من القرآن ما يفسره الزمان
إنّ القرآن الكريم هو كتاب هداية إلى الطريق الصحيح طريق الله سبحانه وتعالى، وهو ليس من صنع بشر، وغرضه الرئيسي ومهمته الأساسية هي تصحيح الاعتقاد بالله سبحانه، وتوحيده وعبادته دون غيره، ولكنه لم يغفل أن يشير إلى الآيات والبينات العلمية التي ستحدث فيما بعد، حيث حدثنا القرآن عن كثير من الغيبيات، والآيات الباهرات التي لا يمكن للبشر أن يعرفها لولا انّ الله سبحانه قد من بها علينا، وخاصة في زمان نزول القرآن فقد أمر القرآن الإنسان أن ينظر إلى ملكوت السماوات والأرض ويتطلع إلى الكون بتفكر وتدبر، وبذلك يصل إلى درجة اليقين بوجود المبدع الحكم بقوله تعالى: (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف/ 185).
ولكن الدعوة إلى التطلع في الكون والتأمل وإعمال الفكر والاستنباط قد وضعت الأساس للمنهج التجريبي فكان من ثمرتها أن حفزت الهمم وشحذت العقول لبناء صرح حضارة عالمية مازالت مفردات مصطلحاتها مستعملة إلى اليوم في العلوم كالفلك والجبر والكيمياء في الوقت الذي كانت أوروبا تتخبط فيه في ظلمات الجهل والوهم.
ولم تكن البيئة التي نزل فيها الوحي مهيأه لتلقي حقائق لم تتحقق منها البشرية إلا بعد عصر التنزيل بقرون، ولذا كانت الإشارات العلمية في الحديث النبوي محدودة بينما فاض بها القرآن الكريم، وادخرت تلك الإشارات العلمية لأجيال قادمة تعاين حقائقها بينة على الوحي وتأييداً لرسالة التوحيد، وقد شفعت بوعد جازم نراه يتحقق اليوم، كما في قوله تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت/ 53)، ناد الرؤية للمؤمنين وإلى غيرهم يعني أنّ الوعد متحقق سواء اكتشفوا هم الحقيقة أم سبقهم إليها غيرهم، فلا مجال إذن للسؤال الذي يخلط بين التدليل على التنزيل عند تجلي الحقيقة والتبشير بها قبل اكتشافها في الواقع: لماذا ينتظر المسلمون غيرهم ليكتشفوا هم الحقائق العلمية ثمّ يدركون إشارة نصوص الوحي إليها بعد ذلك؟، ومع ذلك يمكن استلهام النصوص والاسترشاد بقواطع الدلالات لتبشير بالحقيقة التي لم يقم عليها دليل بعد.
وسأحقق رغبتك في السبق التقني بمثال؛ في الوقت الذي نبحث فيه في أيام الشتاء عن وقود التدفئة يفيض القرآن بالحديث عن حقيقة جودنا فوق قشرة رقيقة عائمة فوق دوامات جبارة من الصهير الملتهب ومخزون لا ينضب من الطاقة تحت أقدامنا مباشرة، ألا ترى أن مشكلة الطاقة في العالم قد حلت بشكل جذري!؛ يمكن بلوغ الآتون الملتهب بأنبوب معدني ممتلئ بالماء في مناطق ذات عمق يسير كما في منطقة المدينة المنورة وبتحوله إلى بخار يمكن إنتاج كهرباء مجاناً تصلح للتخزين وتكفي لتحول جزيرة العرب إلى جنة خضراء، ولكن إن صح هذا فهو استلهام وسيبقى الدليل على التنزيل هو سبق القرآن إلى الحقيقة قبل تجليها عند اكتشافها؛ على الأقل هذا ما أراه.
ومن الإشارات إلى معالم عصر التقنية التبشير بوسائل نقل تماثل الدواب المعتاد استخدامها زمن التنزيل، وذلك في قوله تعالى: (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (النحل/ 5-9)، فالشاهد قوله (ويَخلُقُ ما لا تَعْلَمونَ)، وذلك في معرض الحديث عن وسائل نقل معتادة (والخَيْلَ والبِغَال والحَمِيرَ لِتَركَبُوهَا)، وفعل (يَخْلُقُ) مضارع يدل على التجدد مما لا يجعل حداً لما ستكشفه الأيام من وسائل نقل، ولكن عندما تسترخي على كرسيك اليوم في سيارة أو باخرة أو طائرة تذكر أنك تجلس فوق دليل يشهد للقرآن بالوحي.
قال علماء التفسير: "(وَيخلُقُ مالا تعلَمُونَ) أي أن هناك أشياء ستخلق لا تعرفون عنها الآن شيئاً كالسيارة والطيارة والغواصة وذلك مما سوف تبتدعه العقول والعلم الحديث.
ولنتأمل قوله تعالى: (فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ * وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ * وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ * لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ * فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) (الإنشقاق/ 16-21)، إن تلك الظواهر الليلية معاينة معهودة؛ الشفق فبزوغ الأجرام فالبدر أنصع أحوال بهاء القمر، وتستشعر مع تتابع تلك الظواهر حركة دل عليها الترتيب، فالشفق عند غروب الشمس وعندما يجن الليل ترى الأجرام تملأ صفحة الليل قبل أن يلفتك عنها بهاء القمر، ولكن ماذا يعقب الليل؟ إنها الشمس ساطعةً أبهى من القمر؛ هكذا إذن ستتجلى حقيقة يؤكدها القرآن في تشبيه ضمني بالشمس في وضح النهار: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ)، و(الركوب) يلزمه الحمل والسفر والانتقال والهجرة كما في قوله تعالى: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا) (النحل/ 8)، وقوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) (غافر/ 79-80).
والمذهل أنّ الشكل المستدير المماثل للطبق هو فعلا الذي يحقق الاستقرار في الفضاء حيث تنعدم الجاذبية فيمكن استعادتها بالتدوير، وتصميم أوّل مدينة فضائية بهيئة طبق يدور؛ مساكنه ومزارعه في الأطراف وأبوابه يُرتقى إليها نحو السقف المحمي من الوهج بأغطية معدنية، وينعم سكانه بالرفاهية بدون منغصات كالزلازل والقوارض والأوبئة.
تريد أن تعترض، فهذا ما أردت أن أبلغه معك؛ أكتفِ إذن بمعاينة دلائل الوحي التي تحققت في زمانك ودع القادمين يعاينون ما لم تكشفه الأيام لأحد بعد، أم ترغب في التمتع بعجيبة أذهلت أساطين البيان وأخذت بألباب المتأملين على مر الزمان، فأطلق لخيالك إذن العنان ليتصور عالماً من الرفاهية والزخرف لا تحتمله الأرض وهو أشبه أن يتحقق في مدن الفضاء وأنصت لقول العلي القدير: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) (الزخرف/ 32-35)، والأثر على إثر القرآن الكريم، فقد جاء الخبر مبشراً بحضارة فضائية وانتشار الإسلام حتى يبلغ أجرام السماء.
ويفيض القرآن بمثل هذا التبشير الذي تحقق منه إلى يوم كثير فأصبح بينة على التنزيل؛ في قوله تعالى: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ * نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ) (الواقعة/ 58-61)، ماذا يعني التبشير بتقنية تخليق الإنسان من المني أو بدونه في ظروف غير معهودة بطريقة غير مسبوقة وإنشاء أجيال مبدلة ذات صفات مغايرة وإن ماثلت البشر المعهودين؟، لا تستغرب السؤال المتسم بالخيال الجامح متأثرا بالثورة العلمية التي نعيشها اليوم في مجال الوراثة واستبدال الصفات بأفضل منها وأبحاث تخليق الإنسان، ألم أقل لك سابقاً أن هناك فارق بين الإشارة العلمية التي تحققت بالفعل واستقر معناها بشهادة الواقع وبين الخيال المنطلق الذي لم يقم عليه دليل بعد!.
والحديث في كتاب الله عن الحضارات التي سادت على الأرض وبادت قبل نزوله ورد بصيغة الغيبة في قوله تعالى: (أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ...) (هود/ 20)، ولم يتواجد أحد منهم بالفعل قبل عصر الفضاء إلا في الأرض، ولكن مع الالتفات نحو حضارات المستقبل المخاطبين بالقرآن إلى قيام الساعة لم يُحصر تواجدهم في الأرض؛ قال تعالى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ...) (العنكبوت/ 22)، وتلك الإضافة المبهرة المميزة لحضارات المستقبل (وَلا في السَّمَاءِ) قد كشفت معناها الثورة العلمية المحمومة التي نعيشها اليوم في عصر الفضاء لتشهد بأن هذا القرآن وحي من عند رب الأرض والسماء؛ وإلا من أين لمحمد منذ قرون وهو الأمي هذا النبأ قبل عصر الفضاء!، هكذا تتجلى اليوم وتشع بأنوار اليقين بينات القرآن الكريم، يقول العلي القدير: (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) (الأنعام/ 66-67).
م/ن