قال ابن كثير في حديثه عن عثمان بن عفان :... ففتح الله على يديه كثيرا من الأقاليم والأمصار، وتوسعت المملكة الإسلامية، وامتدت الدولة المحمدية، وبلغت الرسالة المصطفوية في مشارق الأرض ومغاربها، وظهر للناس مصداق قوله تعالى: "وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [النور: 55]، وقوله تعالى: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" [التوبة: 33]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله». وهذا كله تحقق وقوعه وتأكد وتوطد في زمان عثمان
2- التطور في فنون الحرب والسياسة:
كانت الحروب تنشأ بين الشعوب من أجل قطعة من الأرض يراد تملكها، أو بسبب اعتداء يقع على بلد أو قبيلة، ولكنها في عهد النبوة والعهد الراشدي أصبحت بسبب المبادئ؛ فالمسلمون يريدون أن تكون عقيدتهم هي السائدة والمهيمنة في الأرض، فاصطدمت بعقائد فاسدة ومنحرفة كعقائد المشركين والمجوس، على أن هذا لم يكن كل شيء في التطور الحربي، بل نجد لونا جديدا آخر وهو ما كان يعرضه المجاهدون المسلمون على أعدائهم من: الإسلام أو الجزية أو المناجزة، ونتج عن تلك الفتوح سياسة فذة أرضت جميع الشعوب إلا من كان في قلبه حقد على العدل والمساواة ممن كانت تحدثهم نفوسهم بالفتن والعصيان، وهؤلاء اضطروا المسلمين أحيانا إلى الشدة معهم والتنكيل بهم
3- بدء التجنيد الإلزامي في عهد عمر واستمراره في عهد عثمان:
كانت معركة القادسية من أسباب اتخاذ الفاروق لقرار التجنيد الإلزامي، فقد أمر عماله على الأقاليم بإحضار كل فارس ذي نجدة أو رأى أو فرس أو سلاح، فإن جاء طائعا وإلا حشروه حشرا وقادوه مقادا، واستعجلهم في ذلك بحزمه المشهور قائلا: لا تدعوا أحدا إلا وجهتموه إليَّ، والعَجَلَ العجل. وكان عمر يفكر في التجنيد الإلزامي الموقوف للجهاد، فلما دوَّن الديوان ورتب للمسلمين أرزاقهم السنوية، خرجت فكرته إلى حيز الوجود، واقترنت نشأة الديوان بنشأة التجنيد النظامي الرسمي، وحددت للجنود النظاميين عطاياهم ورواتبهم من بيت مال المسلمين، وعندما أذن عثمان لمعاوية بالغزو بحرا أمره أن يخير الناس ولا يكرههم؛ حتى لا يذهب أحد إلى هذا الضرب من الغزو إلا طائعا مختارا، أما التجنيد برا لإتمام حركة الفتوح، فقد ظل في عهده إلزاميا على أصحاب الرواتب والأرزاق من الجنود النظاميين
4- اهتمام عثمان بحدود الدولة الإسلامية:
ترتب على توسع الدولة الإسلامية في عهد عثمان الاستمرار في سياسة تحصين الثغور للحفاظ على حدود الدولة الإسلامية من مهاجمة الأعداء، سواء كان ذلك بشحنها بالجند المرابطين أو بناء الحاميات الدفاعية المختلفة بها، فكان أول كتاب كتبه عثمان بن عفان في خلافته لأمر الأجناد في الثغور لحماية حدود الدولة الإسلامية قوله: أما بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا بل كان على ملإ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل، فيغير الله ما بكم ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون فإني أنظر فيما أكرمني الله النظر فيه والقيام عليه وتسهيلا وتيسيرا للعملية الإدارية جمع الخليفة عثمان لمعاوية بن أبي سفيان الشام والجزيرة وولاية ثغورهما في إدارة موحدة، وكلفه بغزو ثغر شمشاط بنفسه، أو أن يولي ذلك من يرتضيه من كبار قواده من أصحاب الخبرة والشجاعة الراغبين في الجهاد والحرب مع الروم. كما كتب أيضا لمعاوية بن أبي سفيان أن يلزم ثغر أنطاكية قوما، وأن يقطعهم القطائع به ففعل ذلك وكان يهتم بأمر الثغور ويبعث من يستعلم له عن بعضها، وعندما غزا معاوية بن أبي سفيان عمورية وجد الحصون التي فيها بين ثغر أنطاكية وثغر طرسوس خالية من مقاتلة الروم، فجعل به جماعة من جند الشام والجزيرة وقنسرين وأمرهم بالوقوف عندها لتحمي ظهره أثناء انسحابه وانصرافه من غزواته، ثم أغزى بعد ذلك بسنة أو سنتين يزيد بن الحر العبسي الصائفة وأمره بفعل الشيء نفسه، وكانت ولاة الصوائف والشواتي إذا دخلوا بلاد الروم فعلوا ذلك؛ حيث يخلفون بها جندا كثيفا إلى خروجهم من أرض العدو، وقد أبلى معاوية بن أبي سفيان في أثناء إدارته للسواحل الشامية وفي تحصينها بلاء حسنا وكتب عثمان لعبد الله بن سعد بن أبي السرح يأمره بالحفاظ على ثغر الإسكندرية بإلزام الجند المرابطة به وأن يجري عليهم أرزاقهم، وأن يعقب بين المرابطين من أجل أنه لا يضر بهم التجمير، فقال له: قد علمت كيف كان هم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بالإسكندرية، وقد نقضت الروم مرتين، فألزم الإسكندرية مرابطيها، ثم أجرِ عليهم أرزاقهم وأعقب بينهم في كل ستة أشهر وكان من عادة قادة الخليفة عثمان بن عفان إذا تقدموا في الفتوح واستولوا على حصون العدو قاموا بترميمها كمن سبقهم من القادة، ثم إسكانها جند المسلمين من المرابطين، بالإضافة إلى استحداثهم لتحصينات دفاعية جديدة، فمن تلك الحصون التي قام بترميمها معاوية بن أبي سفيان: حصون الفرات وهي سميساط، وملطية وسمشاط وكمخ, وقاليقلا، وهي حصون استولى عليها المسلمون عند فتحهم لأرمينية في عهد عثمان ، وقاموا بترميمها وإسكانها الجند ففي قاليقلا قام القائد حبيب بن مسلمة الفهري بإسكان ألفي رجل وأقطعهم بها القطائع، وجعلهم مرابطين بها وقد كلف الخليفة عثمان القائد حبيب بن مسلمة بأن يقيم بثغور الشام والجزيرة لإدارتها وحمايتها وعندما فتح البراء بن عازب ثغر قزوين رتب فيهم خمسمائة رجل من جند المسلمين وعين عليهم قائدا وأقطعهم أرضا وضياعا لا حق فيها لأحد، فعمروا وأجروا أنهارها وحفروا آبارها وحين فتح سعيد بن العاص طميسة جعل بها مرابطة من ألفي رجل وعين عليهم قائدا إلى غير ذلك من التحصينات التي أنشئت بالثغور في إدارة الخليفة عثمان بن عفان ، والتي كانت تشحن بالجند لحماية حدود الدولة الإسلامية
وعني الخليفة عثمان في إدارته بأمر الصوائف والشواتي؛ حيث عمل على تسييرها وتسهيل أمرها في كل عام، وكان يتولاها كبار قادته وولاته أمثال معاوية بن أبي سفيان الذي بنى جسرا بمنبج لمرور الصوائف عليه فلم يكن قبل إذ، وقد فوض الخليفة عثمان إلى واليه معاوية في غزو الروم وتولى قيادة الصائفة من يختاره، فولي معاوية سفيان بن عوف الذي لم يزل على الصوائف في عهد عثمان t، ولم تقتصر حملات الصوائف والشواتي على الحدود البرية بل شملت كذلك البحر في عهد عثمان
5- قسمة الغنائم بين أهل الشام والعراق:
استطاع حبيب بن مسلمة أن يهزم الروم في أرمينية قبل وصول مدد الوليد بن عقبة من الكوفة، وغنم أهل الشام غنائم كثيرة، وبعد وصول مدد أهل الكوفة اختلفوا في أمر الغنائم، مما جعل حبيبا يكتب بذلك إلى معاوية فكتب معاوية, إلى الخليفة عثمان يخبره بذلك، فحكم عثمان بن عفان على أهل الشام أن يقاسموا أهل العراق ما غنموا من تلك الغنائم، فلما ورد كتاب الخليفة عثمان بن عفان حبيب بن مسلمة قرأه على جند أهل الشام، فقالوا: السمع والطاعة لأمير المؤمنين، ثم قاسموا أهل العراق وغنموا
6- الحرص على وحدة الكلمة في مواجهة العدو:
في عهد عثمان استخلف عبد الله بن عامر على خراسان قيس بن الهيثم السلمي، حيث خرج منها فجمع قارن جمعا كثيرا من ناحية الطبسين وأهل بادغيس وهراة وقستهان، فأقبل في أربعين ألفا، فاستشار قيس بن الهيثم عبد الله بن خازم قائلا له: ما ترى؟ قال: أرى أن تخلي البلاد فإني أميرها ومعي عهد من ابن عامر، إذا كانت حرب بخراسان فأنا أميرها، وأخرج كتابا قد افتعله عمدا، فكره قيس مشاغبته وخلاه والبلاد أحب قيس بن الهيثم بفعله هذا أن يجمع الكلمة بدلا من تفريقها حتى لا يحدث الفشل والوهن للجنود، فتكون الهزيمة، وقد تم النصر للمسلمين على الأعداء بحمد الله
7- شرط ما يحتاج إليه الجنود في بنود الصلح:
في عهد عثمان زادت الفتوحات الإسلامية اتساعا مما جعل قادته يشترطون في بعض عهودهم للصلح بأن تكون من المواشي والطعام والشراب لإعداد ما يحتاج إليه الجيش؛ من زاد وتموين وميرة حتى تساعدهم في فتوحاتهم، فلا يتكلفون عناء حمل الميرة من القيادة المركزية ويستغنون عن طلبها؛ ليكونوا على الحرب أوفر وعلى منازلة العدو أقدر
8- جمع المعلومات عن الأعداء:
استمرت الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة عثمان بن عفان , وكان يهتم بالأخبار ويتقصاها بنفسه، وسار قادته على منوال من سبقهم من القادة بالاعتناء بأمر العيون وتقصي أخبار العدو كما أنهم جعلوها شرطا من شروط المعاهدات بينهم وبين المعاهدين حيث طلبوا منهم بأن ينصحوا وينذروا المسلمين بسير عدوهم إليهم, ومعاونتهم بأن يكونوا عليهم جواسيس وإبلاغ المسلمين بتحركاتهم.
9- عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي من قادة الفتوح في عهد عثمان:
كان عبد الرحمن قائدا عَقَديًّا من الطراز الرفيع، وكان لتمسكه الشديد بعقيدته موضع ثقة رؤسائه ومرؤوسيه على حد سواء، بالإضافة إلى شجاعته وإقدامه وعلمه بأمور الدين، لذلك بقي قائدا لمنطقة (باب الأبواب) وواليا عليها منذ وفاة سراقة بن عمرو حتى استشهد، لم يعزل من منصبه على الرغم من تبدل الخلفاء وتغير الولاة والقادة في الكوفة مرجع عبد الرحمن المباشر، وكان عبد الرحمن يؤمن بوسائل حرب الفروسية الشريفة، فلا يخون ولا يغدر ولا يضرب من الخلف. وكان لسيرته الحسنة في منطقة (باب الأبواب) وجنوب بحر الخزر وغربه أثر أي أثر في استقرار الأمور واستتباب الأمن والنظام في تلك الربوع، فأصبحت تلك المناطق قاعدة أمامية لنشر الإسلام والفتح شمالا، فثبت الإسلام في تلك الأصقاع النائية في وجه مختلف المحن والتيارات منذ أربعة عشر قرنا حتى
ومن مواقفه الخالدة التي سطرها على صفحات التاريخ عندما خرج بالناس حتى قطع (الباب) فقال له الملك شهريار: ماذا تريد أن تصنع؟ قال: أريد (بَلَنْجَر) والترك، قال: إنا لنرضى منهم أن يدعونا من دون (الباب). قال عبد الرحمن: لكنا لا نرضى منهم ذلك حتى نأتيهم في ديارهم، وتالله إن معنا لأقواما لو يأذن أميرنا في الإمعان لبلغت فيهم (الرَدْم). قال الملك: وما هو؟ فأجابه عبد الرحمن: أقوام صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلوا في هذا الأمر بنية، كانوا أصحاب حياء وتكرم في الجاهلية، فازداد حياؤهم وتكرمهم, فلا يزال هذا الأمر دائما لهم، ولا يزال النصر معهم حتى يغيرهم من يغلبهم، وحتى يلفتوا عن حالهم وقد غزا عبد الرحمن (بلنجر) غزاة في زمن عمر بن الخطاب، فقال الترك: ما اجترأ علينا إلا ومعه الملائكة تمنعهم من الموت، فهرب منه الترك وتحصنوا فرجع بالغنيمة والظفر بعد أن بلغه خيله (البيضاء) على رأس مائتي فرسخ من (بلنجر)، وعادوا ولم يقتل منهم أحد ومن الواضح أن معنويات المسلمين كانت عالية جدا لتتابع انتصاراتهم، ولتمسكهم بدينهم، كما أن معنويات الأمم التي حاربوها كانت منهارة؛ لأن المسلمين غلبوا الأمم التي قاتلوها، لذلك هرب الأتراك من المسلمين وتحصنوا، فلم يحدث قتال فعلي في هذه الغزوة، فلم يسقط من المسلمين شهيد لقد كان عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي على جانب عظيم من التقوى والخلق الكريم، وكان تصرفه مع المغلوبين له الأثر في استتباب الأمن واستقرار النظام وانتشار الإسلام، فقد كان وفيًّا غاية الوفاء، أمينا غاية الأمانة؛ فقد أرسل ملك الباب رسولا إلى ملك (الصين) مع هدايا -وذلك قبل أن يفتح المسلمون بلاده- فعاد رسوله من رحلته بعد فتح المسلمين لتلك البلاد، وكان مع الرسول العائد هدايا من ملك الصين بينها ياقوتة حمراء ثمينة، وكان ملك (الباب) حين عودة رسوله في مجلس عبد الرحمن، فتناول الملك من رسوله تلك الياقوتة ثم ناولها عبد الرحمن، ولكن عبد الرحمن ردها فورا إلى الملك بعد أن نظر إليها، فهتف الملك متأثرا وقال: لهذه -يعني الياقوتة- خير من هذا البلد (أي باب الأبواب)، وأيم الله لأنتم أحب إليَّ حكاما من آل كسرى، فلو كنت في سلطانهم ثم بلغهم خبرها لانتزعوها مني، وأيم الله لا يقوم لكم شيء ما وفيتم ووفى ملككم الأكبر.
* * *
تابع...