واضحًا عندما تتكافَلُ المودُّة بين النَّاس ويكثُرُ التآلفُ والتآخي، والتعاطفُ والتعاونُ والاحترامُ والوفاءُ والصِّدق والإخلاص، والأمة الإسلامية في أشدِّ الحاجةِ إلى الالتزام بالمنهج الإسلامي لتأخذَ طريقَها في الحياة بقوةٍ، وتتمكَّنَ من مواجهة الأخطارِ الْمُحْدِقة بالمسلمين. ألا ما أعظمَ الإسلام وما أجلَّه، وهو يدعو المسْلمينَ إلى التَّواضع كعنصرٍ حيويٍّ وفعَّال في تمامِ الشَّخصية واتِّساق جوانبِها، وما يكونُ لذلك من ثمراتِ البرِّ والمرحمة واللينِ والرِّفق، التي تأخذُ سبيلَها إلى سلوك النَّاس وحياتِهم وتعامُلِهم. تحياتي لكم |
|
03-13-2014, 05:38 PM | #3 |
|
رد: ليـــهـ تتكبر ياَ إبن اَدم
سلمت اياديك على طيب جلبك
الرائع والمميز كتميزك دمتي بكل خير ورضا |
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|
|