رغم مرور السنين ، وتداول الأيام ، وذهاب ساعات الوصال ، وذبول مواعيد اللقاء ، وأفول شمس
أيام التلاقي ، وتلاشي الضباب الذي كان يحجب عنا الأنظار ، ويزين قمم الجبال ، ويرصع الأزهار بقطراته ،
الندية ، ويداعب أغصان الشجر ويبللها برذاذه ، وينشر في الطبيعة رائحته الزكية ، العابقة بالغيث والمطر ، تارة يعلو إلى القمم وتارة أخرى يسح بين دفتي الوادي العميق ، تدفعه نسمات الشتاء الباردة ، التي تلامس الأغصان وتداعبها فتتحرك كأنما هي ترقص على نغمات أصوات الطيور ، وتتراقص بشجى ألحانها الشجية .
رغم مرور عقدين ونيف من الزمن ورغم التقدم في العمر ، بمقدار تلك العقود التي خلت ، ورغم كل شيء بدد معالم الحب ، ومسح خطوطه وهتك حدوده ، واقتحم جوانب الأمن والأمان في مملكته ، وصرع كيان دولته وأطاح بعرشه ، وسجَّر بحارَ كلماته ، وجفف منابعَ عباراته ، ورغم القساوة في التخلي ، والجور في الترك ، والإجحاف في البعاد والإسراف في التجني ..
رغم كل هذا وذاك ، ورغم كل شي إلا إن الحب لم ينتهِ ، وجرحه الغائر إلى أعماق الصميم ، لم يندمل ، ولازال حياً يسري في العروق ، وينبعث مع الروح ، ويتخلل الجلد ويسكن الجسد ، مختبئاً في كهوف بقايا مملكته ، متغلغلاً تحت أنقاضها ، متمسكاً بحروفها وعباراتها ، مستميتاً في ذكراها ، غارقاً في ذكرياتها ..
إنه حب فريد ، ومعركة بين النفس والروح والجسد ، وأطراف ممالك الهوى وحدود دولة العشق ، وساحات جنات الحب ، لإنه صراع أبدي تدور رحاه في عمق نفس بشرية وقع عليها من أهوال الغرام مالم يقع على غيرها فاحتملت قضاياه ، واحتكمت بأحكامه وانصاعت لأوامره ، وتحدت كل البشر وضربت بالعواذل صلابة الجدران وأغرقت كل الحاسدين في أعماق الوفاء والصدق والإخلاص ..
لم تزل تلك اللحظات تتكرر أمام ناظري ، وتنبعث في أعماقي رغم السنين ، وصلافة الأيام ، كأنها الآن ، لم تغب عن ذاكرتي ولا تخلو منها مذكراتي ، وكيف تغفو عنها ذاكرتي وتتجاهلها ذكرياتي ، وهي الهواء الذي في الرئتين ، والدم الذي في العروق ، والنبض الذي في القلب ، ؟!
كيف تسهو عنها ذاكرتي عندما خرج ذلك البدر من خدره في ليلة قمراء فارتُجَّ علي ودخلتُ في عالم من الحيرة تارة أنظر إلى السماء فأرى بدراً يسري ثم أنظر إلى الأرض فأرى قمراً يسير ، يا للروعة والجمال ، إنها آيتين كل منهما محت الأخرى ، فقدرة الله في السماء محت آية تسير على الأرض ، وقدرته في الأرض محت آية تسري في السماء وكلها من صنعه وقدرته ، فانشغلت النفس بين الآيتين تشبه هذه بتلك وتلك بهذه ، وكل منهما تغار من الأخرى ولكن التي تسير جمحت أنوارها واكتسحت معالمي وعالمي فأطرقت إلى الأرض خضوعاً لتلك الآية التي تسير وتجاهلت التي تسري ، فلا أنظر إليها إلا عندما أريد أن أستعيد تلك اللحظات بين الصلاتين على أطراف المدينة . ( نعم أطراف المدينة ) .
حب سكن واستحكم ولكن .. هنا تقع سنن الحياة في الحب ، وكأنه مقدر على العاشقين ألا يجتمعوا إلى الأبد ومنذُ الأزل ، كأنما كتب عليهم العذاب بالهوى ، وتبادل القلوب ثم تعذيبها بين أطراف الجوانح ، وقضبان الحنايا ، والتعذب بلظى نارها والاكتواء بلهيب هواها ، والتقلب على جمر الذكريات ، والانطواء في عالم الذكرى .
لله درك يا ابن الملوح حينما قلت : وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن ألا تلاقيا .. ولكن ظنهما يا سيدي العاشق لم يتحقق ومقدر عليه أن يذهب سدى ، ويؤمنان بألا تلاقيا مطلقاً ، وأصبح الظن من أفعال القلوب .
ولله درك حينما قلت قضاها لغيري وابتلاني بحبها .. فهلا بشي ء غير ليلى ابتلانيا ؟!
وهكذا نحن نشاركك الابتلاء ، ونقع في حب ما ليس لنا ، فقد قضي ما كنا نأمل أن يكون لنا لغيرنا ، ولم يبق لنا سوى العشق ، والوقوف على بلاط الوفاء ، وعرصات الأطلال ، والانزواء مع الذكريات ، والتقلب على كوابيس الحنين وجمر البعاد وخيبة الحب .
وراحت السنين وتمادت ، وتكدست الأعوام وتتالت ، حتى انطوى الحب واضمحل ، ونحل ، وكبر ولم يشيخ ، ولكنه سكن في النفس ، وتغلغل في الأعماق ، وتدثر بالجلد ، وتلبس بالجسد ، وغاب القمر الذي يسير ، واختفى إلى الأبد ، ولم يزل حبه حاضراً في مملكته يغرد على أطلالها ، ويترنم حنيناً على عرشها ، وقد باتت علامات الذقن في وسط الكف كأنما نقشت على حجر الصوان ..
وذهب الحبيب وبقي الحب ، ولكن ياترى هل بقي لنا عنده ما بقي له عندنا ؟!
الله أعلم .. وهنا تتجسد الخيبة في الحب عندما نسأل أنفسنا ولا نجد في أعماقها إجابة
وعندما نسأل القلب فلا نجد فيه حياة تمكنه من الإجابة ، وعندما نتساءل مع النسائم
فلا نرى ولا نسمع سوى طيراً تحمل الحزن على أجنحتها .
من مدونتي ( مدونة شمس لا تغيب ) .
لا أسمح بالنقل دون الإشارة للمصدر .