السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
أمثال القرآن لابن القيم رحمه الله
قال تعالى {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} يونس:24
شبه سبحانه الحياة الدنيا في أنها تتزين في عين الناظر فتروقه بزينتها وتعجبه
فيميل إليها ويهواها اغترارا منه بها
حتى إذا ظن أنه مالك لها قادر عليها سلبها بغتة أحوج ما كان إليها وحيل بينه وبينها
فشبهها بالأرض الذي ينزل الغيث عليها فتعشب ويحسن نباتها ويروق منظرها للناظر
فيغتر به ويظن أنه قادر عليها مالك لها فيأتيها أمر الله فتدرك نباتها
الآفة بغتة فتصبح كأن لم تكن قبل فيخيب ظنه وتصبح يداه صفرا منهما
فهكذا حال الدنيا والواثق بها سواء وهذا من أبلغ التشبيه والقياس
فلما كانت الدنيا عرضة لهذه الآفات والجنة سليمة منها قال تعالى: {اللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ}
فسماها هنا دار السلام لسلامتها من هذه الآفات التي ذكرها في الدنيا فعم بالدعوة إليها
وخص بالهداية من شاء فذلك عدله وهذا فضله .
قال تعالى {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ}
النور : 39. 40
ذكر سبحانه للكافرين مثلين مثلا بالسراب ومثلا بالظلمات المتراكمة
وذلك لأن المعرضين عن الهدى والحق نوعان
أحدهما من يظن أنه على شيء فيتبين له عند انكشاف الحقائق خلاف ما كان يظنه
وهذه حال أهل الجهل وأهل البدع والأهواء الذين يظنون أنهم على هدى وعلم فإذا انكشفت الحقائق
تبين لهم أنهم لم يكونوا على شيء وأن عقائدهم وأعمالهم التي ترتبت عليها كانت كسراب
يرى في أعين الناظرين ماء ولا حقيقة له وهكذا الأعمال التي لغير الله عز وجل وعلى غير أمره
يحسبها العامل نافعة له وليست كذلك وهذه هي الأعمال التي قال الله عز وجل فيها
{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً}
وتأمل جعل الله سبحانه السراب بالقيعة وهي الأرض الخالية القفر من البناء والشجر مثل من عمله كسراب
أو في بجر لجي والنبات والعالم فمحل السراب أرض قفر لا شيء بها والسراب لا حقيقة له
وذلك مطابق لأعمالهم وقلوبهم التي أقفرت من الإيمان والهدى
وتأمل ما تحت قوله: {يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً} والظمآن الذي اشتد عطشه فرأى السراب فظنه ماء
فتبعه فلم يجده شيئا بل خانه أحوج ما كان إليه فكذلك هؤلاء لما كانت أعمالهم على غير طاعة الرسل
ولغير الله جعلت كالسراب فرفعت لهم أظمأ ما كانوا إليها فلم يجدوا شيئا
ووجدوا الله سبحانه ثم فجازاهم بأعمالهم ووفاهم حسابهم
وفي الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث التجلي يوم القيامة
ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها السراب فيقال لليهود وما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد عزيرا ابن الله
فيقال كذبتم لم يكن لله صاحبة ولا ولد فما تريدون قالوا: نريد أن تسقينا فيقال اشربوا فيتساقطون في جهنم
ثم يقال للنصارى ما كنتم تعبدون فيقولون كنا نعبد المسيح ابن الله فيقال كذبتم ما كان لله صاحبة ولا ولد
فما تريدون فيقولون أن تسقينا فيقال لهم اشربوا فيتساقطون وذكر الحديث
وهذه حال كل صاحب باطل فإنه يخونه باطله أحوج ما كان إليه فإن الباطل لا حقيقة له وهو كإسمه باطل
فإذا كان الاعتقاد غير مطابق ولا حق كان متعلقه باطلا وكذلك إذا كانت غاية العمل باطلة
كالعمل لغير الله عز وجل أو على غير أمره بطل مثل من عرف الحق والهدى
وعمل بغيره بطل العمل ببطلان غايته وتضرر عامله ببطلانه وبحصول ضد ما كان يؤمله
فلم يذهب عليه عمله واعتقاده لا له ولا عليه بل صار معذبا بفوات نفعه وبحصول ضد النفع
فلهذا قال تعالى: {وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ}
فهذا مثل الضال الذي يحسب أنه على هدى.
قال تعالى { أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأمْثَالَ } الرعد : ١٧
شبه الوحي الذي أنزله لحياة القلوب والأسماع والأبصار بالماء الذي أنزله لحياة الأرض بالنبات
وشبه القلوب بالأودية فقلب كبير يسع علما عظيما كواد كبير يسع ماء كثيرا
وقلب صغير إنما يسع بحسبه كالوادي الصغير فسالت أودية بقدرها
واحتملت قلوب من الهدى والعلم بقدرها كما أن السيل إذا خالط الأرض ومر عليها احتملت غثاء وزبدا
فكذلك الهدى والعلم إذا خالط القلوب أثار ما فيها من الشهوات والشبهات ليقلعها ويذهبها
كما يثير الدواء وقت شربه من البدن أخلاطه فتكرب بها شاربه وهي من تمام نفع الدواء
فانه أثارها ليذهب بها فإنه لا يجامعها ولا يساكنها وهكذا {يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}
ثم ذكر المثل الناري فقال: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ}
وهو الخبث الذي يخرج عند سبك الذهب والفضة والنحاس والحديد فتخرجه النار وتميزه
وتفصله عن الجوهر الذي ينتفع به فيرمى ويطرح ويذهب جفاء فكذلك الشهوات والشبهات
يرميها قلب المؤمن ويطرحها ويجفوها كما يطرح السيل والنار ذلك الزبد والغثاء والخبث
ويستقر في قرار الوادي الماء الصافي الذي يسقي منه الناس ويزرعون ويسقون أنعامهم
كذلك يستقر في قرار القلب وجذره الإيمان الخالص الصافي الذي ينفع صاحبه وينتفع به غيره
ومن لم يفقه هذين المثلين ولم يتدبرهما ويعرف ما يراد منهما فليس من أهلهما والله الموفق.
أمثال القرآن لابن القيم رحمه الله
قال تعالى (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43) ) العنكبوت
ذكر سبحانه إنهم ضعفاء وأن الذين اتخذوهم أولياء مثل المشرك بالعنكبوت أضعف منهم فهم في ضعفهم
وما قصدوه من اتخاذ الأولياء كالعنكبوت اتخذت بيتا وهو أوهن البيوت وأضعفها
وتحت هذا المثل أن هؤلاء المشركين أضعف ما كانوا حيث اتخذوا من دون الله أولياء
فلم يستفيدوا بمن اتخذوهم أولياء إلا ضعفا
كما قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّاً كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}
وقال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ لايَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ}
وقال بعد أن ذكر هلاك الأمم المشركين
{وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ}
فهذه أربعة مواضع في القرآن تدل على أن من اتخذ من دون الله وليا يتعزز به و يتكثر به ويستنصر به
لم يحصل له به إلا ضد مقصوده وفي القرآن أكثر من ذلك وهذا من أحسن الأمثال وأدلها على بطلان الشرك
وخسارة صاحبه وحصوله على ضد مقصوده
فإن قيل فهم يعلمون أن أوهن البيوت بيت العنكبوت فكيف نفى عنهم علم ذلك بقوله: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ}.
فالجواب أنه سبحانه لم ينف عنهم علمهم بوهن بيت العنكبوت وإنما نفى علمهم بأن اتخاذهم أولياء من دونه
كالعنكبوت اتخذت بيتا فلو علموا ذلك لما فعلوه،
ولكن ظنوا أن اتخاذهم الأولياء من دونه يفيدهم عزا وقوة فكان الأمر بخلاف ما ظنوا
قال تعالى {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الجمعة : 5
فقاس سبحانه من حمله كتابه ليؤمن به ويتدبره ويعمل به ويدعو إليه ثم خالف ذلك
ولم يحمله إلا على ظهر قلب فقرأه بغير تدبر ولا تفهم ولا اتباع له ولا تحكيم له ولا عمل بموجبه
كحمار على ظهره زاملة أسفار لا يدري ما فيها وحظه منها حملها على ظهره ليس إلا
فحظه مثل الذين حملوا التوراة من كتاب الله كحظ هذا الحمار من الكتب التي على ظهره
فهذا المثل وإن كان قد ضرب لليهود فهو متناول من حيث المعنى
لمن حمل القرآن فتركقال تعالى ( ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ) الروم : 28
وهذا دليل قياسي احتج الله سبحانه به على المشركين حيث جعلوا له من عبيده وملكه شركاء
فأقام عليهم حجة يعرفون صحتها من نفوسهم ولا يحتاجون فيها إلى غيرهم
ومن أبلغ الحجاج أن يأخذ الإنسان من نفسه ويحتج عليه بما هو في نفسه مقرر عندهم معلوم لها
فقال: {هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} عبيدكم وإمائكم شركاء في المال والأهل
أي هل يشارككم عبيدكم في أموالكم و أهليكم فأنتم وهم في ذلك سواء
تخافون أن يقاسموكم أموالكم ويشاطروكم إياها ويستأثرون ببعضها عليكم كما يخاف الشريك شريكه
قال ابن عباس: "تخافون أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضا"
والمعنى هل يرضى أحد منكم أن يكون عبده شريكه في ماله وأهله
حتى يساويه في التصرف في ذلك فهو يخاف أن ينفرد في ماله بأمر يتصرف فيه
كما يخاف غيره من الشركاء والأحرار فإذا لم ترضوا ذلك لأنفسكم فلم عدلتم بي من خلقي من هو مملوك لي
فإن كان هذا الحكم باطلا في فطركم وعقولكم مع أنه جائز عليكم ممكن في حقكم
إذ ليس عبيدكم ملكا لكم حقيقة وإنما هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم وأنتم وهم عبادي
فكيف تستجيزون مثل هذا الحكم في حقي
مع أن من جعلتموهم لي شركاء عبيدي وملكي وخلقي فهكذا يكون تفصيل الآيات لأولي العقول
قوله تعالى ( فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (51) )
المدثر
تشبيه لمن أعرض عن كلامه وتدبره
شبههم في إعراضهم ونفورهم عن القرآن بحمر رأت الأسد والرماة ففرت منه
وهذا من بديع التمثيل فإن القوم من جهلهم بما بعث الله سبحانه رسوله كالحمر فهي لا تعقل شيئا
فإذا سمعت صوت الأسد أو الرامي نفرت منه أشد النفور وهذا غاية الذم لهؤلاء
فإنهم نفروا عن الهدى الذي فيه سعادتهم وحياتهم كنفور الحمر عما يهلكها ويعقرها
وتحت المستنفرة معنى أبلغ من النافرة فإنها لشدة نفورها قد استنفر بعضها بعضا وحضه على النفور
فإن في الاستفعال من الطلب قدرا زائدا على الفعل المجرد
قال تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) ) آل عمران
هذا مثل ضربه الله تعالى لمن أنفق ماله في غير طاعته ومرضاته فشبه سبحانه
ما ينفقه هؤلاء من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر لا يبتغون به وجه الله
وما ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله واتباع رسله عليهم الصلاة والسلام
بالزرع الذي زرعه صاحبه يرجو نفعه وخيره فأصابته ريح شديدة البرد جدا
يحرق بردها ما يمر عليه من الزرع والثمار فأهلكت ذلك الزرع وأيبسته.
واختلف في الصر فقيل البرد الشديد وقيل النار
قاله ابن عباس وقال الأنباري وإنما وصفت النار أنها صر لتصريتها عند الالتهاب
وقيل الصر الصوت الذي يصحب الريح من شدة هبوبها
والأقوال الثلاثة متلازمة فهو برد شديد محرق بيبسه للحرث كما تحرق النار وفيه صوت شديد
وفي قوله: {أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} تنبيه على أن سبب إصابتها لحرثهم هو ظلمهم
فهو الذي سلط عليهم الريح المذكورة حتى أهلكت زرعهم وأيبسته
فظلمهم هو الريح التي أهلكت أعمالهم ونفقاتهم وأتلفتها
قال تعالى ( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ )
البقرة : 171
المعنى أن مثل هؤلاء في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعآءهم كمثل الناعق بغنمه
فلا ينتفع بنعقته شيئا غير أنه في دعآء ونداء وكذا المشرك ليس له من دعائه وعبادته إلا العناء
وقيل المعنى ومثل الذين كفروا كالبهائم التي لا تفقه مما يقول الراعي أكثر من الصوت
فالراعي هو داعي الكفار والكفار هم البهائم المنعوق بها
قال سيبويه المعنى ومثلك يا محمد ومثل الذين كفروا كمثل الناعق و المنعوق به
وعلى قوله فيكون المعنى ومثل الذين كفروا وداعيهم كمثل الغنم والناعق بها .
ذلك أن تجعل هذا من التشبيه المركب
فإن جعلته من المركب كان تشبيها للكفار في عدم فقههم وانتفاعهم بالغنم التي ينعق بها الراعي
فلا تفقه من قوله شيئا غير الصوت المجرد الذي هو الدعاء والنداء
والله أعلم.
أمثال القرآن لابن القيم رحمه الله بتصرف