الحلقة الأولى:
المختار بن أبي عبيد الثقفي... فترة مضطربة من تاريخ أمتنا!!
رجل سلّطه الله على مستحقين، يقول عن نفسه: إنما أنا رجل من العرب رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة، ومروان على الشأم، فلم أكن دون أحد من رجال العرب.
تعودنا في وطننا العربي أن تؤثر خلافاتنا المذهبية على دراساتنا التاريخية مع أن المؤرخ يجب أن يكون متجرداً وأميناً فيما ينقل، وما أشق على الكاتب أن يتجرد من المؤثرات النفسية التي تؤثر على انفعالاته، وأريد أن أكتب عن هذا الرجل شيعي المذهب، ولكن التشيع في زمنه لم يكن مذهبياً ولا دينياً، بل كان سياسياً في الغالب، تولد عن الخلاف بين علي بن أبي طالب – كرم الله وجهه- ومعاوية بن أبي سفيان، وما تبع ذلك الخلاف من أحداث بين الشأم والعراق، وقد اُتهم المختار بأمور لم أجد دليلاً أنها من معتقداته، بل كانت من ضمن الوسائل السياسية استغلها لجمع الأنصار والوصول للغايات كالقول بالتناسخ وبالرجعة، والقول بالبداء، وأظن أن أعداءه من بني أمية وأبناء الزبير، وقتلة الحسين بن علي رضي الله عنه، قد رموه بكل نقيصة، والذي يتتبع أقواله وقت الشدة والحروب، وهي مواقف تخرج مكنون النفوس، يجد أقوالاً المراد بها الكيد السياسي، كزعمه أن محمد بن الحنفية هو الوصي وهو المهدي المنتظر، وسنستعرض أقواله في هذا الجانب، ونحللها بإنصاف ما استطعت إن شاء الله.
الأمر الذي أميل إليه، أن تصرفات المختار حكمها أمران نفسيان يدفعانه عند الجد إليها دفعاً، الأول تأنيب الضمير جراء تقاعسه عن نصرة الحسين وقد قتل مظلوماً بأسلوب حاقد وضيع، الأمر الثاني رغبته في الحكم والولاية، وقبل الخوض في المركب النفسي الذي حكم تصرفات وأقوال المختار، يجب أولاً أن نعرف به.
هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيره الثقفي من عوف بن ثقيف، وثقيف بطنان، جشم وعوف، ولد في السنة الأولى للهجرة بالطائف، وكنيته أبو إسحاق، والده من مشاهير المسلمين، رغم أنه لم يكن له صحبة، وقد أسلم في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يره، ولم أجد له ذكراً في حياة رسول الله، ولا في حروب الردة، ونجم ذكره فجأة في الأيام الأولى من ولاية عمر بن الخطاب، لعله لم يسكن المدينة إلا في أواخر عهد أبي بكر، ففي الليلة التي توفي فيها أبو بكر قبل صلاة الفجر، خطب عمر الناس وانتدبهم لحرب فارس وإعانة المثنى بن حارثة، فتهيب الصحابة حرب فارس لما عرف عنهم من قهرهم الدول، وأنهم أهل نظام وملك، وظل عمر ثلاثاً ينتدب الصحابة فلا يجيبه أحد، وفي الرابعة قام أبو عبيد وقال أنا لها يا خليفة خليفة رسول الله، ثم ثنى سعد بن عبيد ثم سليط بن قيس، فجمع له عمر ما استطاع وأمره على ذلك الجيش، وعلى المثنى ومن كان معه من المسلمين، فانطلق إلى العراق يفتتح المدن الواحدة تلو الأخرى، وكان رحمه الله مضرب المثل في الشجاعة، فارساً لا يعرف غير الكر، لا يعرف الفرار وتأباه نفسه، جريئاً على الموت، لا يخلو طبعه من حده, وقد ورث المختار عنه هذه الصفات، ولما اجتمع ذلك البعث لحرب فارس، قيل لعمر رضي الله عنه، أمِّر عليهم رجلاً من السابقين، من المهاجرين أو الأنصار، فقال: لا والله لا أفعل إن الله إنما رفعكم بسبقكم وسرعتكم إلى العدو، فإذا جبنتم وكرهتم اللقاء فأولى بالرياسة منكم من سبق إلى الدفع وأجاب إلى الدعاء، والله لا أؤمر عليهم إلا أولهم انتداباً، ثم دعا أبا عبيد وسليطاً وسعداً فقال لسعد وسليط: أما أنكما لو سبقتماه لوليتكما عليه لما لكما من القدمة، فأمر أبا عبيد على الجيش، فخرج أبو عبيد ومعه سعد بن عبيد وسليط بن قيس "من بني النجار" والمثنى بن حارثة الشيباني من شيبان من هند، وكان عدد الجيش الذي تجمع لأبي عبيد ألف رجل، وانضم إليه جيش المثنى، وكانت أول معركة بين المسلمين والفرس بقيادته في الحيرة انتصر فيها المسلمون، ثم معركة كسكر بموقع يقال له السقاطية، انتصر فيها المسلمون كذلك, وغلبوا على كسكر وما حولها، وأذعنت بعض تلك الجهات سلماً على أن يدفعوا الجزية لتسلم بلادهم، ثم معركة باقسياثا وانتصر فيها المسلمون، وبذلك فتح العرب كل ما هو غرب الفرات، ثم جمع الفرس جمعاً كثيفاً، وضموا له سبعة فيلة مدربة على الحرب، تخبط بخراطيمها وتدوس بأقدامها، ولا تفعل فيها السيوف، وكان ذلك الجمع بقيادة بهمن جاذويه، ولم يكن للعرب معرفة بالأفيال، إذ لا فيلة في جزيرة العرب، أنا أكتب هنا بإيجاز, فالمقال عن المختار لا عن أبيه, ولم يكن لقادة جيش أبي عبيد علم بما أعد بهمن جاذويه من أفيال، وبعد أن عسكر جاذويه على ضفة الفرات الشرقية، أرسل أميري مدينة أليس الفارسيين, التي افتتحها المسلمون للسعاية بينه وبين أبي عبيد، وطلب منهما أن يقولا له جاذويه يخيرك بين أن تعبروا إليه، أو يعبروا إليكم، ويضمن لكم عبوراً آمناً، وأوعز إليهما أن يستفزا أبا عبيد، فيقولا له: إن الفرس يعيرونكم بالخوف من العبور إليهم، وذلك من خبث الفرس الذي لم يعرفه العرب بعد، فآلى أبو عبيد أن يعبر إليهم قائلاً: لن يكونوا أجرأ على الموت منا، فعارضه أعوانه سليط وسعد والمثنى، مفضلين الحرب غربي النهر، لأن فيه متسعاً لمجال الخيل، والعرب بارعون في الكر والفر على ظهور الجياد، ولو علم أبو عبيد وأعوانه بأمر الفيلة ما عبروا النهر، لقد اختار جاذويه مكاناً ضيقاً مناسباً لعمل الفيلة، وحين بدأت المعركة لقي المسلمون من الفيلة أذىً شديداً، كان المسلمون إذا حملوا عليها نفرت منها خيولهم، فصاح أبو عبيد بجيشه أن يترجلوا، ثم صاح بهم اقطعوا بُطُن هذه الدواب، فكانوا يتعلقون ويقطعون بطنها، لتهوى رحالها بمن عليها ثم يقتلونهم، فقتلوا كل من على الأفيال، ولم تتوقف الفيلة عن الحرب، لأنها كانت تحارب بمفردها، لا بأوامر ساستها، وكان فيها فيل ضخم أبيض، كان أشدها على المسلمين، فصاح أبو عبيد أما لهذه الدابة من مقتل؟ فقال أحدهم: يقال إذا ضرب مشفرها يريد خرطومها، فهجم أبو عبيد على ذلك الفيل وأراد ضرب خرطومه بالسيف، ويقال إنه تعلق بنابه وضرب خرطومه، فنفحه الفيل بيده، فسقط فداسه, ثم قام عليه، فارتاع جيش المسملين حين رأوا أميرهم تحت قائمة الفيل قد فارق الحياة، وتتابع على ذلك الفيل سبعة قتلهم الواحد بعد الآخر، يقال كلهم من ثقيف، وبالكاد استطاع نفر من جيش أبي عبيد تخليصه من تحت قوائمه, بعد أن ظلوا يحاربون ذلك الفيل لساعات!, فانهزهم المسلمون وأخذوا يجتازون الجسر، فقام رجل من ثقيف بقطع الجسر حتى لا يفروا، فألقى الكثير منهم بأنفسهم في النهر، فاستشهد من المسلمين أربعة آلاف بين قتيل وغريق، بعد أن قتلوا من الفرس خمسة آلاف، وأعاد المثنى ربط الجسر وهو يصيح فيهم على رسلكم، انحازوا إليَّ انحازوا إليَّ، رحم الله أبا عبيد، لقد كان جريئاً على الموت، حسب القارئ أن يعلم أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسف لمقتله، وقال: رحم الله أبا عبيد ما كان عليه لو انحاز إليَّ فأنا فئته، ملمحاً إلى قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفاً لقتال أو متحيزاً إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير} الأنفال، كان ابن الخطاب يتمنى لو هرب أبو عبيد ونجا, ومما يدل على أن أبا عبيد كان محبوباً لدى معاونيه، أن المثنى حزن على موته، وجرد مجموعة من جنده، وذهب إلى مدينة أليس، وأمسك بجابان ومردانشاه وقال لهما: أنتما غررتما بأميرنا واستفززتماه، ثم أمر بضرب أعناقهما، لقد جعلت هذه اللمحة اليسيرة عن أبي عبيد، قائد معركة الجسر مدخلاً لدراسة شخصية ابنه المختار، الذي كثرت حوله الأقاويل، سائلاً الله أن أوفق في تحليلي لشخصيته وحقيقة أمره، وهل كان تشيعه سياسياً مصلحياً، أم أيديولوجياً اعتقادياً، وما قصه مطالبته بدم الحسين؟....
يتبع.....
هادي بن علي بن أحمد أبو عامرية