مختصر لمجمل أقوال المفسرين
قبل أن نبدأ في الإبحار ، في معاني ومقاصد آيات سورة الإسراء ، سنتجول قليلا ، في بعض كتب قدماء المفسّرين ، لنستعرض مجمل تفسيراتهم ، لهذه الآيات ، ومجمل ما أوروده من روايات وآثار ، عن الإفساد والعلو في الأرض ، ووعديّ الأولى والآخرة ، ومن هؤلاء المفسرين : القرطبي وابن كثير والطبري والبيضاوي ، والبغوي والنحاس والثعالبي ، وأبي السعود والشوكاني وابن الجوزي ، والسيوطي والنسفي والألوسي .
تعريف بسورة الإسراء :
قال الألوسي في تفسيره : " سورة بني إسرائيل ، ( وهو الإسم التوقيفي لها ) وتسمى الإسراء وسبحان أيضا ، وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير ، رضي الله تعالى عنهم مكية ، وكونها كذلك بتمامها قول الجمهور . وقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، أنه قال : (( إن التوراة كلها في خمس عشرة آية ، من سورة بني إسرائيل ، وذكر تعالى فيها عصيانهم وإفسادهم ، وتخريب مسجدهم واستفزازهم النبي ، وإرادتهم إخراجه من المدينة ، وسؤالهم إياه عن الروح ، ثم ختمها جل شأنه ، بآيات موسى عليه السلام التسع ، وخطابه مع فرعون ، وأخبر تعالى أن فرعون أراد أن يستفزهم من الأرض ، فأهلك وورث بنو إسرائيل من بعده ، وفي ذلك تعريض بهم ، أنهم سينالهم ما نال فرعون ، حيث أرادوا بالنبي ، ما أراد فرعون بموسى عليه السلام وأصحابه ، ولما كانت هذه السورة ، مصدرة بقصة تخريب المسجد الأقصى ، افتتحت بذكر إسراء المصطفى تشريفا له – أي المسجد الأقصى - بحلول ركابه الشريف فيه ، جبرا لما وقع من تخريبه )) " .
الآيات :
قال تعالى ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَــابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7 ) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8 ) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10) وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا (11) … وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12 الإسراء )
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ : وأوحينا إليهم في التوراة ، وحيا مقضيا مبتوتا .
لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ : لتفسدن في الأرض ، جواب قسم محذوف ، والمراد بالأرض الجنس ، أو أرض الشام وبيت المقدس ، ومرتين إفسادتين .
وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا : ولتستكبرن عن طاعة الله ، من قوله أن فرعون علا في الأرض ، والمراد به البغي والظلم والغلبة ، لتستكبرن عن طاعة الله تعالى ، أو لتغلبن الناس بالظلم والعدوان ، وتفرطن في ذلك إفراطا مجاوزا للحد ، وأصل معنى العلو الارتفاع ، وهو ضد السفل وتجوّز به عن التكبر ، والاستيلاء على وجه الظلم .
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5)
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا : والوعد بمعنى الموعود ، مراد به العقاب ، وفي الكلام تقدير ، أي فإذا حان وقت حلول العقاب الموعود ، وقيل الوعد بمعنى الوعيد ، وفيه تقدير أيضا ، وقيل بمعنى الوعد الذي يراد به الوقت ، أي فإذا حان موعد عقاب أولى الإفسادتين .
بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا : البعث بالتخلية وعدم المنع ( البيضاوي ) ، وقال الزمخشري : " خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم وفيه دسيسة اعتزال " ، وقال ابن عطية : " يحتمل أن يكون الله تعالى ، أرسل إلى ملك أولئك العباد رسولا ، يأمره بغزو بني إسرائيل ، فتكون البعثة بأمر منه تعالى " .
أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ : ذوي قوة وبطش في الحروب ، والبأس والبأساء في النكاية ، ومن هنا قيل ، إن وصف البأس بالشديد مبالغة .
فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ : قال الجوهري " الجوس مصدر ، وقولك جاسوا خلال الديار ، أى تخللوها كما يجوس الرجل للأخبار أى يطلبها " ، أي عاثوا وافسدوا وقتلوا وتخللوا الأزقة بلغة جذام ، بمعنى الغلبة والدخول قهرا ، وقال الزجاج : " طافوا خلال الديار ينظرون هل بقي احد لم يقتلوه "، والجوس طلب الشيء باستقصاء ، وقال الألوسي : " والجمهور على أن في هذه البعثة ، خرب هؤلاء العباد بيت المقدس ، ووقع القتل الذريع والجلاء والأسر في بني إسرائيل ، وحرقت التوراة " .
وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا : قضاء كائنا لا خلف فيه ، وكان وعد عقابهم لا بد أن يفعل ، أي لا بد من كونه ، مقضيا أي مفروغ منه .
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6)
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ : ثم للعطف ، وتفيد التراخي في الزمن ، يقول الألوسي " جعل رَدَدَنا ، موضع نَرُدُّ ، فعبر عن المستقبل بالماضي " ، ويُضيف في تفسير قوله تعالى ( ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ) ، أي رددنا الإنسان أسفل سافلين من النار ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، فلهم أجر غير ممنون بعد البعث والجزاء " ، وهذه الكرة بعد الجلوة الأولى ، أي الرجعة والدولة والغلبة ، على الذين بُعثوا عليكم .
وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ : أعطاهم الله الأموال والأولاد .
وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا : والنفير أي القوم الذين يجتمعون ، ليصيروا إلى أعدائهم فيحاربوهم ، وهم المجتمعون للذهاب إلى العدو ، أي أكثر رجالا من عدوكم ، والنفير من ينفر مع الرجل من عشيرته .
إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7)
إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا : وهذا الخطاب قيل أنه لبني إسرائيل الملابثين ، لما ذكر فى هذه الآيات ، وقيل لبني إسرائيل الكائنين في زمن محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، ومعناه إعلامهم ما حل بسلفهم فليرتقبوا مثل ذلك ، وأن إحسان الأعمال وإساءتها مختص بهم ، والآية تضمنت ذلك ، وفيها من الترغيب بالإحسان ، والترهيب من الإساءة ، ما لا يخفى فتأمل .
فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ : أى حضر وقت ما وعدوا من عقوبة المرة الآخرة ، وجواب إذا محذوف تقديره بعثناهم لدلالة جواب إذا الأولى عليه ، فالظاهر فإذا جاء وإذا جاء للدلالة ، على أن مجيء وعد عقاب المرة الآخرة ، لم يتراخ عن كثرتهم واجتماعهم ، دلالة على شدة شكيمتهم في كفران النعم ، وأنهم كلما ازدادوا عددا وعدة ، زادوا عدوانا وعزة ، إلى أن تكاملت أسباب الثروة والكثرة ، فاجأهم الله عز وجل على الغرّة ، نعوذ بالله سبحانه من مباغتة عذابه .
لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ : اللاملام كي ، وليسوءوا متعلق بفعل حُذف لدلالة ما سبق عليه ، وهو جواب إذا ، أي بعثناهم ليسوءوا وجوهكم ، أي ليجعل العباد المبعوثون ، آثار المساءة والكآبة بادية في وجوهكم ، إشارة إلى أنه جمع عليهم ألم النفس والبدن .
وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ : اللام لام كي ، والضمير للعباد أولى البأس الشديد ، والمسجد مسجد بيت المقدس ، قال الألوسي : " فإن المراد به بيت المقدس ، وداود عليه السلام ابتدأ بنيانه ، بعد قتل جالوت وإيتائه النبوة ، ولم يتمّه ، وأتمّه سليمان عليه السلام ، فلم يكن قبل داود عليه السلام مسجد حتى يدخلوه أول مرة ، ودفع بأن حقيقة المسجد الأرض لا البناء ، أو يحمل قوله تعالى دخلوه على الاستخدام ، والحق أن المسجد كان موجودا ، قبل داود عليه السلام كما قدمنا " .
كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ : كما دخلوه أي دخولا كائنا ، كدخولهم إياه أول مرة ، قال الألوسي: " والمراد من التشبيه أنهم يدخلونه بالسيف والقهر والغلبة والإذلال ، وفيه أيضا أن هذا يبعد قول ، من ذهب إلى أن أولى المرتين ، لم يكن فيها قتال ولا قتل ولا نهب " .
وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا : أي ليدمروا ويخربوا والتبار الهلاك ، وليتبروا أي يدمّروا ويهلكوا ما غلبوا عليه من بلادكم ، أو مدة علوهم ، أي ما علوا عليه من الأقطار وملكوه من البلاد ، وقيل ما ظرفية والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد ، تتبيرا أي تدميرا ، ذُكرَ المصدر إزالة للشك وتحقيقا للخبر ، ما علوا مفعول لتبروا ، أي ليُهلكوا كل شيء غلبوه واستولوا عليه ، أو بمعنى مدة علوهم .
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ : لبقية بني إسرائيل عسى ربكم ، إن أطعتم في أنفسكم واستقمتم أن يرحمكم ، وهذه العودة ليست برجوع دولة ، وإنما هي بأن يرحم المطيع منهم ، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى ومحمد عليهما السلام .
( ذلك لأن المتقدمين من المفسرين اعتبروا أن تحصّل المرتين ، كان قبل بعثهما عليهما السلام ) .
وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا : وإن عدتم للإفساد بعد الذي تقدم ، عدنا عليكم بالعقوبة فعاقبناكم في الدنيا ، بمثل ما عاقبناكم به في المرتين .
وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا : أي محبوسون في جهنم لا يتخلصون منها .
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ : أي إلى الطريقة التي هي أصوب ، وقيل الكلمة التي هي أعدل .
وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا : أي يُبشّر بما اشتمل عليه من الوعد بالخير ، آجلا وعاجلا للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، ويراد بالتبشير مطلق الإخبار ، أو يكون المراد منه معناه الحقيقي ، ويكون الكلام مشتملا على تبشير المؤمنين ببشارتين ، الأولى ما لهم من الثواب ، والثانية ما لأعدائهم من العقاب .
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
وهو عذاب جهنم ، أي أعددنا وهيأنا لهم ، فيما كفروا به وأنكروا وجوده من الآخرة ، عذابا مؤلما وهو أبلغ من الزجر ، لما أن إتيان العذاب من حيث لا يحتسب أفظع وأفجع ، ولعل أهل الكتاب داخلون في هذا الحكم ، لأنهم لا يقولون بالجزاء الجسماني ، ويعتقدون في الآخرة أشياء لا أصل لها ، فلم يؤمنوا بالآخرة وأحكامها المشروحة ، في هذا القرآن حقيقة الإيمان ، والعطف على أن لهم أجرا كبيرا ، فيكون إعداد العذاب الأليم ، للذين لا يؤمنون بالآخرة مبشرا به ، كثبوت الأجر الكبير للمؤمنين الذين يعملون الصالحات ، ومصيبة العدو سرور يُبشّر به ، فكأنه قيل يبشر المؤمنين بثوابهم وعقاب أعدائهم ، ويجوز أن تكون البشارة مجازا مرسلا ، بمعنى مطلق الأخبار الشامل للأخبار بما فيه سرور للمؤمنين .
وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا (11)
وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرِّ : ويدعو الإنسان على ماله وولده ونفسه بالشر ، فيقول عند الغضب : اللهم العنه وأهلكه ونحوهما .
دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ : أي كدعائه ربه بالخير ، أن يهب له النعمة والعافية ، ولو استجاب الله دعاءه على نفسه لهلك ، ولكن الله لا يستجيب بفضله .
وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا : بالدعاء على ما يكره أن يُستجاب له فيه ، قاله جماعة من أهل التفسير ، وقال ابن عباس : ضجرا لا صبر له على السراء والضراء .
وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12) :
أي كل ما تفتقرون إليه فى أمر دينكم ودنياكم ، فصلناه تفصيلا : بيناه تبينا لا يلتبس معه بغيره ، أي بيناه بيانا غير ملتبس ، فأزحنا عللكم وما تركنا لكم حجة علينا .
أقوال المفسرين في المبعوثين أولا وثانيا
من تفسير القرطبي :
" بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد ، هم أهل بابل ، وكان عليهم بختنصر في المرة الأولى ، حين كذبوا إرمياء وجرحوه وحبسوه ، قاله ابن عباس وغيره ، وقال قتادة : أرسل عليهم جالوت فقتلهم ، فهو وقومه أولوا بأس شديد ، وقال مجاهد : جاءهم جند من فارس ، يتجسسون أخبارهم ومعهم بختنصر ، فوعى حديثهم من بين أصحابه ، ثم رجعوا إلى فارس ولم يكن قتال ، وهذا في المرة الأولى فكان منهم جوس خلال الديار لا قتل ، ذكره القشيري أبو نصر ، وذكر المهدوي : عن مجاهد أنه جاءهم بختنصر ، فهزمه بنو إسرائيل ثم جاءهم ثانية ، فقتلهم ودمرهم تدميرا ، ورواه ابن أبي نجيح عن مجاهد ذكره النحاس ، وقال محمد بن إسحاق في خبر فيه طول : إن المهزوم سنحاريب ملك بابل ، جاء ومعه ستمائة ألف راية تحت كل راية ألف فارس ، فنزل حول بيت المقدس فهزمه الله تعالى ، فرجعوا إلى بابل ، ثم مات سنحاريب بعد سبع سنين ، واستخلف بختنصر وعظمت الأحداث في بني إسرائيل ، واستحلوا المحارم وقتلوا نبيهم شعيا ، فجاءهم بختنصر ودخل هو وجنوده بيت المقدس ، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم ، وقال ابن عباس وابن مسعود : أول الفساد قتل زكريا ، وقال ابن إسحاق : فسادهم في المرة الأولى قتل شعيا نبي الله في الشجرة ، وذكر ابن إسحاق : أن بعض العلماء ، أخبره أن زكريا مات موتا ، ولم يقتل وإنما المقتول شعيا ، وقال سعيد بن جبير : في قوله تعالى ( ثم بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار ) هو سنحاريب من أهل نينوى بالموصل ملك بابل ، وهذا خلاف ما قال ابن إسحاق ، فالله أعلم وقيل : إنهم العمالقة وكانوا كفارا قاله الحسن .
من تفسير ابن كثير :
وقد اختلف المفسرون من السلف والخلف ، في هؤلاء المسلطين عليهم من هم ، فعن ابن عباس وقتادة : أنه جالوت الجزري وجنوده ، سلط عليهم أولا ثم أديلوا عليه بعد ذلك ، وقتل داود جالوت ، ولهذا قال ( ثم رددنا لكم الكرة عليهم ) الآية ، وعن سعيد بن جبير : أنه ملك الموصل سنحاريب وجنوده ، وعنه أيضا وعن غيره : أنه بختنصر ملك بابل ، وقد وردت في هذا آثار كثيرة إسرائيلية ، لم أر تطويل الكتاب بذكرها ، لأن منها ما هو موضوع من وضع بعض زنادقتهم ، ومنها ما قد يحتمل أن يكون صحيحا ، ونحن في غنية عنها ولله الحمد ، وفيما قص الله علينا في كتابه غنية ، عما سواه من بقية الكتب قبله ، ولم يحوجنا الله ولا رسوله إليهم ، وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا سلط الله عليهم عدوهم ، فاستباح بيضتهم وسلك خلال بيوتهم ، وأذلهم وقهرهم جزاء وفاقا ، وما ربك بظلام للعبيد ، فإنهم كانوا قد تمردوا ، وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء ، وقد روى ابن جرير : حدثني يونس بن عبد الأعلى ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني سليمان بن بلال ، عن يحيى بن سعيد ، قال : سمعت سعيد بن المسيب ، يقول : ظهر بختنصر على الشام فخرب بيت المقدس وقتلهم ، ثم أتى دمشق فوجد بها دما يغلي على كبا ، فسألهم ما هذا الدم ؟ فقالوا أدركنا آباءنا على هذا ، وكلما ظهر عليه الكبا ظهر ، قال : فقتل على ذلك الدم سبعين ألفا من المسلمين وغيرهم ، فسكن وهذا صحيح إلى سعيد بن المسيب ، وهذا هو المشهور وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم ، حتى أنه لم يبق من يحفظ التوراة ، وأخذ معه منهم خلقا كثيرا أسرى من أبناء الأنبياء وغيرهم ، وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها ، ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه ، لجاز كتابته وروايته والله أعلم .
من تفسير الطبري :
فكان أول الفسادين قتل زكريا ، فبعث الله عليهم ملك النبط ، فخرج بختنصر حين سمع ذلك منهم ، ثم إن بني إسرائيل تجهزوا فغزوا النبط ، فأصابوا منهم واستنقذوا ما في أيديهم ، قال ابن زيد : كان إفسادهم الذي يفسدون في الأرض مرتين ، قتل زكريا ويحيى بن زكريا ، سلط الله عليهم سابور ذا الأكتاف ، ملكا من ملوك النبط في الأولى ، وسلط عليهم بختنصر في الثانية .
عن حذيفة بن اليمان ، يقول : قال رسول الله : إن بني إسرائيل لما اعتدوا وعلوا وقتلوا الأنبياء ، بعث الله عليهم ملك فارس بختنصر ، وكان الله قد ملّكه سبع مئة سنة ، فسار إليهم حتى دخل بيت المقدس ، فحاصرها وفتحها ، وقتل علي دم زكريا سبعين ألفا ، ثم سبى أهلها وبني الأنبياء ، وسلب حليّ بيت المقدس ، واستخرج منها سبعين ألفا ومئة ألف عجلة من حليّ ، حتى أورده بابل ، قال حذيفة : فقلت يا رسول الله ، لقد كان بيت المقدس عظيما عند الله ، قال : أجل بناه سليمان بن داود ، من ذهب ودر وياقوت وزبرجد ، وكان بلاطه بلاطة من ذهب وبلاطة من فضة وعمده ذهبا ، أعطاه الله ذلك ، وسخر له الشياطين ، يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين ، فسار بختنصر بهذه الأشياء ، حتى نزل بها بابل ، فأقام بنوا إسرائيل في يديه مئة سنة ، تعذبهم المجوس وأبناء المجوس ، فيهم الأنبياء وأبناء الأنبياء ، ثم إن الله رحمهم ، فأوحى إلى ملك من ملوك فارس ، يقال له كورش وكان مؤمنا ، أن سر إلى بقايا بني إسرائيل حتى تستنقذهم ، فسار كورش ببني إسرائيل وحلي بيت المقدس ، حتى رده إليه فأقام بنوا إسرائيل مطيعين لله مئة سنة ، ثم إنهم عادوا في المعاصي ، فسلط الله عليهم ابطيانحوس ، فغزا بأبناء من غزا مع بختنصر ، فغزا بني إسرائيل حتى أتاهم بيت المقدس ، فسبى أهلها وأحرق بيت المقدس ، وقال لهم يا بني إسرائيل ، إن عدتم في المعاصي عدنا عليكم بالسباء ، فعادوا في المعاصي ، فسيّر الله عليهم السباء الثالث ملك رومية ، يقال له قاقس بن إسبايوس ، فغزاهم في البر والبحر ، فسباهم وسبى حلي بيت المقدس ، وأحرق بيت المقدس بالنيران ، فقال رسول الله : هذا من صنعة حلي بيت المقدس ، ويرده المهدي إلى بيت المقدس ، وهو ألف سفينة وسبع مئة سفينة ، يرسى بها على يافا ، حتى تنقل إلى بيت المقدس ، وبها يجمع الله الأولين والآخرين " .
ثم اختلف أهل التأويل ، في الذين عنى الله بقوله أولي بأس شديد ، فيما كان من فعلهم ، في المرة الأولى في بني إسرائيل ، حين بعثوا عليهم ، ومن الذين بعث عليهم في المرة الآخرة ، وما كان من صنعهم بهم ، فقال بعضهم : كان الذي بعث الله عليهم في المرة الأولى جالوت ، وهو من أهل الجزيرة ، وفيما روي عن ابن عباس قوله : بعث الله عليهم جالوت ، فجاس خلال ديارهم ، وضرب عليهم الخراج والذل ، فسألوا الله أن يبعث لهم ملكا ، يقاتلون في سبيل الله فبعث الله طالوت ، فقاتلوا جالوت فنصر الله بني إسرائيل ، وقتل جالوت بيدي داود ، ورجع الله إلى بني إسرائيل مُلكهم ، وقال آخرون : بل بعث عليهم في المرة الأولى سنحاريب ، وفيما روي عن سعيد بن المسيب يقول : ظهر بختنصر على الشام فخرب بيت المقدس وقتلهم ، وقال آخرون : يعني بذلك قوما من أهل فارس ، قالوا : ولم يكن في المرة الأولى قتال ، ( ثم رددنا لكم … ) وفي قول ابن عباس ، الذي رواه عطية عنه ، هي إدالة الله إياهم من عدوهم جالوت حتى قتلوه ، وكان مجيء وعد المرة الآخرة عند قتلهم يحيى ، بعث عليهم بختنصر ، وخرّب بيت المقدس ، وأمر به أن تطرح فيه الجيف ، وأعانه على خرابه الروم ، فلما خربه ذهب معه بوجوه بني إسرائيل وأشرافهم ، وذهب بدانيال وعليا وعزاريا وميشائيل ، وهؤلاء كلهم من أولاد الأنبياء .
وفيما روي عن سعيد بن جبير ، قال : بعث الله عليهم في المرة الأولى سنحاريب ، قال : فردّ الله لهم الكرة عليهم كما أخبر ، قال : ثم عصوا ربهم ، وعادوا لما نهوا عنه ، فبعث عليهم في المرة الآخرة بختنصر ، فقتل المقاتلة وسبى الذرية ، وأخذ ما وجد من الأموال ، ودخلوا بيت المقدس ، كما قال الله عز وجل ، ودخلوه فتبّروه وخرّبوه ، فرحمهم فردّ إليهم ملكهم ، وخلّص من كان في أيديهم من ذرية بني إسرائيل ، وعن مجاهد قال : بعث الله ملك فارس ببابل جيشا ، وأمر عليهم بختنصر ، فأتوا بني إسرائيل فدمروهم فكانت هذه الآخرة ووعدها . وعن قتادة قوله : فبعث الله عليهم في الآخرة ، بختنصر المجوسي البابلي ، أبغض خلق الله إليه ، فسبا وقتل وخرّب بيت المقدس ، وسامهم سوء العذاب ، وفيما روي عن ابن عباس قال : فلما أفسدوا ، بعث الله عليهم في المرة الآخرة ، بختنصر فخرب المساجد " .
من تفسير البغوي :
قال قتادة : إفسادهم في المرة الأولى ، ما خالفوا من أحكام التوراة وركبوا المحارم ، وقال ابن إسحاق : إفسادهم في المرة الأولى قتل إشعياء في الشجرة وارتكابهم المعاصي ، ( بعثنا عليكم عبادا لنا ) ، قال قتادة : يعني جالوت الجزري وجنوده ، وهو الذي قتله داود ، وقال سعيد بن جبير : يعني سنحاريب من أهل نينوى ، وقال ابن إسحاق : بختنصر البابلي وأصحابه ، وهو الأظهر ، ( فإذا جاء وعد الآخرة ) وذلك قصدهم قتل عيسى عليه السلام ، حين رفع ، وقتلهم يحيى بن زكريا عليهما السلام ، فسلط عليهم الفرس والروم خردوش وطيطوس ، حتى قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن ديارهم .
من تفسير الشوكاني :
والمرة الأولى ، قتل شعياء ، أو حبس أرمياء ، أو مخالفة أحكام التوراة ، والثانية قتل يحيى بن زكريا ، والعزم على قتل عيسى ، ( عبادا لنا ) قيل هو بختنصر وجنوده ، وقيل جالوت ، وقيل جند من فارس ، وقيل جند من بابل ، والمرة الآخرة ، هى قتلهم يحيى ابن زكريا ، ( وإن عدتم ) قال أهل السير ، ثم إنهم عادوا إلى ما لا ينبغي ، وهو تكذيب محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وكتمان ما ورد من بعثه فى التوراة والإنجيل ، فعاد الله إلى عقوبتهم على أيدي العرب ، فجرى على بني قريظة والنضير وبني قينقاع وخيبر ، ما جرى من القتل والسبي ، والإجلاء وضرب الجزية ، على من بقي منهم ، وضرب الذلة والمسكنة .
من تفسير الألوسي :
واختلف في تعيين هؤلاء العباد في إفسادهم الأول ، فعن ابن عباس وقتادة ، هم جالوت الجزري وجنوده ، وقال ابن جبير وابن إسحاق هم سنحاريب ملك بابل وجنوده ، وقيل هم العمالقة ، وفي الأعلام للسهيلي ، هم بختنصر عامل لهراسف ، أحد ملوك الفرس الكيانية ، على بابل والروم وجنوده ، بعثوا عليهم حين كذبوا أرميا وجرحوه وحبسوه ، قيل وهو الحق .
واختلف في تعيين هؤلاء العباد المبعوثين ، بعد أن ذكروا قتل يحيى عليه السلام في إفسادهم الأخير ، فقال غير واحد إنهم بختنصر وجنوده ، وتعقبه السهيلي وقال بأنه لا يصح ، لأن قتل يحيى بعد رفع عيسى عليهما السلام ، وبختنصر كان قبل عيسى عليه السلام بزمن طويل ، وقيل الاسكندر وجنوده ، وتعقبه أيضا وقال : بأن بين الاسكندر وعيسى عليه السلام نحوا من ثلاثمائة سنة ، ثم قال لكنه إذا قيل إن إفسادهم في المرة الأخيرة بقتل شعيا ، جاز أن يكون المبعوث عليهم بختنصر ومن معه ، لأنه كان حينئذ حيا ، والذي ذهب إليه اليهود ، أن المبعوث أولا بختنصر ، وكان في زمن آرميا عليه السلام ، وقد أنذرهم مجيئه صريحا ، بعد أن نهاهم عن الفساد وعبادة الأصنام ، كما نطق به كتابه ، فحبسوه في بئر وجرحوه ، وكان تخريبه لبيت المقدس ، في السنة التاسعة عشر من حكمه ، وبين ذلك وهبوط آدم ثلاثة آلاف وثلثمائة وثماني وثلاثين سنة ، وبقي خرابا سبعين سنة ، ثم إن أسبيانوس قيصر الروم ، وجّه وزيره طيطوس إلى خرابه ، فخربه سنة ثلاثة آلاف وثمانمائة وثمانية وعشرين ، فيكون بين البعثين عندهم أربعمائة وتسعون سنة ، وتفصيل الكلام في ذلك في كتبهم ، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال .
وقال الألوسي : " ونعم ما قيل إن معرفة الأقوام المبعوثين ، بأعيانهم وتاريخ البعث ونحوه ، مما لا يتعلق به كبير غرض ، إذ المقصود أنه لما كثرت معاصيهم ، سلط الله تعالى عليهم من ينتقم منهم مرة بعد أخرى ، وظاهر الآيات يقتضي اتحاد المبعوثين أولا وثانيا "
ونقول : نتفق مع الألوسي في بعض ما ذهب إليه ، ونختلف معه في التقليل من شأن المبعوثين ، التي ما أخبر بها سبحانه ، في كتابه العزيز إلّا لكبير غرض ، وهو إثبات أن هذا القران من لدن علّام الغيوب ، لمن هم في شك يلعبون من المسلمين وغيرهم ، فهذه النبوءة تحكي واقعا نعاصره الآن ، بكل تفاصيله ( وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ) ومعرفة وتحديد المرتين ، أمر في غاية الأهمية . مع أن عبارته الأخيرة – رحمه الله - في النص السابق ، التي أكد فيها " اتحاد المبعوثين أولا وثانيا " ، وهو المفسّر الوحيد من القدماء ، الذي أشار صراحة إلى هذا الأمر ، أعطتني دفعة كبيرة للمضي قدما في هذا البحث ، حيث كنت قد تتبعت الضمائر الواردة في الآيات ، وتأكدت من هذا الأمر في بداية البحث ، فقد أيّدت هذه العبارة ، جانبا من الأفكار التي كنت أحملها ، فيما يتعلق بهذه النبوءة ، بعدما تبيّن لي من خلال الأحاديث النبوية ، التي ذكرتها في بداية البحث ، أنّ فناء دولة إسرائيل ، سيكون قبل قيام الخلافة الإسلامية ، التي ما زال عامة المسلمين ، ينتظرون ويأملون قيامها ، للقضاء عليهم وإنهاء وجودهم . وبما أن المبعوثين عليهم أولا وثانيا متحدين ، فذلك يعني أن معرفتنا لمن بُعث عليهم أولا ، ستقودنا بالضرورة لمعرفة من سيبعث عليهم ثانيا ، وثالثا للكشف عن الكثير مما أحاط هذه النبوءة من غموض ، كان سببا في كثير من التفسيرات المغلوطة ، التي أوقعت أُناس هذا العصر ، في الحيرة والارتباك .
كان هذا عرضا لمجمل ما قاله المفسرين ، أجلّهم الله ورحمهم جميعا ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن أحدا منهم ، لم يعاصر قيام دولة اليهود للمرة الثانية ، وكان أكثرهم حداثة ، هو الألوسي الذي توفي سنة 1227 هجري ، والملاحظ من أقوالهم ، أنهم أجمعوا على أن تحقّق المرتين ، كان قبل الإسلام ، ونسبة إحدى المرتين ، إلى البابليين وبقيادة بختنصر ( نبوخذ نصر ) على الأغلب ، وهو الحدث المشهور تاريخيا بما يُسمّى ( السبي البابلي ) .
ومعظم ما تقدّم من روايات هي أخبار موقوفة ، على أصحابها ، وأصلها أهل التوراة ، حيث أنها المصدر الوحيد لمثل هذه الروايات ، ، والتي امتلأت التفاسير منها ، وهي ليست مما يُرجع إليه من الأحكام ، التي يجب بها العمل ، فتُتحرى في صحتها أو كذبها ، لذلك تساهل كثير من المفسرون في نقلها ، وهي في بعض منها أقرب إلى الخرافة .
أمّا المعاصرين من المفسّرين ، فقد أعاد أغلبهم نسخ أقوال القدماء بشكل مختصر ، وأضافوها إلى كتبهم ، ولم يأتوا بجديد إلا واحدا ، هو الشيخ سعيد حوى رحمه الله ، حيث أعلمني أحد الزملاء بذلك ، عندما عرضت عليه بعض نتائج هذا البحث ، فقال لي بأن إحدى النتائج التي خرجت بها ، كان الشيخ قد أوردها في تفسيره ، وقد اطّلعت على تفسيره لهذه الآيات مؤخرا ، فوجدت بأن الشيخ ، قدّمها كاحتمال موسوم بالشك ، ولكنا نطرحها على وجه اليقين ، الذي لا يُخالطه شك ، بإذن الله .
أما أناس هذه الأيام ، ممن علم أو لم يعلم ، فقد جاءوا بتفسيرات وأقوال شتى في هذه الآيات ، منها ما وافق تفسيرات القدماء وأقوالهم من جانب ، وخالفها في جوانب آخرى ، ومنها ما خالفها جملة وتفصيلا .
بعض من أسباب الاضطراب والارتباك ، في تفسير آيات سورة الإسراء ؟
1. هجر القرآن
القرآن في العادة ، لا يُقرأ من قبل عامّة المسلمين ، هذه الأيام ، إلا ما رحم ربي ، وإن قُرء ، فهي قراءة بلا تفكّر أو تدبّر ، حتى أصبحنا إذا سمعناه ، يصدر من أحد البيوت ، في حيّ أو شارع قريب ، تساءلنا فيما إذا كان أحدهم قد مات ، قال تعالى ( وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَرَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30 الفرقان ) . وهجر القرآن نبوءة ، وقد تحققت في زماننا هذا ، وأنّى لنا هذا ، فالتفكر والتدبر في أمور الحياة الدنيا ، أشغلنا وأغنانا عن الآخرة ، التي ما خلا من القرآن موضع ، إلا وذكّرنا بها ، وهذا أخشى ما نخشاه ، لأننا لا نريد أن نتذكّر ، لكيلا نتألّم من المصير المرعب ، الذي نسجناه بأيدينا ، والذي إن تذكّرناه ، لم يغمض لنا جفن ، ولم ترقأ لنا عين .
2. تجميد القرآن وتعطيله وفصله عن الواقع ، ماضيا وحاضرا ومستقبلا
يذهب كثير من الناس ، من علماء وعامّة ، إلى أن فهم القرآن واكتشاف مكنوناته ، مقصور على فئة معينة من الناس دون غيرهم ، أو في زمان أو مكان دون آخر . بالرغم من أن هناك الكثير من التفسيرات الخاطئة ، والروايات المضلّلة أحيانا ، في كتب التفسير القديمة ، والتي لم تصحّح لغاية الآن . ونحن باعتمادنا بشكل كلّي على تفسيرات القدماء ، حرمنا أنفسنا من فهم كثير من الآيات ، ذات الصلة بواقعنا المعاصر ، والتي ما كان لأحد من المفسرين قديما ، القدرة على تفسيرها ، في زمن يسبق زماننا هذا ، ولا نقصد هنا التعريض بأي حال من الأحوال ، بأي من المفسرين أجلّهم الله ، فكل له عذره وأسبابه ، ولكن نريد أن نؤكد من خلال هذا الكتاب أن القرآن ما زال حيّا ، وما زالت لديه القدرة ، على الإتيان بجديد حتى قيام الساعة ، ولم يكن فهم القرآن يوما ، ولن يكون محصورا ، بزمان أو مكان ، أو أشخاص دون غيرهم .
3. الغموض والإبهام في نصوص النبوءات المستقبلية
عادة لا تُستخدم النصوص الصريحة ، في الكتب السماوية ، وفي السنة النبوية ، كأسلوب للإخبار عن مضامين النبوءات ، فعادة ما يُستعمل الوصف والتشبيه والتمثيل . وهذا هو حال مجمل النبوءات المستقبلية ، تبقى بعض نصوصها عصية على الفهم ، حتى تتمكن من تجسيد نفسها على أرض الواقع ، لتفسّر نفسها بنفسها . فلاكتمال معالمها ، أسباب ومسببات ، لا بد لها من أخذ مجراها الطبيعي . وعادة ما تكون في جانب منها مبهمة ، خاصة للطرف صاحب الدور الأكبر ، بترجمة أحداثها على أرض الواقع .
وفي المقابل تبقى بعض نصوصها سهلة للهضم والفهم ، لمن جاءت في كتبهم ، إذا عاصروها ، ولكن بالقَدْرِ الذي لا يسمح لهم ، بالتدخل في مجرياتها ، أو تعطيل الأسباب والمسببات المؤدية لتحقّقها . ولتبقى قدرتهم على التدخل مقيّدة ، بما لم يعرفوه يقينا ، مما أُبهم عليهم من نصوص النبوءة . ومثال ذلك ما جاء في كتب اليهود والنصارى ، من نصوص تبشّر بنبوة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام . وبالرغم من كثرة النصوص التي أخبرت عنه ، لم يستطع اليهود الاستدلال عليه يقينا ، قبل ظهور أمره ، وإلا لقتلوه . وصاحب النبوة لم يكن يعلم ، بأنه المقصود بنبوءات أهل الكتاب ، قبل أن يتنزّل عليه الوحي ، وحتى اسمه ( محمد ) عليه الصلاة والسلام ، جاء مغايرا لاسمه ( أحمد ) الموجود في كتبهم ، حيث جاء بالمعنى وليس باللفظ . وبعدما بُعث ، ومع مرور الزمن ، بدأ الواقع يُفسّر جميع النصوص التي كانت بحوزتهم شيئا فشيئا . أما قريش فما كانت تُصدّق من نبوءات أهل الكتاب شيئا .
وحتى لو كُشفت مضامين النبوءات ، عند اكتمال معالم القدر ، وقبل تحقق الفصل الأخير منها ، كان من الصعب على ذوي العلاقة ، إعادة عقارب الساعة إلى الوراء ، من أجل التأثير على مجريات أحداثها ، أو منع تحقّقها ، وخاصة أن معظم النبوءات إذا فُسرّت ، وكان واقع الحال لا يتطابق مع التفسير ، وهذا أمر طبيعي جدا ، فعادة ما يُجابه التفسير بالإنكار والتكذيب ، أو التشكيك حتى ممن يعنيهم الأمر ، أو الظن أن بالإمكان منعها ، كما هو الحال عند بني إسرائيل ، الذين يعلمون هذه النبوءة علم اليقين ، ويُحاولون جهدهم منع تحقّقها ، كما حاولوا جهدهم البحث ، عن نبينا عليه الصلاة والسلام ، لمنع بعثه وظهور أمره . وكما سيكون الحال مع كثير من الناس ، الذين سيقرأون هذا الكتاب ، الذي نكشف فيه ملابسات تحقّق وعد الآخرة ، كما لم تكن من قبل ، بعد أن تشابكت خيوطها ، واتصلت بإحكام منذ سنين عدة ، ولكن الناس كانوا عنها غافلين .
4. فهم الألفاظ ومدلولاتها
في كثير من الأحيان نفهم ألفاظ القرآن ، بالمعنى الذي نستخدمه به في حياتنا المعاصرة ، وربما يكون هذا الاستخدام مختلف أو مخالف تماما ، لاستخدام العرب القدماء - الذين نزل القرآن بلغتهم - لنفس اللفظ ، مما يتسبّب في سوء التفسير أو الفهم . فعلى سبيل المثال ، لنأخذ كلمة ( فَصَلَ ) ، فنحن نستخدم هذا اللفظ تقريبا بمعنى واحد ؛ قَطعَ التيار ، فَرّقَ ما بين شيئين بشيء ثالث ، طرده من الوظيفة . أما العرب القدماء فقد كانوا يستخدمونها بمعان شتى ، تفهم عادة من السياق ، منها ؛ قَطعَ وفَرَّقَ وخَرَجَ ، ومن هذه المعاني تستطيع تفسير قوله تعالى ( فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ (249 البقرة ) ، على أن طالوت خرج بالجنود .
وفي كثير من الأحيان ، يحمل اللفظ الواحد في القرآن ، مفهوما عاما عريضا ، ويندرج تحته عدة مفاهيم خاصة ، يُعرّفها ويُفصّلها القرآن في مواضع عديدة . ومن هذه الألفاظ على سبيل المثال ؛ الإفساد والعلو والفاحشة والظلم ، وهذه كلها مفاهيم عامة ، يختلف تحديد مواصفاتها ومقاييسها ، باختلاف فهم الشخص على سبيل المثال لماهيّة اللفظ . وإذا تركنا الإجابة للناس ، كلٌ حسب رأيه ، ستجد أن هناك تعاريف عديدة ومتباينة ، أما القرآن فله تعريفه الخاص .
فلنأخذ لفظ الظلم ، يقول سبحانه وتعالى ( وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59 القصص ) ، فما هي ماهية هذا الظلم ، الذي يتحتم عليه إهلاك القرى ؟ وكيف تستطيع القرى أن تسلم من الهلاك ، بما أن الظلم هو المقياس لذلك ، كما أخبر رب العزة ؟ ولفهم دلالة هذا اللفظ ، يتحتم عليك أن تُلمّ بكل مُتعلّقاته ، في جميع الآيات القرآنية ، التي ورد فيها ذكره ، لتخرج في النهاية بما يُشبه المقياس ، الذي من خلاله تستطيع تعريف هذا المفهوم ، بالمقياس الإلهي له ، وليس بالمقاييس الشخصية للناس .
5. الإيجاز الشديد
مثل قوله تعالى ( فجاسوا خلال الديار ) ، حيث وصف سبحانه ،كل ما فعله أولئك العباد ، في المرة الأولى بثلاث كلمات فقط ، أو بالأحرى كلمة واحدة هي ( فجاسوا ) ، وبالرغم من ذلك ، فإن هذه الكلمة ، وعند الاطلاع معانيها في المعجم ، ستجد أنها تصوّر مشهدا سينمائيا كاملا ، وبدون الاطلاع على تلك المعاني ، لن تمتلك القدرة على تخيّل ذلك المشهد .
6. الحذف وتقدير المحذوف
حذف كلمة أو عبارة من السياق ، لسبق الدلالة عليها فيما تقدم من نصوص ، مثل حذف جواب شرط إذا الخاص بوعد الآخرة ، وتقديره ( بعثناهم عليكم ) في الآية (7) ، لدلالة قوله تعالى ( فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم ) في الآية ( 5) .
7. الالتفات
الحديث عن الغائب ، ومن ثم الانتقال لتوجيه الخطاب إلى الحاضر ، والعكس بالعكس ، بين حين وآخر ، مثل ( وقضينا إلى – الحديث هنا عن الغائب ( السابقين من بني إسرائيل ) …لتفسدنّ في – الخطاب هنا إلى الحاضر ( المعاصرين من بني إسرائيل ) .. ) . عادة ما يستخدم هذا الأسلوب ، في إخبار المستمع الحاضر عن حدث وقع في الماضي . والهدف من إنزال هذه النبوءة في كتاب موسى ، وإعادة نسخها في القرآن ، هو كشف للغيب الذي لا يعلمه إلا من أخبر عنه ، فيما أنزله من كتب على رُسله ، لعل الناس المعاصرين بربهم يؤمنون ، عند تحقق هذه النبوءة بكل تفاصيلها ، كما جاءت في الكتب السماوية . لذلك جاء الإخبار في القرآن للناس كافة ، وجاء الخطاب لبي إسرائيل خاصّة ، لأن الأمر يعنيهم أكثر من غيرهم ، فلعلّهم إلى ربهم يرجعون .
لقد أخبر سبحانه في الآية (2) أنه آتى موسى الكتاب ، وفي الآية (4) أخبر بأنه أنزل في ذلك الكتاب نص هذه النبوءة ، التي سيشرع فيما يلي بالإخبار عنها بكل تفاصيلها ، كما جاءت في كتاب موسى ، حيث جاء النص آنذاك مخاطبا لبني إسرائيل . وإتيان النص بأسلوب المخاطبة لبني إسرائيل في القرآن ، يفيد أن هناك جزء من هذه النبوءة سيتحقق مستقبلا بعد نزول هذه الآيات ، وأعيد النص لتذكير بني إسرائيل وتنبيههم وتحذيرهم ، من مغبة الإفساد في الأرض في المرة لثانية ، مما يترتب عليه نفاذ الوعد الثاني ، كما نفذ الوعد الأول .
ومع أن المخاطَب في هذه الآيات ، هم بنوا إسرائيل ( المعاصرين ) ، ولكن يجب ألا ننسى ، أن هناك من يقرأ ويسمع خطابه تعالى – لبني إسرائيل – من خلال القرآن ، ممن هم من غير بني إسرائيل ، ولا يعلمون من أمر هذه النبوءة شيئا ، فيما إذا كانت قد أنزلت عليهم في كتابهم أم لا ، فابتدأ عز وجل القصة بالإخبار عن وجودها في كتابهم ، لمن لا يعلم من الجمهور بذلك ، من مستمع وقارئ لهذه القصة . ليُعيد الجمهور إلى الأجواء التي أُنزلت فيها هذه النبوءة ، ليسهُل فهمها من قبلهم . وليصبحوا مساوين لبني إسرائيل في معايشة تلك الأجواء ، التي يعرفونها كما يعرفون أبنائهم ، من خلال ما لديهم من كتب . لذلك تجده سبحانه أحيانا يتوجه بالخطاب إلى الجمهور ، تاركا ( خطاب بني إسرائيل ) ، ليضيف إليهم خبرا أو تعقيبا ، على جزء معين من هذه النبوءة ، أو إيضاحا أو تفصيلا ،لم يرد في النص الأصلي للنبوءة ، التي سبق أن أُنزلت عليهم ، أو تحقق بعد نزولها ، لزم إخبار الجمهور عنه في هذه الآيات . فالحكمة من الإخبار بهذه النبوءة والكشف عنها للبشر ، هي تحصّل الإيمان بالقرآن ومن أنزله ومن أُرسل به ، كما عقّب سبحانه بقوله في نهاية السورة ( قُلْ ءَامِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا (107 الإسراء ) . وسنبين إن شاء الله كل موضع ، حصل فيه التفات ، لتصبح نصوص النبوءة أكثر وضوحا وأسهل للفهم . وعدم معرفة ماهية الالتفات ومواضعه - أحد أوجه البلاغة في لغة العرب – سيجعل من الصعوبة بما كان ، أن يفهم الناس النصوص القرآنية بشكل صحيح ، وربما يقلب المعنى بشكل مخالف تماما .
8. الضمائر
متابعة الضمائر في هذه الآيات ، بأنواعها الثلاثة ، المتكلِّم والمخاطَب والغائب ، وتحديد على من يعود كل منها . وهنا لا بد أن نوضح ونؤكد ، على أنّ كل الضمائر الواردة في الآيات ( 4-8 ) ، ما عدا ضمائر المتكلِّم التي تعود عليه سبحانه ، تعود على أولئك العباد أولي البأس الشديد أنفسهم في مواضع ، وعلى بني إسرائيل في مواضع أخرى ، وهي محصورة فيهم على الإطلاق ، إذ لم يضف النص طرفا ثالثا .
9. الاعتراض
وهو إضافة جملة إلى السياق ، كتعقيب على خبر قد سبق ذكره ، زيادة في الإيضاح والإبانة ، وهو أحد أوجه البلاغة أيضا . وعدم وجود هذا التعقيب ، ربما يُثير التساؤل في ذهن المستمع ، فيُضيف الراوي من تلقاء نفسه خبرا جديدا ، ليدفع الحيرة عنه ، ومنعا لتوارد الاجتهادات والتفسيرات الخاطئة في مخيلته ، وليُغني المستمع الحاجة إلى السؤال . فعادة ما تأتي الجملة المعترضة كإضافة ، لإزالة الغموض واللبس ، الذي قد ينجم عن سوء تقدير المستمع ، ولزوم هذا التعقيب يعود لتقدير الراوي .
وقد وقع الاعتراض في نصوص النبوءة في موضعين ، في قوله تعالى " وكان وعدا مفعولا " ، للتعقيب على الوعد الأول ، لبيان أن هذا كان قد أُنجز أم لم يُنجز . وفي قوله تعالى " وليتبّروا ما علوا تتبيرا " للتعقيب على العلو الكبير الخاص ببني إسرائيل ، لبيان وتأكيد أن هذا العلو ستتم إزالته مستقبلا لا محالة .
10. الهوى والعاطفة
نحن كمسلمين مرتبطون عاطفيا بالمسجد الأقصى ، ومرتبطون عاطفيا بالبطولات الإسلامية وأبطالها ، ومرتبطون عاطفيا بالخلافة الإسلامية وخلفائها ، لأنها توفّر لنا شعورا بالعزة والكرامة طالما افتقدناه ، ونحن بأمس الحاجة إليه هذه الأيام . وفي المقابل نحن أبعد ما نكون عن الإسلام ، في حياتنا العملية ، ولو نظرنا في أعماق أعماقنا ، لوجدنا أننا نرفض الإسلام كأسلوب للحياة ، لأن الإسلام بكل بساطة يرفض كل مظاهر الحياة الدنيا ، التي يتمسّك بها الآن معظم المسلمين ، ويسعون لإبقائها ويحرصون على إدامتها والاستزادة منها ما أمكنهم ذلك .
نص هذه النبوءة موجود في كتب اليهود ، فما الذي قام به زعماؤهم العلمانيون والمتدينون ، عندما أرادوا أن يقيموا لهم دولة ؟ أخذوا من النبوءة الجزء الخاص بالعودة من الشتات ورد السبي ، وفسّروها على أن الله أراد لهم ذلك ، بغض النظر عن فسادهم وإفسادهم ، وأخفوا النصوص التي تُحذّر من العقوبة التي تنتظرهم ، ليُضفوا على عودتهم إلى فلسطين ، بعدا دينيا توراتيا ، وبالتالي استطاعوا كسب التأييد والدعم المادي والمعنوي ، سياسيا واقتصاديا وعسكريا ، من اليهود والنصارى على حد سواء .
نحن أيضا نملك نص النبوءة نفسها ، وملزمون بتحرير الأقصى ، ولأننا نشعر بالعجز وقصر ذات اليد ، قمنا بإضفاء البعد الديني على عملية التحرير ، بحصرها بخلافة إسلامية غير منظورة على المدى القريب ، واستبعدنا احتمالية أن يتم هذا الأمر ، خارج هذا الإطار العاطفي . وبعد أن تقوقعنا داخل هذا الإطار ، بدأنا نُفسّر المعطيات حسب ما يتوافق مع هذا التوجّه . حتى بلغ بنا الأمر ، إلى أن نُحمّل النصوص القرآنية ما لا تحتمله ، لتوافق رغباتنا وأهوائنا وتطلّعاتنا كمنتسبين للإسلام . فأخذنا عبارة ( عبادا لنا ) ، وعبارة ( وليدخلوا المسجد ) وعبارة ( كما دخلوه أول مرة ) ، وسلخناها عن جلدها ، وقمنا بالإسهاب في تفسير وتفصيل هذه العبارات ، وأهملنا بعض العبارات الأخرى ، وفسّرنا بعضها الآخر بشكل يُناقض فحواها ، فعزلنا العبارات عن آياتها ، وعزلنا الآيات عن بعضها ، وعزلنا مجموعة الآيات عن السورة ، وعزلنا السورة عن القرآن ، وعزلنا القرآن عن كل شيء . فخرجنا باستنتاجات وتحليلات وأصدرنا أحكام ، حرمت الكثير من الناس من المعرفة الحقيقة ، التي تكتنفها نصوص هذه النبوءة ، التي تم تفسيرها ، بتغليب من الهوى والعاطفة ، على النصوص القرآنية والسنة ، وعلى العقل والمنطق والواقع والتاريخ والجغرافيا .
وبذلك أزاحت بعض التفسيرات ، التي حصرت تحرير الأقصى ، بالخلافة الإسلامية عن غير قصد ، عن كاهل هذا الجيل عبء فكرة التحرير ، وأبعدت عن أذهان الناس شبح حرب قادمة ، مما ساهم بشكل غير مباشر ، في تخدير أمة الإسلام لسنين طويلة ، لينعُم الناس بحياة آمنة مطمئنة ، ولكن للأسف بعيدا عن الدين . فالخلافة الإسلامية على المدى القريب صعبة التحقق ، لأن مقومات قيامها ضمن الظروف الراهنة معدومة . والأمة بحاجة لمن يُنبّهها لا لمن يُخدّرها … وقبل طرح هذه الفكرة الخطرة عن تحرير المسجد الأقصى … ونسبها إلى كتاب الله … وأن الله أراد ذلك … كان على روّاد هذه الفكرة … أن يتجرّدوا من عواطفهم وأهوائهم كليا عند تفسير آيات الله … فالقرآن يطلب العقل سبيلا للفهم لا العاطفة والهوى … لدرجة أنه جعل ( القلب ) موطنا للعقل بدلا من العاطفة … وأن يُفكّروا مليّا قبل أن يُقدّموها للناس … فنحن بحاجة لبناء مساجد في نفوس الناس … فإن استطعنا القيام بذلك … فلن نحرّر المسجد الأقصى فقط … بل سنحرّر العالم بأسره … وإن لم نستطع فالأحرى بنا … أن نعتزل ونفرّ إلى رؤوس الجبال … بأطلال المساجد المتبقية في نفوسنا … حتى يأتي الله بأمره … !!!
هذا الطرح الخطِر والبعيد جدا ، عما جاء في النصوص القرآنية ، سيؤدي بالناس لا محالة ، إلى الوقوع في الحيرة والارتباك ، ونشوء كثير من علامات الاستفهام ، حول من قدّم هذه التفسيرات ، وحول مصداقية كتاب الله نفسه ، من قبل ضعاف الإيمان والعقل والقلب ، عندما تتحقّق النبوءة بشكل مغاير لتلك التفسيرات .
ربما يُصرّ الكثير من الواقعيون ، على أن الواقع يُناقض مما يطرحه هذا الكتاب . غير أن هذا الواقع سيتغير بالتدريج ، أو بين عشية وضحاها ليتوافق مع أمر الله . وإن لم يتوافق ، فأمر الله فوق الواقع ، وكثيرا ما يأتي بغتة . وبالرغم من ذلك ، أعتقد بأن كثير من المتغيرات ، على المستوى الإقليمي والعالمي ، ستلوح في الأفق ، قبل مجيء أمر الله ، وسيلحظها كل ذي بصيرة .