الحلقة الثالثة:
مؤامرة شيعية أموية وراء مقتل الحسين بن علي سبط رسول الله.
رأى معاوية في أواخر عهده أن يأخذ البيعة لابنه يزيد، حتى يظل الملك في عقبه، فأنكر عليه صحابة رسول الله ذلك، ورأوا فيه مخالفة صريحة للخلافة في الإسلام، وموافقة للقياصرة والأكاسرة في توارث الملك، ومضى معاوية في توريث يزيد ملكه، غير مبالٍ باعتراض المهاجرين والأنصار، فالملك كان غايته منذ كان والياً لأمير المؤمنين ذي النورين، عثمان بن عفان رضي الله عنه، ومعاوية ليس من المهاجرين والأنصار الذين إذا قيل لهم قال رسول الله، تسمرت أقدامهم عند نص الحديث، سيما في أمر الخلافة والملك, بل كان من مسلمي الفتح، وأعجب ممن يساوي بين الإمام علي رضي الله عنه ومعاوية، مخالفين بذلك صريح آيات الكتاب، فالله جل جلاله فضل ابن أبي طالب وإخوانه المهاجرين والأنصار على من أسلم بعد فتح مكة. قال تعالى في سورة الحديد : {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [سورة الحديد:10].
لم يكن معاوية كعمر بن الخطاب الذي أبى أن يكون ابنه ضمن الستة الذين جعل فيهم الخلافة، وقال يكفي آل الخطاب منها واحداً، لذلك مضى معاوية يحمل فضلاء الأمة على البيعة ليزيد بالترهيب، حين لا يكون مناص عن الترهيب، فبايع كثير من صحابة الرسول إما رهباً من معاوية، أو رهبة من وزر اختلاف الأمة، ولكن ثلاثة مات معاوية، ولم يبايعوا ليزيد، وهم : عبد الله بن عمر، والحسين بن علي بن أبي طالب، سيد شباب أهل الجنة، وعبد الله بن الزبير، ابن حواري رسول الله، ولم يكن امتناعهم عن البيعة ليزيد، بسبب مخالفة البيعة لمنهاج أبي بكر وعمر في الاستخلاف، بل لعدم كفاءة يزيد بمعايير الخليفة المسلم، ولمَّا آل الأمر إلى يزيد بعد موت والده، كتب إلى واليه على المدينة "ابن عمه"، الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، أن يضيق عليهم، ويحملهم على البيعة كرها، فاستدعى الوليد الحسين وطلب منه مبايعة يزيد، فقال له: أخرني وأرفق فأمهله، وكان عند الوليد مروان بن الحكم، فقال للوليد والله لإن خرج من عندك الآن ولم يبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً، حتى تكثر القتلى بينكم، أحبس الرجل لا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه، أنظر فقه مروان بن الحكم!, فوثب الحسين وقال يا ابن الزرقاء أنت تقتلني أو هو كذبت، ثم خرج من عند الوليد، وأخذ مروان يعاتب الوليد، وكان الوليد فاضلاً يخاف الله، فقال: سبحان الله أقتل حسيناً إن قال لا أبايع!!، والله إني أظن امرءاً يحاسب بدم حسين، لخفيف الميزان يوم القيامة، وكان لمروان مواقف تنافي الشجاعة, والجبان إذا ولي سلطة تجرأ بها على دماء الخلق، ثم إن الحسين رضي الله عنه خرج إلى مكة، وقد سبقه إليها ابن الزبير، وكان والي مكة ليزيد، عمرو بن سعيد بن العاص، وكان دخول الحسين مكة ثالث أيام شعبان، ومكث بها شعبان ورمضان وشوال وذي القعدة، وفي يوم التروية الثامن من ذي الحجة، خرج منها إلى الكوفة، ماراً بالمدينة المنورة، وحين كان الحسين بمكة، اختلفت عليه وفود الحجازيين، واشرأبت إليه الأعناق، وكان رجل الحجاز الأوحد، لذلك لم يُرَعْ من أحد، وكان والي مكة ليزيد عمرو بن سعيد بن العاص رفيقاً به، وكان ابن الزبير ممن يختلف إليه, ثم قرر الحسين الخروج من مكة إلى الكوفة لسببين، ثانيهما خشيته أن يهاجمه يزيد بن معاوية في مكة فيكون ذلك الكبش الذي يستحلها، وقد وعى عن أبيه أن لها كبشاً تستحل به حرمتها، وأول أسباب اتخاذه قراراً بالخروج إلى العراق مكاتبات أهل العراق له، تحمل بيعتهم ووعدهم بنصرته والموت بين يديه، وما كان يزيد من سوء التدبير بحيث يهاجم الحسين بمكة، وقلوب أهل الحجاز معه، لذلك يرتاب الباحث في أمر تلك المكاتبات، ويدور في خلده، أن وراءها مكيدة شيعية أموية، وفي أحداث مقتل حسين ما يشير بل يؤكد هذه المكيدة، الذين كاتبوا حسيناً وطالبوه بالقدوم شبث بن ربعي وحجار بن أبجر وقيس بن الأشعث ويزيد بن الحارث، وجميع هؤلاء من رجال عبيد الله بن زياد، وهذا يدل على أن خروج حسين كان عن مكيدة وتغرير من خصومه وشيعته، ما كان خروجاً على حاكم ظالم أو عادل، وأميل إلى أن المؤامرة كانت تقضي أن يقتل الحسين خارج الحجاز، ولكنهم ارتكبوا في قتله أسلوباً يدل على خسة جبلة، وسنرى ذلك لاحقاً، وسنجد في أقوال يزيد بن معاوية إقراراً بهذه المؤامرة الدنيئة التي أخرجت حسيناً ليقتل في فلوات العراق، وكان مقتله العامل الأبرز في تفريق أمة محمد إلى فرقتين متناحرتين, يذكى أوار اختلافها اليهود والنصارى، ويضيف المؤرخ المتهم بالتشيع أحمد بن أعثم أسماء أخرى، ممن كتب للحسين يطالبه بالقدوم إلى العراق، وعددهم خمسة، سليمان بن صرد الخزاعي، والمسيب بن نجبة الفزاري، ورفاعة بن شداد البجلي، وعبد الله بن وآل التيمي، وجميع هؤلاء كانوا في جيش الإمام علي، ولكنهم كغيرهم من المتشيعين، قعدوا عن نصرة مسلم بن عقيل، حين أرسله الحسين إلى الكوفة، يستجلي له خبر مبايعة أهل العراق، وكانوا على علم بما حل به, لأن الحسين رضي الله عنه حين عزم المسير، أرسل إلى ابن عمه في المدينة، مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وطلب منه التوجه إلى الكوفة، للتثبت من أمر أصحاب تلك الخطابات، وصدق عزمهم على نصرته إذا هو توجه إليهم، وقد صدع مسلم بالأمر وتوجه إلى الكوفة، ووصلها بعد مشقة، ونزل دار المختار بن أبي عبيد، حيث كان المختار في بيت له في قرية اسمها لقفا، وأخذ مسلم يجتمع سراً بالشيعة، ولكن حركاته كانت مرصودة من قبل عبيد الله بن زياد وعيونه، وتحول من دار المختار إلى دار هانئ بن عروة المرادي، وجمع مسلم اثني عشر ألف توقيعاً كلهم يبايعون حسيناً، ويقسمون على نصره إن قوتل، ولما استوثق مسلم منهم، كتب للحسين ان أقدم، فخرج الحسين بأبنائه وأبناء أخيه، خرج بحريمه وعياله، ولم يكن خروجه سراً، فانتهى خبره إلى يزيد وإلى عبيد الله بن زياد، فكتب يزيد إلى عبيد الله يأمره بسابق ما اتفقوا عليه، من قتل مسلم بن عقيل والحسين بن علي، وقد حاول أناس من صحابة رسول الله أن يثنوا الحسين عن الخروج إلى العراق فلم يسمع لهم قولاً، ثقة بما كتب له به مسلم بن عقيل، ولا يلام الحسين في تصديقه تلك الكتب, فالمؤمن إذا قال صدق, وإذا قيل له صدق, إنما يلام من وعده وغرر به, وممن حاول ثني الحسين عما عزم عليه, عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وذهب عبد الله بن جعفر بن أبي طالب إلى والي مكة عمرو بن سعيد بن العاص، وطلب منه أن يؤمن حسيناً، كي يقيم بمكة فأمنه، وكان عمرو بن سعيد يتخوف على حسين خروجه إلى العراق، ولكن حسيناً كان يسير إلى مكيدة محكمة، صادفت قدراً مقدوراً، حتى إذا اقترب موكب الحسين من الكوفة، استدعى عبيد الله بن زياد هانئ بن عروة المرادي، الذي تحول مسلم إلى داره، يسأله عن مسلم فأنكر علمه به، ثم لم يجد بداً من الاعتراف، وفي سبب هذا الاستدعاء تعددت الروايات، وإذا تتبعها الباحث يجد معظمها يصنف في ألاعيب السياسة، وأنها مصنوعة للتعمية على العيون التي بثها عبيدالله لرصد حركة مسلم بن عقيل، كي تبقى شخوصهم سرية, وأول هذه الروايات رواية ابن كثير، التي يقول فيها: إن هانئ بن عروة استدعى عبيد الله إلى داره، وقد اتفق هو ومسلم على قتله إذا حضر، وحضر عبيدالله, ولكن مسلم تردد ففطن للأمر عبيد الله، وقام من وقته وساعته، واستدعى هانئ وسأله أن يسلم مسلم بن عقيل فأبى، فأمر به فسجن حتى أُحضر مسلم فضرب أعناقهما، ورمي برأسيهما من شرفات القصر.
لا شك أن دعوة عبيدالله إلى دار هانئ مختلقة، فما كان لعروة أن يقتل عبيد الله في داره، وخير من ذلك أن يجيش عليه الشيعة، ويهاجم قصره، وقد سبق هذه الحادثة كتاب يزيد إلى عبيد الله، ينذره وجود مسلم في الكوفة، ويأمره بقتله، فما كان أمر مسلم غائباً عنه, حتى يستدعى إلى دار هانئ, فينطلي عليه الأمر, ويستوحي من هذه القصة التستر على عيون عبيد الله، الذين كلفهم رصد حركات مسلم، حتى يبدو الأمر وكأن لا عيون لعبيد الله، ينتقم منهم قوم هانئ، أما بنو هاشم فليس منهم بالعراق أحد، ثم تختلف الروايات في مسلم بن عقيل، فمن قائل أنه حين سمع أن عبيد الله حبس هانئ ابن عروة، نادى بشعاره، فاجتمع له اثني عشر ألفاً, وقيل أربعة آلاف, في إحدى الساحات القريبة من قصر عبيد الله، فكانت تأتي الواحد أمه فتثبطه، ويأتيه أبوه فيرده، ويأتيه أخوه فيثنيه، فلازالوا يتناسلون، حتى بقي مسلم وحده، فذهب يهيم على وجهه حتى دخل بيت امرأة من كندة، وقد هجم الظلام، ولو أن الأمر كذلك لخطب مسلم على أقل تقدير في ذلك الجمع خطبة تؤثر عنه، ولم يؤثر عنه خطبة أو توجيه, وأنا أميل إلى الرواية التي تقول: إنه اجتمع لمسلم جماعة قليلة من الشيعة ليلاً في أحد المساجد، مستترين بالظلام، وجاءت عبيد الله عيونه بالخبر، فأمر أن توقد نار على سطح منزل مجاور، فكشفتهم وعلموا أن أمرهم انكشف، وخلال ذلك أحاط بهم شبث بن ربعي والأشعث والقعقاع بن شور، في جماعة تفوقهم عدداً، فقاتلوهم قتالاً شديداً دفاعاً عن أنفسهم، لأنهم كانوا محاصرين، ثم أشير على شبث بن ربعي، أن يفسح لهم مجالاً للهرب، فهربوا وذهب مسلم وقد أصيب بجراحات في طرقات الكوفة، ودخل بيت امرأة من كندة، هذا شبث بن ربعي ممن كتب إلى الحسين أن يقدم إلى العراق، وهذا يرجح قولي إن الأمر مكيدة من عبيد الله بن زياد، ويزيد بن معاوية, ومن بعض الشيعة طمعاً بالمال، ولم يشعر مسلم إلا وقد أحاطوا ببيت الكندية، فخرج إليهم بسيفه، وأمسكوا به بعد أن قتل منهم اثنين، وبعد أن أثخن بالجراح, لأنهم اكتفوا برميه بالحجارة والنبال, ويقال إنهم أمنوه فمكنهم من نفسه، فقدموه إلى عبيد الله فضرب عنقه، وألقى برأسه ورأس هانئ بن عروة، من فوق سطح قصره، وإذا صح هذا الخبر، فإن عبيد الله بن زياد، وشبث بن ربعي، وأعوانه لا أخلاق لهم ولا رجولة ولا شهامة، فقد كان العرب زمن عبادة الأوثان، إذا أمنوا محارباً لم يقتلوه، وكان يجير الواحد على القبيلة، بل وتجير المرأة على الرجال, ثم أن عبيد الله بن زياد أرسل إلى يزيد بن معاوية، برأسي مسلم وهانئ، وكتب معهما هذا الخطاب الذي يؤكد ما ذهبت إليه، من أمر المكيدة.
أما بعد فالحمد لله الذي أخذ لأمير المؤمنين بحقه، وكفاه مؤنة عدوه، وأُخْبر أمير المؤمنين أكرمه الله، أن مسلم بن عقيل، لجأ إلى دار هانئ بن عروة المرادي، وإني جعلت عليهما العيون، ودسست إليهما الرجال، وكدتهما حتى استخرجتهما، وأمكن الله منهما، فقدمتهما فضربت أعناقهما.
وقد رد عليه يزيد يشكره، ويخبره أن الحسين في الطريق إليه.
هادي بن علي بن أحمد أبوعامرية.