بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
عرفت النور يوماً بعد العيش في أعماق بحار من الظلمات التي يموج بعضها فوق بعض،
فإذا بقلبي يندفع نحو أول إشعاع لهذا النور بلا هوادة؛ لينهل منه ما يزيل عنه آثار عناء
الظلمة خلال حقبة طويلة من الزمن، ويلقي بنفسه في أعماقه وهو ينتفض رجفة من شدة
النحيب والبكاء ندما ًوحسرة على ما قد ضاع وفات!
وأضحى ملازماً على هذه الحال؛ حتى صار يرهف لأي نداء يأتيه من نبع ذلك النور،
ويسارع لتلبيته وكأنها مسالة مصيرية لا تقبل المساومة، فأحسست بشرايين حياةٍ جديدةٍ
تدب في سائر أنحاء جسدي!
غير أنها لا تشبه مطلقا تلك الحياة الاعتيادية، التي يتشارك فيها بنو البشر مع البهائم في
المأكل والمشرب، إنها حياة تستعلي فيها النفس عن كافة الأرضيات!! ويخبوا عند
حدودها بريق الشهوات وبهارج الملذات!! كيف لاوالموعد الجنة والمنعم الله؟
إن خلاصة ما عايشته إنما هو جنةٌ مصغرةٌ من جنان الدنيا، نعمت فيها نفسي بالالتصاق
بنبع الأمان .. الله جل وعلا.. فاستغنت به، واعتزت بدينه، وحَيَت بقرآنه، وتميّزت بسنة
نبيه صلى الله عليه وسلم، وتآخت على حبه، وتآزرت على نصرته، ثم تغلغلت هذه
المشاعر كلها في الدماء والعظام حتى فاضت النفس شوقا لجنته!!
فيا لحسرة من لم يذق لهذه الحياة طعماً، ويا لندامة من لم يسلك لهذه الرحاب درباً !!
وتشتد الحسرة ويتضاعف الندم على من عرف وأنكر، وذاق فغيّر، فاللهم فبرحمتك أقل
عثرتي وخذ بيدي حتى لا أكون عياذاً بك اللهم منهم، وذلك بعدما توهمت يوماً أن
الاشتغال بالتجارة بنية نصر الدين ليس محفوفاً بالمخاطر طالما صلحت النية وحسن
القصد، فإذا بي أجد نفسي محاطاً برفاق درب من الذئاب والثعالب!!
قد صاغوا بخبثهم معالم جديدة للتعاملات التجارية، استبيحت على إثرها الخيانة!! وصار
الكذب من مقتضيات الأمانة!! وفي خضم هذه الهوة السحيقة من الانهيار؛ ذابت المبادئ
وانعدم مفهوم الحلال والحرام من الأذهان!! فتلاطمت بي أمواج الفتن تتقاذفني ذات
اليمين وذات الشمال، وإذا ببريق النور قد أخذ يخبو في قلبي!!
وكأن لسان حاله يساءلني قائلاً :
هل بعد هذا العلو من دنو؟!
هل ارتضيت لنفسك كل هذه الألوان من الذل؟!
إن ما تعايشه من ألوان الغفلة . . يسرق عمرك كلمح البصر!!
ويجرعك الوهم . . ليورثك عذاب السُعر!!
فهل استبدلت الذي هو أدنى . . بالذي هو خير؟!
أين دمعاتك في سجادات السحر؟!
أين خوفك من جحيم الشرر؟!
أين تعلُّق قلبك بخالق القضاء والقدر؟!
أين أشواقك إلى جناتٍ ونهر . . في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر؟!
هلا تداركت نفسك . . قبل ضياع الوقت، وفوات العمر ؟!
فسألته والنفس تخفق وجلاً مما تطويه خفايا القدر:
وهل يقبل الله توبة عبد مثلي . . هام على وجهه بين مزابل الدنيا يرجو النفع من البشر؟!
وهل يغفر الله لي ما قد أوقعت نفسي فيه من الشرر؟!
هل تعود إلى قلبي أيها النور يوماً فتبدد ما أصابه من غفلة وغرر؟!
فتلألأت أشعته في قلبي من جديد وقال مبتسماً :
آن لك الآن أن تنفض عن نفسك غبار الغفلة قائلاً :
إلى النور .. هلُمّ قلبي