ضرب غلام مؤمن بالرب
فأخذت أم وهب امرأته عموداً وأقبلت نحوه تقول: فداك أبي وأمي قاتل دون ذرية محمد، فأقبل إليها يردها نحو النساء، فأخذت تجاذبه ثوبه وهي تقول: لن أدعك دون أن أموت معك، فناداها حسين قائلاً: جزيتم من أهل بيت خيراً، رجعي إلى النساء رحمك الله، فإنه ليس على النساء قتال، فانصرفت إليهن، ليت شعية العراق كانوا نساءً، ولكن مثل هذه المرأة، اثنان وثمانون ألفاً، لم يخرج منهم أحد لنصرة الحسين، كيف استطاع هذا الكلبي وزوجته الخروج من الكوفة ونصرة الحسين، لقد غدروا بابن بنت رسول اللهم، هم بنو أمية.
ثم هجمت ميمنة جيش عمر بن سعد على الحسين، بقيادة عمرو بن الحجاج فجثا أنصار حسين على الكرب، وأشرعوا الرماح نحوهم، فلم تقدم الخيل، ولا يمكنني أن أسرد كامل أحداث المعركة، وسأكتفي بتقديم صور تبين شجاعة الحسين وأصحابه، وانتفاء المروءة وأخلاق الشجعان عن عمر بن سعد وجيشه وأميره عبيد الله بن زياد، في نقد محايد يعتمد المنطق والعقل دون سواهما، وبدون أي تحامل بل باستقراء الأحداث بإنصاف وحيدة.
استمرت المبارزة، وكان جماعة حسين ظاهرين، ما خرج لهم رجل من جيش عمر بن سعد إلا قتلوه، وممن طلب المبارزة الحصين بن تميم طلب مبارزة الحر بن يزيد، فبرز له الحر واختطف روحه في لمحة البرق، وأخذ يجول يقتل ويجرح في جيش عمر بن سعد، وكان نافع بن هلال المرادي يجول ويقول: أنا الجملي أنا على دين علي، فخرج له رجل يقال له مزاحم بن حريث فمال عليه نافع فقتله في ومضة البرق, فصاح عمرو بن الحجاج في جيش عمر بن سعد، وكان على الميمنة، يا حمقى أتدرون من تقاتلون، إنكم تقاتلون فرسان المصر قوماً مستميتين، ألا لا يبرزن لهم أحد فإنهم قليل، والله لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم، فسمعه عمر بن سعد فاستحسن رأيه ومنع جيشه من المبارزة، ثم إن عمرو بن الحجاج هجم عليهم من نحو الفرات، فجال فيهم أصحاب الحسين يَقْتُلون ويُقْتَلون، فإذا قتل الواحد من أصحاب الحسين ظهر فيهم الخلل لقلتهم، وإذا قتل الثلاثة من جيش سعد لم يظهر فيهم أي نقص لكثرتهم, وحين عمد جيش عمر بن سعد إلى الرمي والتوقف عن المجالدة والمبارزة والالتحام، عقرت معظم خيول أصحاب حسين، وكانت في حدود أربعين فرساً أو تزيد قليلاً، ولم يزل أصحاب حسين يسقطون بين يديه، وأراد شمر بن ذي الجوشن حرق خيام حسين بما فيها من نساء وصبية، حتى يهاجمهم من الخلف، فعيره بعض أصحابه فأمسك عن حرق الخيام، وهذا الفعل يريك سوء أخلاق جيش الكوفة وجبنهم، ورذالة طباعهم، فالعرب في جاهليتهم لم يكونوا في مثل هذه الرذالة.
ومن الصور المأساوية الدالة على خسِّة جيش عبيد الله بن زياد، أن عبد الله بن مسلم بن عقيل، وكان غلاماً حدثاً غير محارب، خرج من الخيام، فانهال عليه جيش عمر بن سعد بالسهام، فكان يتقي السهام بكفه، فرماه رجل من صُداء اسمه عمرو بن صبيح الصُّدائي، فشك كفه بجبهته، ثم راح ينضنض السهم وقد بلغ دماغ الغلام، ليخرجه فيعاود استعماله، وذهب يفخر بذلك، لو كان الحسين يهودياً، أو نصرانياً أو مرتداً عن دين الله، ما جاز أن يقتل صبيته على الوجه الذي أسلفت ولا على أي وجه غيره، فكيف وقد كان الحسين عابداً زاهداً ناسكاً، عالماً بالكتاب والسنّة، عاملاً بهما، لم يخرج على السلطان، وكل ما يقال في هذا الجانب محض افتراء من بني أمية، يسوغون به فعلتهم, جريرة الحسين الوحيدة, عدم مبايعة يزيد بن معاوية، وهذا الذنب لا يوجب حد القتل، وحقيقة الأمر أن بني أمية يكرهون بني هاشم، لأنهم إذا نظروا إليهم تصاغرت في أعينهم أنفسهم، فلا يذكر بنو هاشم, إلا ويذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمزة والعباس وعلي بن أبي طالب، وجعفر الطيار بن أبي طالب، وسيدا شباب أهل الجنة الحسن والحسين، ومن الصور المقززة التي ارتكبها جيش بني أبي سفيان بن أمية ضد صبية الحسين وأطفاله، أن القاسم بن الحسن بن علي وكان يافعاً في ربان الحداثة, خرج وفي يده سيف ينوء بحمله، فمال عليه رجل من الأزد اسمه عمرو بن سعد بن نفيل فضربه على رأسه، فصاح الغلام يا عماه ووقع لوجهه، فشد الحسين على عمرو كأنه الصقر، أو ليث أغضب, رغم الإرهاق والعطش والجراح، فضربه على رأسه، فاتقاها بالساعد فأطنها من المرفق، فصاح عمرو، فأرادت جماعة من جيش الكوفة سحبه وإنقاذه، فجالت عليه الخيل فتوطأته بحوافرها حتى قتلته، يقال وانجلت الغبار عن الحسين واقفاً عند رأس الغلام، والغلام يفحص برجله, فحمله على صدره ورجلاه تخطان، حتى وضعه مع إخوته القتلى الغلمان والصبية، وصور أخرى للمعركة أخزى من الصور الآنفة، من أراد الإطلاع عليها, فليرجع لكتب المؤرخين السنة, ولم يزل أصحاب الحسين وصبيته يتساقطون حتى بقي الحسين وحده، فكيف كان موقفه؟
روى الطبري عن الحجاج بن عبد الله بن عمار البارقي قال: انتهيت إلى الحسين وأنا أريد طعنه ولو شئت لطعنته، وقلت ما أصنع بقتله يقتله غيري، قال: فشد عليه رجالة ممن عن يمينه وشماله، فحمل على من عن يمينه حتى ابذعرُّوا وعلى من عن شماله حتى ابذَعَرُّوا، فو الله ما رأيت مكسوراً قط, قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه، ولا أمضى جناناً، ولا أجرأ مقدماً، ما رأيت قبله ولا بعده مثله، إن كانت الرجالة لتنكشف عن يمينه وشماله، انكشاف المعزى شد عليها الذئب.
هكذا كان الحسين في ذلك الموقف، وسوف نستعرض في هذا البحث لاحقاً موقف عبيد الله بن زياد وشمر بن ذي الجوشن ومروان بن الحكم، وقد نزل بهم ما هون أيسر كثيراً مما نزل بالحسين، وشَمِر ينطقه الناس بفتح الشين المعجمة وفتح الميم المشددة، والصواب بفتح الشين وكسر الميم المخففة، فقد كان اسم أحد ملوك اليمن شَمِر مرعش، يقال هو من بنى مدينة شمرقند، ثم عربت فسميت سمرقند، وهذا يعني أن اسم شَمِر كان معروفاً لدى العرب، أو يكون اسم ابن ذي الجوشن شَمْر بفتح الشين وسكون الميم، ورجل شَمْرُ، أي حاذق بصير بالأمور، أما شمر بتضعيف الميم المفتوحة، ففعل ماضي يعني جد في العمل، من تشمير الساق والساعد، والعرب لا تسمى بالأفعال بل بالصفات أحياناً.
وأجهد الحسين العطش فركب المسناة يريد الفرات ليشرب، فحالوا بينه وبين الماء، ثم إن أحد بني أبان بن دارم، رمى الحسين بسهم وقد بلغ الماء فأصاب حنكه، فانتزع الحسين السهم، فأخذ الدم يفور من فيه، فيملأ كفيه بالماء, فيمتلآن دماً قبل أن يبلغ فيه!!, فلا يستطيع الشرب، فلما أعيا الحسين وكثرت جراحاته، أسند إلى خيمة وجئ إليه بأحد أطفاله، فرمى أحدهم الطفل بسهم فقتله، سبحان الله!!، لا إسلام ولا رجولة، ثم جاء شمر بن ذي الجوشن في رجالة، وأخذ يحرضهم على قتل حسين، فاحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم، فأخذ يقاتلهم بسكين بعد أن فقد سيفه، فتعاضد ثلاثة نفر، عروة بن بطار التغلبي، وزيد بن رُقَاد الجنبي، وسنان بن أنس النخعي، وهو من احتز رأسه، فَضُرب الحسين على رأسه وعاتقه، فلما أخذ ينوء ويكبو بادروا إلى سلبه ثيابه، وراحوا ينازعون نساء بني هاشم ثيابهن، قبحها الله فعلة من بني أمية، وطغام العرب ورعاعهم الذين آزروهم من عبدة الدرهم والدينار.
ثم إن عمر بن سعد احتز رؤوس أصحاب الحسين وصبيته ورأس الحسين، فكانت ثمانية وسبعين رأساً, وسيرها إلى عبيد الله بن زياد، الذي سيرها بدوره إلى يزيد بن معاوية الذي فرح بها فرحاً شديداً, وإن كان في تسيير ثمانية وسبعين رأساً, من الكوفة إلى الشام نظر!!, وقد يكون رأس الحسين وحده سير إلى الشام, إلى يزيد بن معاوية.
الذي لابد من إيضاحه، وإعادته وتكراره، أن الحسين لم يخرج على بني أمية، بل خرج مغرراً به منهم، وبمكيدة صنعها يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد، ليستحلوا دماء بني هاشم، فيخلو لهم وجه الخلافة، مخافة أن تميل الأفئدة إلى أبناء فاطمة يوماً، وشاهد هذا القول ما رواه الطبري عن حبيب الجرمي، بفتح الجيم، قال: لما قتل عُبيدالله بن زياد الحسين بن علي وبني أبيه، بعث برؤوسهم إلى يزيد بن معاوية فسر بقتلهم أولاً، وحسنت بذلك منزلة عبيد الله عنده، ثم لم يلبث إلا قليلاً حتى ندم، فكان يقول: لعن الله ابن مرجانة فإنه أخرج حسين واضطره وقتله، فبغضني بقتله إلى المسلمين، فبغضني بقتله البر والفاجر، بما استعظم الناس من قتلي حسيناً، وهذا القول لا يترك مجالاً لتقول السبائية إن حسيناً خرج على الظلم، وينفي قول من يدّعي أن حسيناً خرج مطالباً بالخلافة، لأن علياً وأبناؤه من بعده أحق بها, لم يكن علي رضي الله عنه يرى أنه أحق بالخلافة, إلا لأنه خليفة مبايع, ولقد تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية, ولم يؤثر عن الحسين مطالبة بالخلافة!!, حتى كانت مكيدة يزيد وعبيدالله له آنفة الذكر, ففرقوا بقتل الحسين كلمة المسلمين, وجعلوا للسبائية مجالاً للإفتراء, حتى نال الخلاف جوهر العقيدة, وإذا كان لأحد أن يغضب لمقتل الحسين, فنحن أهل السنة!!, فنحن على سنة جده ومنهاج أبيه, ونحن في جزيرة العرب, وفي المملكة خاصة, أقرب إليه نسباً ورحمى!!, فإذا قيل قريش فنحن!!, وإذا قيل كنانة فنحن!!, وإذا قيل خندف فنحن!!, وإذا قيل ذرية إسماعيل فنحن!!, أما من يدعون الانتساب إليه في الدول غير العربية المجاورة, من السبائية والمتشيعة وأمثالهم, فأنساب نعرف كيف صنعت؟!!!, وقد يكون تسيير الرؤوس إلى يزيد بن معاوية من زيادات الشيعة, ولكن ندم يزيد على قتله الحسين غير مستبعد, ليس جراء تذكره القربى, فذلك كذب سياسي أريد به تجميل وجه قبحه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حرمة المدينة التي استحلها يزيد, ولكن ندمه لما رأى من انتفاض أقطار دولته عليه, في العراق والحجاز, فندمه من أجل الملك, لا من أجل الدين ولا القرابة!!.
يتبع خروج المختار مطالباً بدم الحسين.....
هادي بن علي بن أحمد أبو عامرية..