إن ربي قريب مجيب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
ففي خضم أحداث سياسية خطيرة يحتاج الواحد منا إلى وقفة يرتفع فيها بقلبه عن أسوار الواقع الذي يحبس القلب في موازين الأرض؛ ليحلِّق بعيدًا ويشهد حقائق الوجود، وآثار أسماء الله وصفاته ليلجأ إلى الله -عز وجل- بالدعاء والتضرع؛ لأن كثيرًا من الأمور أحيانًا لا يملك المرء لها أسبابًا لعلاجها إلا أن يدعو الله -عز وجل- القريب المجيب.
هناك من الأسماء والصفات ما لا يدركه إلا المؤمنون الذين لاقوا ووجدوا وأحسوا حلاوة الإيمان، وشهدوا آثار الصفات في نفوسهم وفيمن حولهم وفي معاملة الوجود والخلق كلهم، فضلاً عن معاملة الخالق الرب الإله معهم وما فعله بهم من أنواع الإحسان والإكرام الخارجي والداخلي في نفوسهم، فاسم الرحيم الدال على الرحمة الخاصة كما قال الله -تعالى-: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا) (الأحزاب:43)، يُدرِك أثره مَن شعر بنعمة الإسلام وقارن بين العمى والبصر، والظلمات والنور، والظل والحرور؛ يدرك رحمة الله به إذ جعله بصيرًا وجعله في النور وجعل في قلبه النور وغيره في الظلمات أعمى، نعوذ بعزة الله أن يضلنا هو الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون.
جعله الله في ظل وراحة وسكون وسعادة... وغيره في حرور الكفر في دنياه ومبعثه وبرزخه ومثواه جنهم -والعياذ بالله-، جعله الله حيًّا منشغلاً قلبه ليتأله الإله الحق، وغيره ميت من الأموات: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (الأنعام:122)، حينئذٍ يدرك معنى قوله -تعالى-: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا) (المائدة:3)، ويدرك معنى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107).
فإذا قال: يا رب ارحمني لم يكن في حسه قط رحمته له بإسكات ألم يؤلمه أو قضاء حاجة يحتاجها أو إخراجه من ظلم أو كرب، بل يكون في أصل حسه: رب ارحمني، لا تبعدني عنك وعن معرفتك ومحبتك وحسن عبادتك... ارحمني بأن تقربني إليك ولا تحجبني عنك... ارحمني بأن تزيدني علمًا وسجودًا لعظمتك ومنتك وفضلك... ارحمني بأن تجعل عاقبتي ومأواي جنتك، فهذه رحمة خاصة يطلبها المؤمن ويشهد آثارها التي هي بالنسبة إلى ما ينتظره في الجنة قطرة من نهر.
وكذلك يجد المؤمن من آثار اسميه -سبحانه وتعالى- القريب المجيب من آثار القرب والإجابة ما لا يجده غيره من الناس، فيجد إجابة الله له في دعائه وقضاء حوائجه التي يعلمها ويسألها والتي لا يعلمها ولا يسألها، ولكل واحد منهم تجربة خاصة في إجابة دعوات كانت أبعد شيء عن الأذهان فيجزم بما وجد أن وعد الله في قوله -تعالى-: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر:60)، سوف يكون ولو تأخر، ولربما يكون تأخره إلى يوم اللقاء فيجد من أنواع السرور والنعيم المعد له بالدعوات التي دعا بها، ويقول في نفسه: يا ليته لم يستجب لشيء في الدنيا، وإذا وجد الناس يستبقون إلى شيء معين قال لهم: "إني أعلم من الله ما لا تعلمون".
ونلحظ الاقتران بين القرب والمحبة في آيات وأحاديث كثيرة قال الله -تعالى-: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) (البقرة:186)، وقال صالح -عليه السلام-: (إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ) (هود:61)، وقال -تعالى- في الحديث القدسي: (وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ) (رواه البخاري).
فنجد في الحديث قرب العبد من ربه بالفرائض والنوافل حتى يصير محبوبًا إلى الله -سبحانه-، ثم قرب الرب من عبده حتى يصير سمعه وبصره ويده ورجله، فبه يسمع وبه يبصر وبه يمشي وبه يبطش، أي مستعينًا به على أن تكون هذه الجوارح في طاعته ومحبته ومرضاته، ويقويه الله بقربه منه على ما لا يقدر لغيره من الناس، فيسمع ما لا يسمعون ويبصر ما لا يبصرون ويبطش ما لا يبطشون، ويمشي ما لا يمشون، ونتذكر كيف سمع سارية صوت عمر -رضي الله عنه-، وكيف رأى أسيد بن حضير -رضي الله عنه- الملائكة، وكيف بطش الصحابة في قتالهم حتى انتصروا على أضعاف أضعافهم في القوة والعدد والعدة، وكيف مشوا على الماء وقطعوا القفار في الأيام القليلة جهادًا في سبيله؟!
وفي آخر الحديث القدسي العظيم: (وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ) فهي الإجابة.
نسأل الله -عز وجل- العزيز القوي الودود المجيب بأن يمتعنا بقربه في الدنيا والآخرة، ونسأل الله -عز وجل- أن يحفظ مصر من كل سوء وبلاء، وأن يحفظ أمتنا كلها من المحن والفتن.