ولا يبقى بعد ذلك إلا المؤمنون وبقايا أهل الكتاب ، وفي المؤمنين المنافقون الذين كانوا معهم فيالدنيا ،
فيأتيهم ربهم ، فيقول لهم : ما تنتظرون ؟ فيقولون : ننتظر ربنا ، فيعرفونه بساقه عندما يكشفها لهم ،
وعند ذلك يخرون له سجوداً ، إلا المنافقون فلا يستطيعون
( يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ )[القلم : 42] ،
ثم يتبع المؤمنون ربهم ، وينصب الصراط ويعطى المؤمنون أنوارهم ، ويسيرون على الصراط ،ويطفأ
نور المنافقين ، ويقال لهم : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً ، ثم يضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه
الرحمة ، وظاهره من قبله العذاب ،ويمر العباد على الصراط مسرعين بقدر إيمانهم وأعمالهم الصالحة .
حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا المشهد
روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" إذا كان يوم القيامة أذن مؤذن :لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله سبحانه
من الأصنام والأنصاب إلا يتساقطون في النار ، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من بر وفاجر ،
وغبَّر (بقايا) أهل الكتاب . فيدعى اليهود ، فيقال لهم :ما كنتم تعبدون ؟قالوا : كنا نعبد عزيز ابن
الله . فيقال : كذبتم ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد . فماذا تبغون ؟ قالواعطشنا يا ربنا ، فاسقنا .
فيشار إليهم : ألا تردون ؟
فيحشرون إلى النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً ، فيتساقطون في النار .
ثم يدعى النصارى ، فيقال لهم : ما كنتم تعبدون ؟ قالوا : كنا نعبد المسيح ابن الله ، فيقال لهم :
كذبتم ، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ، فيقال لهم : ما تبغون ؟ فيقولون : عطشنا ، يا ربنا فاسقنا
قال : فيشار إليهم : ألا تردون ؟
فيحشرون إلى جهنم كأنهم سراب ، يحطم بعضها بعضاً ، فيتساقطون في النار. حتى إذا لم يبق إلا
من كان يعبد الله من بر وفاجر ، أتاهم رب العالمين سبحانه وتعالى في أدنى صورة من التي رأوه فيها ،
قال : فماذا تنتظرون ؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد . قالوا : يا ربنا ، فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا
إليهم ، ولم نصاحبهم ، فيقول : أنا ربكم ، فيقولون : نعوذ بالله منك ، لا نشرك بالله شيئاً ( مرتين أو
ثلاثاً ) حتى إن بعضهم ليكاد أن ينقلب . فيقول : هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها ؟ فيقولون : نعم ،
فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه إلا أذن الله له بالسجود ، ولا يبقى من
كان يسجد اتقاءً ورياءً إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة كلما أراد أن يسجد خرَّ على قفاه ،ثم يرفعون رؤوسهم ،
وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة ، فقال : أنا ربكم ، فيقولون : أنت ربنا .
ثم يضرب الجسر على جهنم ، وتحل الشفاعة ، ويقولون : اللهم سَلِّم سَلِّم .قيل : يا رسول الله ، وما الجسر ؟
قال : دحض مزلة ، فيه خطاطيف وكلاليب وحسك تكون بنجد فيها شويكة يقال لها : السعدان ،فيمر المؤمنون
كطرف العين ، وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب ، فناج مسلم ،ومخدوش مرسل ، ومكدوس في
نار جهنم "
حشر الكفار إلى النَّار
جاءت نصوص كثيرة تصور لنا كيف يكون حشر الكفار إلى النار هم وآلهتهم التي كانوا يعبدونها.فمن
ذلك أنهم يحشرون كقطعان الماشية جماعات جماعات ، ينهرون نهراً غليظاً ، ويصاح بهم من هنا
وهناك ،كما يفعل الراعي ببقره أو غنمه (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ) [الطور : 13]
وأفادت النصوص أنهم يحشرون إلى النار على وجوههم ، لا كما كانوا يمشون في الدنيا على أرجلهم ،
قال تعالى :
( الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا ) [ الفرقان : 34 ]
وقبل أن يصلوا إلى النار تصك مسامعهم أصواتها التي تملأ قلوبهم رعباً وهلعاً
( إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا ) [الفرقان : 12] .
وعندما يبلغون النار ويعاينون أهوالها يندمون ويتمنون العودة إلى الدنيا كي يؤمنوا
( وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ )
[ الأنعام : 27 ].
الصراط
قال السفاريني : " الصراط في اللغة الطريق الواضح.
وفي الشرع جسر ممدود على متن جهنم ، يرده الأولون والآخرون ، فهو قنطرة بين الجنة والنار".
وقد بين شارح الطحاوية معقتده في الصراط المذكور في الأحاديث فقال :
" ونؤمن بالصراط ، وهو جسر على جهنم ، إذا انتهى الناس بعد مفارقتهم الموقف إلى الظلمة التي
دون الصراط"
وأنكر العلامة القرافي كون الصراط أدق من الشعر وأحد من السيف ، وسبقه إلى ذلك شيخه العز بن عبد
السلام ، والحق أن الصراط وردت به الأخبار الصحيحة وهو محمول على ظاهره بغير تأويل كما ثبت
في الصحيحين والمسانيد والسنن الصحاح مما لا يحصى إلا بكلفة من أنه جسر مضروب على متن جهنم
يمر عليه جميع الخلائق ، وهم في جوازه متفاوتون.
الذين يمرُّون على الصّراط
والظاهر من جملة الأحاديث أن الذين يمرون على الصراط هم المؤمنون، وفيهم المنافقون ، وعصاة المؤمنين،
لأن "الناس منقسمون إلى مؤمن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً، ومشرك يعبد مع الله غيره، فأما المشركون،
فإنهم لا يمرون على الصراط ، وإنما يقعون في النار قبل وضع الصراط " كما قال ابن رجب الحنبلي في
كتابه ((التخويف من النار)).
مرور المؤمنين على الصّراط وخلاص المؤمنين من المنافقين
عندما يُذهَب بالكفرة الملحدين ، والمشركين الضالين إلى دار البوار : جهنم يصلونها، وبئس القرار ، يبقى
في عرصات القيامة أتباع الرسل الموحدون ، وفيهم أهل الذنوب والمعاصي ، وفيهم أهل النفاق ، وتلقى
عليهم الظلمة قبل الجسر.يقول شارح الطحاوية:
" وفي هذا الموضع يفترق المنافقون عن المؤمنين ، ويتخلفون عنهم ،ويسبقهم المؤمنون ، ويحال بينهم
بسور يمنعهم من الوصول إليهم ".
الظلمة التي قبل الصراط
تُلقى الظلمة يوم القيامة على الناس قبل مرورهم على الصراط وهنا يُعطى كل إنسان نوره على قدر إيمانه
وطاعاته.قال صلى الله عليه وسلم:
" فمنهم مَنْ يُعطَى نوره مِثل الجبل بين يديه، ومنهم من يُعطَى نوره فوق ذلك، ومنهم من يعطى نوره مثل
النخلة بيمينه، ومنهم من يُعطَى دون ذلك بيمينه ،
حتى يكونَ آخر مَنْ يُعْطَى نُوره في إبهام قدمه يُضِيء مَرة ويُطفَأ أخرى، إذا أضاء قدَّم قدمه ، وإذا أطفأ قام"
وقد حدثنا تبارك وتعالى عن مشهد مرور المؤمنين على الصراط ، فقال :
( يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ
خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ - يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ
ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ
نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِالْغَرُورُ
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) [الحديد : 12-15] .
فالحق يخبر أن المؤمنين والمؤمنات الذين استناروا بهذا الدين العظيم في الدنيا ، وعاشوا في ضوئه ،
يعطون في يوم القيامة نوراً يكشف لهم الطريق الموصلة إلى جنات النعيم ، ويجنبهم العثرات والمزالق في طريق
دحض مزلة، وهناك يبشرون بجنات النعيم ، ويحرم المنافقون الذين كانوا يزعمون في الدنيا أنهم مع المؤمنين ،
وأنهم منهم، لكنهم في الحقيقة مفارقون لهم لا يهتدون بهداهم ، ولا يسلكون سبيلهم من النور ، كما حرموا
أنفسهم في الدنيا من نور القرآن العظيم ، فيطلب المنافقون من أهل الإيمان أن ينتظروهم ليستضيئوا بنورهم ،
وهناك يخدعون ، كما كانوا يخدعون المؤمنين في الدنيا ، ويُقال لهم : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً ، وبذلك يعود
المنافقون إلى الوراء ، ويتقدم المؤمنون إلى الأمام ، فإذا تمايز الفريقان ، ضرب الله بينهم بسور له باب باطنه فيه
الرحمة وظاهره من قبله العذاب ، ويكون مصير المؤمنين والمؤمنات الجنة ، ومصير المنافقين والمنافقات النار.
معنى ورُود النّار
قوله تعالى : ( وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ) [مريم : 71]
" واختلف المفسرون في المراد بالورود في قوله تعالى : ( وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ) [مريم : 71] ما هو ؟
والأظهر والأقوى أنه المرور على الصراط قال تعالى : ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا )
[مريم : 72] .
وفي (( الصحيح )) أنه صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده ، لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة " ،
قالت حفصة : فقلت : يا رسول الله ، أليس الله يقول : ( وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ) [مريم : 71] .
فقال : " ألم تسمعيه قال : ( ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا ) [مريم : 72] .
وأشار صلى الله عليه وسلم إلى أن ورود النار لا يستلزم دخولها ، وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله ،
بل تستلزم انعقاد سببه ، فمن طلبه عدوه ليهلكوه ، ولم يتمكنوا منه يقال : نجاه الله منهم .
والحق أن الورود على النار ورودان :
ورود الكفار أهل النار ، فهذا ورود دخول لا شك في ذلك كما قال تعالى في شأن فرعون
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ) [ هود : 98 ] ، أي بئس المدخل المدخول .
والورود الثاني : ورود الموحدين ، أي مرورهم على الصراط على النحو المذكور في الأحاديث