فقد وصلنا في محطتنا السابقة إلى تلك الصور الرائعة للخطط الحربية التي نفذها "خالد بن الوليد" -رضي الله عنه-، ثم همته العالية؛ لتتبع "الروم" في عقر دارهم وآخر معاقلهم، وكان لابد من التشاور.
في غرفة القيادة:
وبعد مشاورة الرجال وقادة الجيوش وضع "خالد بن الوليد" خطته الرائعة لمهاجمة مدينة "دمشق"، ولا شك أن كل هذه الخطط الرائعة والروح العالية لقائد جيش المسلمين جعلت "أبا عبيدة" يتروى في إبلاغ قرار العزل.
وانفض الاجتماع، واتفق القائدان على أن يهاجم المدينة "أبو عبيدة" من الجانب الشرقي، وهو جانب مفتوح، وأن يهاجمها "خالد" من الجانب الغربي، وهو الجانب المحصن.
ونفـَّذ القائد الفذ خطته بإحكام، فتسلَّق الجنود سور المدينة من الجانب الغربي، كما دخلها "أبو عبيدة" من الجانب الشرقي، والتقى الرجلان في ضواحي "دمشق"، وهنأ "أبو عبيدة" خالدًا بالنصر، فحمد الله وأثنى عليه، وشكر نعمته وفضله.
وحان وقت الرسالة:
وحان وقت الرسالة، وتذكر "أبو عبيدة" أن الوقت أصبح مناسبًا لإبلاغ "خالد" -رضي الله عنه- بأخبار العزل، فتحيـَّن الوقت المناسب فتوجه إلى خيمة "خالد بن الوليد"، وألقى عليه سلام الأخوة، ثم أردف "أبو عبيدة" قائلاً: "هناك سر ما كنت لأفضي إليك به؛ لولا أنه أمر من أمير المؤمنين، وقد بايعنا على الطاعة، ومن يؤمره علينا -أيضًا- فله منا الطاعة.
فقال "خالد": هاتِ سرَّك يا "أبا عبيدة".
قال "أبو عبيدة": أرسلك "أبو بكر" أميرًا للجيوش في بحر "الروم" بدلاً مني، وقد كان اختيارًا موفقًا رائعًا، وقد مات أبو بكر وتولى بعده "عمر بن الخطاب".
فقال "خالد": يرحم الله "أبا بكر"، فقد كان أحب الناس إلي، والحمد لله الذي ولى "عمر".
ثم سكت "أبو عبيدة".
فقال: وماذا بعدُ يا "أبا عبيدة"؟
فأجاب "أبو عبيدة" قائلاً: بعد أن تولى "عمر" خلافة المسلمين كتب إلي كتابًا يأمرني فيه أن أعزلك عن إمارة الجيوش، وأن أتولاها مكانك.
فقال "خالد": يرحمك الله يا "أبا عبيدة"، ولِمَ لَمْ تخبرني حالما وصلك كتاب أمير المؤمنين "عمر بن الخطاب"؟!
فقال "أبو عبيدة": لقد خشيت على خططك في الحرب، وخفت أن أفسدها، وقد انتصرنا بفضل الله ثم بفضل ذكائك وخبرتك في القتال.
قال خالد: جزاك الله عني خيرًا، واعلم يا "أبا عبيدة" أني جندي من جنودك، ويتساوى الأمر لدي سواء أكنتُ أميرًا للجيوش أو جنديًّا فيها، ووالله ما للدنيا نعمل، ولا سلطان الدنيا نريد، كلنا في الله إخوة. وأضاف خالد قائلاً: "أنا لا أقاتل من أجل عمر".
رحم الله "أبا عبيدة" فقد كان مثالًا للإيثار، وقدوة عظيمة، ورضي الله عن "خالد" فقد كان مثالاً للشجاعة والتواضع، وقدوةً طيبةً لكل جندي من جنود المسلمين، ورضي الله عنهما فقد قدَّما درسًا لكل قادة المسلمين في كل زمان ومكان.
وتوجَّه "أبو عبيدة" لفتح "فلسطين".
تحليل وفوائد:
1- التجرد لله من أسباب سلامة القلوب:
لقد استوى الأمر عند "أبي عبيدة" أن يكون جنديًّا أو قائدًا، كما استوى كذلك عند "خالد" -رضي الله عنهما-، وما ذاك إلا لأن قلوبهم مخلصة لله تعمل لدين الله.
2- خالد -رضي الله عنه- يضرب أروع مثال في الجندية:
"جزاك الله عني خيرًا، واعلم يا أبا عبيدة أني جندي من جنودك، ويتساوى الأمر لدي سواء أكنت أميرًا للجيوش أو جنديًّا فيها..".
3- كلمات الإخلاص والتجرد أثمن من الذهب:
"ووالله ما للدنيا نعمل، ولا سلطان الدنيا نريد، كلنا في الله إخوة"، "أنا لا أقاتل من أجل عمر".
أخي الحبيب، ليكن عملك لله -تعالى- لدينك.. لدعوتك.. لعقيدتك.. وتذكر -دائمًا- قول خالد -رضي الله عنه- وأنت تعمل: "أنا لا أقاتل من أجل عمر".
يجب ألا يتعلق العمل بالأشخاص، ولا أن يكون العمل للأشخاص أو الأحزاب، فما كان لله دام واتصل، وقل لنفسك: "أنا لا أعمل من أجل فلان"، واصبر واحتسب.