سهرة مع الهوامير.. مكتب العقار الليلي
على امتداد خمس ساعات، كان الليل عامرا بالأحاديث والجدال والنقاش وحالة من الزهو الذي يلف المجلس، مجموعة من سدنة العقار ورجاله الذين لا ينامون إلا على ثلاثة شوارع، يستيقظون على وقع الأرقام ويبتسمون كثيرا بلا سبب غالبا، ويخاطبون الخدم بلغة إنجليزية مكسرة ذات لكنة محلية. يكاد العامل الفلبيني أن يبتسم ساخرا كلما سمع توجيها أو طلبا بتلك اللغة الإنجليزية الفاتنة. لكنهم حين يتحدثون عن واقعهم وعن قضاياهم وحين يبدأ النقاش حول واقع السوق العقاري تجدهم يتحولون بالفعل إلى مجموعة من الخبراء الذين لا تغيب عنهم شاردة ولا واردة في هذا المجال إلا ويحيطون بها ويدركون أبعادها وتأثيراتها على واقعهم العقاري.
يقرؤون بنهم واضح كل ما يكتب في الصحافة عن قضايا العقار والإسكان، ويتابعون ويتبادلون بنهم كذلك كل ما يكتب في مواقع الإنترنت وما يقال في القنوات الفضائية، ويعرفون جيدا تلك الشخصيات الإعلامية والاقتصادية التي تتناول تلك القضايا، وبالتالي فهم حاضرون في المشهد بكل تفاصيله، ولديهم قدرة على تقييم الواقع وقراءته والتحرك للحفاظ على مصالحهم.
يؤكد كثير منهم بأن ما يطرح في وسائل الإعلام حول ارتفاع أسعار الأراضي أمر واقعي وحقيقي وله ما يبرره، بل يجمعون على أن هذا الارتفاع غير منطقي ولا يمكن إخضاعه لأي نظرية اقتصادية، إنما يمكن تفسيره، حيث يعيدون كل ارتفاع في أسعار الوحدات السكنية إلى ارتفاع الأراضي، لكنهم – مع ما في ذلك من غرابة – يعيدون ارتفاع الأسعار إلى هوامير آخرين. هذه المعادلة تذكرنا بالتطورات السنوية التي يشهدها كل جزء من المسلسل الشهير: هوامير الصحراء، حيث دائما ما يكتشف المشاهد أن خلف الهامور من هو أكبر منه، وأن كل ما لديه من قوة وسلطة وثراء ليس سوى اقتباس من ذلك الوهج الكبير، حتى إذا ظهر الهامور الكبير ظهر كذلك من هو أكبر منه.
اختلف الحضور في تلك الأمسية حول الموقف من قضية فرض رسوم على الأراضي البيضاء، بل إن قليلا منهم من يجدون في هذا القرار حلا واقعيا لارتفاع الأسعار، لأن فرض الرسوم سوف يضطر المالك المحتكر لاحتسابها جزءا سنويا من ارتفاع سعر الأرض مما سيؤدي لتعميق الأزمة وأكثر، وبالتالي تتحول الأرض المحتكرة إلى مصدر دخل ثابت ومضمون الزيادة السنوية. الكثير منهم يشعر بالقلق حيال برامج الإسكان التي تقودها الحكومة، ففي الوقت الذي أخفقت فيه القوة الشرائية لدى المواطنين في مواكبة الارتفاع المهول في أسعار العقار، تأتي برامج الإسكان الحكومية لتمثل إرباكا إيجابيا لحالة الاحتكار والاضطرار التي يعيشها المواطن في التعامل مع السوق العقاري، ولتسهم في خفض نسبة العاجزين عن تملك الوحدات السكنية، وهو ما يمثل نوعا من التدخل الحكومي القوي في واقع السوق، ذلك التدخل الذي يخشى الكثير من العقاريين أن يساعد على تراجع واسع في أسعار العقار. بالمقابل، يتحدث بعض أولئك الهوامير الطيبين باسترخاء كبير، فهم لا يشعرون بأي قلق نتيجة كل هذه الخطوات، وأن الانخفاض المتوقع حدوثه لن يكون بالشكل الذي سيمثل تحولا في واقع السوق ومساره، فمشروعات الإسكان الحكومية تسهم في تغيير واقع الإسكان وليس في تغيير واقع السوق العقاري، كما أنهم يؤمنون بأن التغيير المحتمل في الأسعار رغم كونه طفيفا إلا أنه سيختلف أيضا بين منطقة وأخرى بحسب واقع السوق والطلب، فيما يجمعون غالبا على أن فكرة شح الأراضي التي تطرحها بعض الجهات كعائق لتنفيذ مشروعاتها، فكرة لا مكان لها في الواقع، لأن الاحتكار القائم والمضاربات التي شهدتها الأراضي طيلة السنوات الماضية أدت إلى هذا الارتفاع غير المنطقي.
بكل وضوح، لقد بدأ العقاريون في استيعاب الأزمة، بل إن واقعا نفسيا – كما يصفه أحدهم – بدأ يسيطر على مزاج السوق العقاري، بعد أن رسخ الإعلام في أوساطهم فكرة أن الأراضي أصبحت أبرز عامل في أزمة تنموية واقتصادية واجتماعية، ويستشهدون على ذلك بحالات الهجرة التي بدأت تظهر الآن باتجاه سوق الأسهم. استيعاب الأزمة الآن، يتزامن مع هذه التنظيمات الحكومية الجديدة التي ستسهم بالفعل في إيجاد مخرج لأزمة بدأت نذرها منذ سنوات.
|