الأمين (9) الفاروق في طريقه إلى القدس
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد وصلنا في محطتنا السابقة إلى هذا اللقاء الذي أزعج "عمر" -رضي الله عنه-، وذلك عندما رأى مظاهر الترف على جنده حينما استقبلوه على مشارف "القدس"، فأشاح عنهم بوجهه وانطلق إلى غايته.
"عمر" في طريقه إلى "القدس":
وصل "عمر" في كوكبة من أصحابه وقادة جيشه إلي "القدس"، وعندما اقترب من المدينة أشار عليه بعض أصحابه قائلاً: "اترك جملك هذا يا أمير المؤمنين واركب حصانًا؛ إذ لا يليق أن يراك البطرك والقساوسة على حالة أعرابي قادم من قلب الصحراء"، فركب "عمر" بضع خطوات ثم صاح قائلاً: "أنزلوني وهاتوا جملي"، فلما سأله الناس عن سبب ذلك قال: "إن الحصان يرقص في مشيته" –أي: يختال-.
ويضرب "عمر" المثل تلو المثل لأصحابه فيكون قدوة طيبة لا ترغب في نعيم الدنيا، فبين يديه السلطان والجاه، ولكنه يتعفف عنه ويبين للناس أنه: "لا شيء له اعتبار غير العمل الصالح وتقوى الله".
وفي الطريق مر "عمر" على مخاضة فخلع نعليه وخاضها، فقال له أبو عبيدة: "ما أود أن يراك الناس هكذا"، فقال عمر: "أواه لو قالها غيرك يا أبا عبيدة؛ لجعلته نكالاً لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم-"، ثم أردف قائلاً: "إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، فمهما طلبنا العزة بغير ما أعزنا الله به؛ أذلنا الله".
نعم.. لا شيء له اعتبار غير العمل الصالح وتقوى الله.
نعم.. إن عزة المسلمين تكمن في تمسكهم بدينهم.
"عمر" في ضيافة "أبي عبيدة":
ويستضيف "أبو عبيدة" عمر في بيته تلبية لرغبة "عمر"، فلما دخل داره لم يجد فيها إلا فراشًا متواضعًا، وسيفه يزين الجدار، وقربة بها ماء يشرب منه ويتوضأ للصلاة، فابتسم عمر قائلاً "ألم تتخذ لنفسك أثاثًا غير ما أرى"، قال أبو عبيدة -رضي الله عنه-: "ما بي حاجة إلى غير ما ترى يا أمير المؤمنين، هذا يبلغنا المقيل" -الجنة-، فقال عمر متعجبًا: "كلهم غيرتهم الدنيا إلا أنت يا أبا عبيدة".
مسجد "عمر":
ودخل عمر "القدس"، وكتب عقد الأمانة مع البطرك متعهدًا فيه بالحفاظ على تراث المدينة وكنائسها وحقوق أهل المدينة، ودخل "عمر" كنيسة القيامة وحان وقت صلاة الظهر، فقال عمر: "أريد أن أصلي"، فقال البطرك: "صلِ هنا يا أمير المؤمنين"، فقال عمر: "لا أصلي في الكنيسة أبدًا لو صليت فيها جاء المسلمون بعدي وصلوا فيها، وقالوا: "هنا صلى عمر ابن الخطاب وجعلوها مسجدًا"، ثم قال للبطرك بعد أن صلى خارج الكنيسة: "دلني على مكان يبني فيه المسلمون مسجدًا"، فقال البطرك: "فوق صخرة يعقوب".
وبنى المسلمون مسجدًا وسموه: "مسجد عمر"، وعاد عمر إلى المدينة وقد حمد الله وشكر نعمائه على هذا النصر العظيم.
تحليل وفوائد:
1- لا شيء له اعتبار غير تقوى الله والعمل الصالح:
ما أعظم أن نردد هذا الشعار النبوي ونعمل به: (إِنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ) (رواه مسلم).
2- إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام:
فمن أراد العزة والكرامة ورفع الراية؛ فعليه بالإسلام، هيا بنا نعيش بالإسلام وللإسلام، وحينئذ نرتقب النصر -إن شاء الله-، "إن عزة المسلمين تكمن في تمسكهم بدينهم".
3- زهد الصحابة:
ومع كثرة المال في أيدي الصحابة لم يتخذ "أبو عبيدة" لنفسه أثاثًا في بيته غير قربة ماء وفراشًا متواضعًا، وسيفه الذي يزين الجدار، لم يهتم "أبو عبيدة" بزخرف الدنيا وزينتها، ولم تدخل الدنيا قلبه رغم أنها كانت في يده، ولذا؛ قال عمر -رضي الله عنه- متعجبًا: "كلهم غيرتهم الدنيا إلا أنت يا أبا عبيدة".