السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
صـ ومساؤكم ـبآحكم .. عامرٌ بالخير الوفير بإذن الله ..
مقال للشيخ الدكتور عائض القرني بعنوان [ خيرة الله ] ..
العبد لضعفه ولعجزه لا يدري ما وراء حجب الغيب ، فهو لا يرى إلا
ظواهر الأمور ، أما الخوافي فعلمها عند ربي ، فكم من محنة صارت منحة ، وكم من
بلية أصبحت عطية ، فالخير كامن في المكروه . أبونا آدم أكل من الشجرة وعصى
ربه ، فأهبطه إلى الجنة ، فظاهر الأمر أن آدم ترك الأحسن والأصوب ، ووقع عليه
المكروه ، ولكن عاقبة أمره خير عظيم وفضل جسيم ؛ فإن الله تاب عليه وهداه
واجتباه وجعله نبيا وأخرج من صلبه رسلاً وأنبياء وعلماء وشهداء وأولياء ومجاهدين
وعابدين ومنفقين ، فسبحان الله كم بين قوله تعالى : ( اسكن أنت وزوجك الجنة
وكلا منها رغداً ) ، وقوله : ( ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى ) ؛ فإن حاله الأول
سكن وأكل وشرب ، وهذا حال عامة الناس الذين لاهمّ لهم ولا طموحات ، وأما
حاله بعد الاجتباء والاصطفاء والنبوة والهداية فحال عظيمة ، ومنزلة كريمة ، وشرف باذخ .
وهذا داود عليه السلام ارتكب الخطيئة فندم وبكى ، فكانت في حقه نعمة من
أجلّ النعم ؛ فإنه عرف ربه معرفة العبد الطائع الذليل الخاشع المنكسر ، وهذا
مقصود العبودية ، فإن من أركان العبودية تمام الذل لله عز وجل .وقد سئل شيخ
الإسلام ابن تيمية عن قوله صلى الله عليه وسلم : ( عجباً للمؤمن لا يقضي
الله له شيئاً إلا كان خيراً له ) – رواه أحمد في مسنده - هل يشمل هذا قضاء
المعصية على العبد ؟ قال : نعم ، بشرطها من الندم والتوبة والاستغفار
والانكسار . فظاهر الأمر في تقدير المعصية مكروه على العبد ، وباطنه محبوب
إذا اقترن بشرطه . وخيرة الله لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ظاهرة
باهرة ؛ فإن كل مكروه وقع له صار محبوباً مرغوباً ، فإن تكذيب قومه له
ومحاربتهم إياه كان سبباً في إقامة سوق الجهاد ومناصرة الله والتضحية في
سبيله ، فكانت تلك الغزوات التي نصر الله فيها رسوله ، وفتح عليه ، واتخذ
فيها من المؤمنين شهداء جعلهم من ورثة جنة النعيم ، ولولا تلك المجابهة
من الكفار لم يحصل هذا الخير الكبير والفوز العظيم ، ولما طُرد صلى الله عليه
وسلم من مكة كان ظاهر الأمر مكروهاً ، ولكن في باطنه الخير والفلاح
والمنة ، فإنه بهذه الهجرة أقام صلى الله عليه وسلم دولة الإسلام ووجد
أنصاراً ، وتميز أهل الإيمان من أهل الكفر ، وعُرف الصادق في إيمانه وهجرته
وجهاده من الكاذب . ولما غلب المسلمون في أحد كان الأمر مكروهاً في
ظاهره شديداً على النفوس ، لكن ظهر له من الخير وحسن الاختيار ما
يفوق الوصف ، فقد ذهب من بعض النفوس العُجب بانتصار يوم بدر والثقة
بالنفس والاعتماد عليها ، واتخذ الله من المسلمين شهداء أكرمهم بالقتل
كحمزة سيد الشهداء ، ومصعب سفير الإسلام ، وعبدالله بن عمرو والد
جابر الذي كلمه الله ، وغيرهم ، وامتاز المنافقون بغزوة أحد وفُضح أمرهم
وكشف الله أسرارهم ، وهتك أستارهم .
إن من عرف حسن اختيار الله لعبده هانت عليه المصائب ، وسهلت عليه
المصاعب ، وتوقع اللطف من الله واستبشر بما حصل ؛ ثقةً بلطف الله وكرمه
وحسن اختياره ، حينها يذهب حزنه وضجره وضيق صدره ، ويسلم الأمر لربه
جل في علاه ، فلا يتسخط ولا يعترض ولا يتذمر ، بل يشكر ويصبر حتى تلوح
له العواقب وتنقشع عنه سحب المصائب.