الموضوع
:
فوائد تفسيرية من سورة النور للشيخ محمد المختار الشنقيطي المدرس بالحرم النبوي الشريف
عرض مشاركة واحدة
05-17-2013, 08:35 PM
#
1
مجلس الادارة
بيانات اضافيه [
+
]
رقم العضوية :
1878
تاريخ التسجيل :
Jun 2012
أخر زيارة :
09-03-2020 (09:44 PM)
المشاركات :
54,004 [
+
]
التقييم :
637
SMS ~
اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك بِنُورِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشْرَقَتْ لَهُ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أَنْ تَجْعَلَنِي فِي حِرْزِكَ وَحِفْظِكَ وَجِوَارِكَ وَتَحْتِ كَنَفِك.
لوني المفضل :
Cadetblue
فوائد تفسيرية من سورة النور للشيخ محمد المختار الشنقيطي المدرس بالحرم النبوي الشريف
بسم الله الرحمن الرحيم
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [القرقان:1]. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً [الإسراء:30]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه فجعله بشيراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً [الأحزاب:46]، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد: الحمد لله الذي جمعنا في هذا المكان الطيب المبارك، والحمد لله الذي جمعنا في بيت من بيوته على أشرف كلام وأكمل نظام، جعله الله عز وجل نوراً وطريقاً إلى رحمته ودار السلام، الحمد لله الذي جمعنا على القرآن، وألف بين قلوبنا بالقرآن، وهدانا إلى رحمته بالقرآن، فليس هناك مكان أشرف عند الله عز وجل من مكان تتلى فيه آيات الله، ولا زمان أفضل من زمان يقضى في بيان كتاب الله. لذلك فإن العناية بكتاب الله عز وجل ومذاكرته وتفهُّم معانيه وترسُّم هديه، نعمة من الله تبارك وتعالى. ولذلك اصطلح العلماء رحمهم الله على تسمية هذا العلم بعلم التفسير، وإن عمَّموه قالوا: علم القرآن، وأرادوا بذلك العناية بكتاب الله عز وجل بمعرفة حدوده، والوقوف عند آياته وعظاته. ومن ثم كان أشرف العلوم وأزكاها وأعلاها: علم تفسير كتاب الله بمعرفة حلاله وحرامه، ووعده ووعيده، وبشارته ونذارته، والوقوف على أحكامه، وتبين مسائله وشرائعه، فالعناية بذلك كله توفيقٌ من الله تبارك وتعالى، ومنحةٌ وعطيةٌ من الله سبحانه وتعالى. إن كتاب الله هو حبله المتين، وصراطه المبين، وحجته على الجاحدين، ومحجته المفضية إلى رضوانه المبين، إنه كتاب الله الذي تنشرح به الصدور، وتستنير به القلوب، فكم أدمع لله عيوناً، وكم أسهر من خشية الله عز وجل جفوناً، وكم أخشع لله قلوباً، وكم أقام بين يدي الله أقداماً، وكم أصبح من أجله العبادُ صياماً، إنه كلام الله الذي هو حبل الله المتين، وعروته الوثقى، بيَّن الله عز وجل فيه الحلال والحرام، وجعله السبيل الوحيد إلى دار الكرامة والسلام، إنه كتاب الله الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، من ارتوى منه فقد ارتوى من المعين الصافي، ومن ارتوى من ذلك المعين فلا يضل ولا يشقى. قال بعض السلف: ضَمِن الله عز وجل لمن قرأ كتابه، فأحل حلاله وحرم حرامه؛ أن لا يضل ولا يشقى، قال الله عز وجل: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123]. ......
هذا الكتاب هو الذي بيننا وبين الله، من أحب هذا الكتاب واطمأن لآياته وعمل بعظاته، ووقف عند حدوده، بلَّغه الله عز وجل سعادة الدارين، وأصاب الفوز في الدارين، ولذلك لما علم السلف الصالح رحمة الله عليهم حقيقةَ العلم، استعصموا بهذا الكتاب بعد الله، واستمسكوا به، فكانوا به رهبان الليل، وفرسان النهار، ظمئوا من أجله بالهواجر، وقطعوا به الليل تسبيحاً وقرآناً. فإذا أراد الله بالعبد السعادة، وأراد أن يبلِّغه مرتبة الولاية: شرح صدره للقرآن، ونور قلبه بالقرآن، وجعله محباً للقرآن، محباً لتلاوته، محباً لمعرفة أحكامه وحدوده، محباً للعمل بما علم من ذلك القرآن، وقد أشار النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- إلى هذا الفضل العظيم والمقام الكريم، فقال عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) فشهد عليه الصلاة والسلام بأن خير العباد مَن تعلم كتاب الله، وعمل بما علم منه، وكذلك علمه للغير. وكان الصحابة رضوان الله عليهم على وعي كامل بهذه الحقيقة؛ فكان الرجل منهم يترسم كتاب الله عز وجل في ليله ونهاره.. في غيبته ومشهده؛ ففي غيبته عن الأنظار -خالياً وحيداً- يتلو كتاب الله بقلب يتدبره، وعين تخشع لآياته وتدمع من عظاته، وكذلك في المشهد على ملأٍ من الناس يفجر حكمه وأسراره، ويبيِّن أحكامه وأخباره؛ فلما كانت هذه أحوالهم رفع الله عز وجل شأنهم، وقذف في قلوب العباد محبتهم؛ فكانوا أهل القرآن، وكانت حياتهم مع القرآن.. ليلهم مع القرآن.. نهارهم مع القرآن، وأبت نفوسهم الأبية أن تخلِّف هذا الكتاب وراء الظهور حتى لقنوه صغارهم، وأدبوا عليه أطفالهم؛ فنشأ الصغير محباً لكتاب الله، وترعرع الطفل على محبة كلام الله؛ فأصبحت قلوبهم معلقةً بهذا الكتاب، وأصبحت مساجدهم تعج بأصواتهم تلاوةً للقرآن وتفسيراً. وكل ذلك يدلنا على منزلة كلام الله عند عباد الله الأخيار، وصفوته الأبرار من سلف هذه الأمة الصالح. ومن هنا نقول: لا صلاح للخلف إلا بترسم منهج السلف، كما قال الإمام أبو عبد الله مالك بن أنس رحمه الله: (لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها). ......
فلما تنكب العباد عن هذا الهدي القويم، وحادوا عن هذا الصراط المستقيم، وأصبح كتاب الله مهجوراً، وتلاوته غروراً، وأصبح الإنسان لا يعرف القرآن إلا بلسانه، أما العمل والتطبيق والتحقيق للغاية منه، والسير على هذا المنهج -منهج النبي والصحابة- فغائب عن واقع حياتنا. ولما أصبحنا بهذه المثابة وتنكبنا عن صراط الله، وذهبت حلاوة القرآن من القلوب، وأصبح كثير من الناس لا يجد لكلام الله أثراً، ولا يجد له لذة وعظةً في قلبه وفؤاده؛ صرنا إلى ما نحن فيه الآن. من هنا علمنا أن الداء كل الداء، والبلاء كل البلاء في إعراضنا عن كتاب الله، وصدق الله عز وجل إذ يقول في محكم كتابه: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه:124-126]. إن أحَبُّ المجالس إلى الله مجلس يُعْمَر بكلام الله، وأطيب الحديث حديثٌ يذكَّر فيه بكلام الله. ومن هنا أحببنا أن يكون هذا المجلس في تفسير كلام الله عز وجل، وفي بيان ما اشتمل عليه هذا الكلام من نَظْم بديع، ومعنى رفيع، يهدي إلى صراط الله عز وجل المستقيم، وسبيله القويم. أحببنا أن نتشرف بالتأسي بالسلف الصالح، فنُبَيِّنُ -ويُبَيَّنُ لنا- ما في هذا الكتاب من عظات، علها أن تكون سبباً لنا في القُرْب من رب الأرض والسماوات. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذا المجلس خالصاً لوجهه، نافعاً يوم لقائه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وأن يوفقنا فيه لصلاح القول والعمل. ......
قد كنتُ أحب أن أبتدئ مباشرة بتفسير هذه السورة التي اخترناها -أعني: سورة النور- ولكني نظرت إلى الجمع وعلمت أن الكثير يحتاج إلى شيءٍ نمهد به لبيان هذه السورة، وبيان مكانتها ومنزلتها، بعد أن نبين فضل القرآن وفضل العناية به؛ فلذلك أحببت أن أقدم بهذه المقدمة، وقد كان من المقرر أن نتكلم على بعض الأمور المهمة التي ينبغي لكل طالب علم أن يعتني بها في تفسير كتاب الله عز وجل؛ ولكني نظرتُ إلى الجمع ووجدت أن بيننا أناساً لهم حق علينا، وأن ذكر هذه المسائل قد يشوش عليهم، فآثرت أن يكون الكلام على قواعد التفسير ومسائله وضوابطه عند العلماء رحمهم الله هو خاتمة سورة النور إن شاء الله تعالى. وبعد أن ننتهي من تفسيرها بإذن الله عز وجل، سنتكلم بإسهاب في قواعد التفسير وضوابطه عند سلف الأمة وخلفها رحمة الله على الجميع. ونسأل الله عز وجل أن يمن علينا جميعاً بالتوفيق والسداد. وإنما قدمت بهذه المقدمة لما رأيت معنا الكثير من العوام، والذين يحتاجون إلى أن يُذكَّروا بهذه الذكرى، وإلا كان من المقرر أن نبدأ مباشرة في التفسير. وأنبه هنا على أمر: وهو أني كنت أحب أن يكون التفسير بذكر القراءات، وأوجه اللغات، والبسط في الأحكام والمسائل الفقهية، ولكني أخشى أيضاً التشويش على العامة. ومن هنا إن شاء الله سيكون تفسيرنا بإذن الله وسطاً لطلاب العلم بحيث يكون كالبداية لطالب العلم؛ لأننا لا نحب أن يكون فيه تشويش على العامة، كما ورد في الأثر: (حدثوا الناس بما يعلمون). فإن شاء الله سيكون في هذا القدر حظ لطالب العلم، وللعامي حتى تكون الفائدة للجميع. وسنبدأ إن شاء الله بسورة النور، وسيكون منهجنا بإذن الله عز وجل التركيز أكثر ما يكون على بيان العقيدة والأحكام الشرعية وما يتبع ذلك من الآداب. ......
سورة النور، هذه السورة العظيمة سميت بالنور لقول الله تبارك وتعالى فيها: اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:35]، وهذه التسمية لهذه السورة الكريمة إنما هي من باب تسمية الشيء بما ورد فيه، فتسمية سور القرآن بما ورد فيها من الحوادث، أو بما ورد فيها من الأحكام المهمة؛ وهو منهج موجود في كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك سميت بهذا الاسم لشرف الآية المذكورة، قال العلماء: إن تسمية السور بما ورد فيها يعتبر من باب الدلالة على ذلك الجزء المسمى به، سواء كان حكماً، أو كان قصةً، أو كان خبراً. وهذه السورة مدنية بالإجماع، نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، و السور المدنية التي تمتاز ببيان الشرائع والأحكام.
استفتح الله تبارك وتعالى هذه السورة بتنبيه العباد إلى فضلها، وعلو مكانها ومنزلتها. فقال جل من قائل بعد أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحَيْمِ سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1] قد كان من عادة القرآن أن تُسْتَفتح السور فيه بمقاصده، ويذكر الله عز وجل فيها ما يذكره، ولكن هذه السورة خاصة استفتحها الله عز وجل بتنبيه العباد على عظيم شأنها، ولذلك اعتُبر من خصائص سورة النور أن الله عز وجل استفتحها ببيان فضلها، فهذه منزلة لسورة النور لم تشاركها فيها غيرها من سور القرآن.
ثم انتقلت الآيات إلى بيان أسباب الشرور والفتن والمحن كلها، وذلك في آيةٍ مشتملةٍ على وصية من الله، يقول الله عز وجل فيها: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [النور:21]، فرَدَّ الأمور إلى أسبابها، وأقامها في نصابها، وبيَّن أنها بسبب تتبع الشيطان، وأن الإنسان لا يُبْلى بفاحشة ولا منكر إلى من طريقه
ثم مضت السورة إلى ما يتبع ذلك من بيان عظمة الله تبارك وتعالى وجلاله، فتحدثت عن آيات الله في الكون، فذكَّرت بآياته على الأرض، وذكرت بآياته في السماء، وذكَّرت بآياته بين السماء والأرض، حتى ذكّرت بالطير صافات، تسبح بحمد ربها، وتذكر خالقها، فحركت هذه الآيات من المؤمن أحاسيسه ووجدانه في طاعة الله عز وجل وذكره
ثم انتقلت هذه الآيات بعد ذلك إلى بيوت المسلمين، فأدبت الصغير والكبير في الدخول والخروج، وأثبتت وجوب الاستئذان، وبيَّنت حدوده وزمانه، وبيَّنت البيوت التي يجب الاستئذان عند دخولها، والبيوت التي لا حرج في دخولها من دون استئذان. ثم انتقلت الآية من مَعْلَمِ خير إلى مَعْلم خير آخر، حتى خُتِمت بالدلالة على عظمة الله، وبيان جلال الله تبارك وتعالى. وهذا كله بأسلوب رفيع، ونظم بديع، يذكر بالله العظيم السميع. وبداية ومع هذه السورة الكريمة نسأل الله عز وجل أن يفتح علينا فيها فتوح العارفين به، وأن يلهمنا سداد القول والعمل. والله تعالى أعلم.
ثم بعد ذلك انتقلت هذه السورة الكريمة إلى قضية عظيمة عاشها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاشتها أم المؤمنين في أيام عصيبة، وليالٍ مؤلمة، لا يعلم ما بلغ بها من الهم والغم غير ربها، فقد عانت ولاقت ما لاقت حتى جعل الله لها فرجاً ومخرجاً، فجاءت هذه الآيات سلواناً للمؤمنات، إذا قُذِفت المؤمنة وأوذيت في عرضها تذكرت بتلك الآيات أمها، فصَبَرت، وسَلَت وتعزَّت
وهذه السورة بيَّن الله تبارك وتعالى فيها جملة من الشرائع والأحكام، وبيَّن فيها آداب شريعة الإسلام، إذ بيَّن في مطلع هذه السورة الكريمة فضلها، وبعد آية واحدة من مطلعها؛ إذا بآياتها تفاجئك بحد من حدود الله وعقوبة من عقوباته التي كسر بها شوكة الفسق، وقطع بها دابر الفجور والعصيان، هذا الحد هو حد الزنا الذي صان الله عز وجل به أعراض المسلمين، وحفظ به بيوت عباده المؤمنين، فبين سبحانه وتعالى وجوب حد الزنا، وبين مقداره ولزومه، وأوجب على العباد أن يقوموا به، ولا تأخذهم في الله لومة لائم في أداء ذلك الحد والقيام به على وجهه، وبعد تلك الآيات القصيرة في بيان هذا الحد العظيم، إذا به يستفتح بحد آخر وهو حد القذف الذي أدب به ألسن عباده المؤمنين، فصانهم عن قذف المؤمنين والمؤمنات، والتعرض لهم بالبهتان والزور، ونسبتهم إلى الغي والفجور، فابتدأ بحد القذف، فبيَّن الله تبارك وتعالى عقوبته، وحذر العباد من إصابته، ثم بيَّن سبحانه وتعالى بعد ذلك حكم قذف الزوج لزوجته وهي الحالة التي قد يبتلى بها العبد، فيرى من زوجه ما يسوءه لا ما يسره، فيقف ذلك الموقف العصيب بين خيارات مؤلمة، وقفها بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل الله عز وجل لهم من ذلك الغم فرجاً، كما في الصحيح من حديث عويمر العجلاني رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! إن قتل قتلتموه، وإن تكلم جلدتموه، وإن سكت سكت على غيظ) فجاءت هذه الآيات مبينةً لهذا الحد، ومبينةً للّعان الذي به يندفع الشر عن الزوج، ويُصان فراشه، ونسبه وعرضه.
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْمِ . بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحْمَنِ الْرَّحَيْمِ . سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * الزَّانِي لا يَنكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
لأن الإنسان يمر بثلاث مراحل مع كتاب الله عز وجل: المرحلة الأولى: سماعه والإصغاء إليه. والمرحلة الثانية: تدبره وتفهم معانيه. والمرحلة الثالثة: العمل بمقتضى ذلك التدبر. كما أشار الله تبارك وتعالى إلى ذلك بقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق:37].
قوله: آيَاتٍ [النور:1]: جمع آية، والآية في لغة العرب: العلامة. وقوله: بَيِّنَاتٍ [النور:1]: أي: بينة واضحة، والبينة في لغة العرب: هي الحجة والدليل الواضح، ومنه قول زهير في قصيدته: أضاءت فلم تغفر لها خلواتها فلاقت بياناً عند آخر معهد دماً عند شلوٍ تحجل الطير حوله وبضع لحام في إهاب مقدد فقوله (بياناً): أي: وجدت علامة واضحة على فقد صغيرها؛ لأنه يتحدث عن دابة فَقَدَت صغيرها الذي افترسه السبع، فالمراد أن البينة هي العلامة والحجة الواضحة. وقوله تعالى: (بَيِّنَاتٍ) أي: لا لبس فيها ولا غموض. قوله: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [النور:1]: لعل حرف ترج، أي على رجاء أن تتذكروا، الذِّكْر ضد الغفلة والنسيان، وذَكَرَ الشيءَ إذا استقر في ذهنه وفي ذاكرته، والمراد بالذكرى تأثرُ الإنسان بما يتلى عليه من كتاب الله عز وجل، والذكرى هي المرحلة الثانية الداعية إلى العمل.
وفي قوله تعالى: أَنْزَلْنَاهَا [النور:1]: نزل الشيء إذا انحط من مكان عالٍ إلى ما هو أسفل منه. وفي قوله: (أَنْزَلْنَاهَا) إشارة إلى مَن أنزل وإلى الشيء المنَزَّل، فالمُنْزِل هو الله، وعبَّر بضمير الجمع إشارة إلى التعظيم والتفخيم، والعرب تستخدم أسلوب الجمع أو ضمير الجمع للمفرد على سبيل التعظيم والتفخيم، فيقول الرجل المفرد: نحن فلان، أو نحن فعلنا، أو نحن قلنا، كل ذلك على سبيل التعظيم، والله خليقٌ بذلك، فهو المنزِّل سبحانه وتعالى. والضمير الأخير في قوله: (أَنْزَلْنَاهَا) عائد إلى السورة، وفي هذا دليل على علو الله تبارك وتعالى وفوقيته على خلقه خلافاً لمن زعم رد الفوقية، ومذهبُ السلف الصالح رحمة الله عليهم: إثبات الفوقية لله لدلالة الكتاب والسنة على ذلك، قال الله تبارك وتعالى: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل:50]، وهنا أشار إلى ذلك ضمناً في قوله: (أَنْزَلْنَاهَا)، كما أشار إلى هذه الصفة ضمناً في قوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10]، والأحاديث في الدلالة على هذه الصفة مستفيضة واضحة
وفي قوله سبحانه وتعالى: أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا [النور:1]: (الواو) للعطف، أي: كما أنزلناها فرضناها، وفَرَضَ الشيءَ بمعنى أوجبه، وقيل: فَرَضَ بمعنى قَطَع، ومنه فرضة السهم. وقوله: (فَرَضْنَاهَا) أي: أوجبناها، وهناك قراءتان: - (فَرَّضْنَاهَا): بالتشديد. - و(فَرَضْنَاهَا): بالتخفيف. واختلف العلماء رحمهم الله في المعنى: فقيل: (فَرَضْنَاهَا) أي: أوجبنا على العباد تحليل حلالها وتحريم حرامها، وهذا هو قول مجاهد بن جبر رحمه الله تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما. والقول الثاني في قوله: (فَرَضْنَاهَا) أي: بيَّناها وأوضحناها، وهو قول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما. وفي قوله تعالى: (فَرَضْنَاهَا) أي: فرضنا على العباد علمها، وقد اختار بعض العلماء رحمهم الله الجمع بين المعنيين، وهو قول الإمام ابن جرير الطبري رحمة الله عليه، فقد اختار أن قوله تعالى: (فَرَضْنَاهَا) المراد كلا الأمرين: أي أوجبنا على العباد إحلال حلالها وتحريم حرامها، وبيَّنَّا لهم فيها الأحكام والشرائع
وفي قوله تعالى: وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [النور:1]: تارةً يعبِّر القرآنُ بـ(أنْزَل) وتارةً يعبِّر بـ(نَزَّل)، قال بعض العلماء: هناك فرق بين قوله تعالى: (أنْزَل) وبين قوله: (نَزَّل)، فإن عُبِّر بـ(أنْزَل)؛ فالمراد به نزول الشيء كاملاً، وإن عُبِّر بـ(نَزَّل)؛ فالمراد به تجزئة الشيء ونزوله نجماً نجماً. وهذا هو اختيار طائفة من المحققين رحمهم الله. وقد أشار الله تبارك وتعالى إلى نزول القرآن جملةً كما في قوله تعالى: لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [النساء:166]، فعبَّر بـ(أنزل) في الجملة، وأما في التفصيل فقال: وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً [الإسراء:106]، فدل على أن (أنزل) للجميع، و(نَزَّل) للمنجم، وعلى ذلك قوله تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، أي: أنزلناه كاملاً إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، وهو اختيار طائفة من العلماء والسلف رحمهم الله. يقول تعالى: (وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ).
يقول الله تبارك وتعالى: سُوْرَةٌ أَنْزَلْنَاهَا [النور:1]: السورة -في لغة العرب- للعلماء فيها قولان: القول الأول: أنها مأخوذة من الارتفاع، ولذلك سُمِّي السور سوراً لارتفاعه عن الأرض، قالوا: سميت السورة سورة لارتفاعها وعلو منزلتها، ولأن القارئ إذا قرأها وحصَّلها حصل مرتبة لم يكن أصابها من قبل، والعرب تصف بالسورة المنزلة العالية والمقام الشريف، ومنه قول النابغة يمدح النعمان بن المنذر ملك الحيرة في قوله: ألم تر أن الله أعطاك سورةً ترى كل مَلْكٍ دونها يتذبذب أي: أعطاك منزلة عالية ومقاماً شريفاً. والقول الثاني: أن السورة مأخوذة من السؤر، وسؤر الشيء بقيته وفضلته، ولذلك يقال: سؤر الدابة، أي: بقية شرابها، وأصل السؤر في لغة العرب: القطعة من الشيء، قالوا: سميت السور سوراً من هذا الوجه؛ لأنها قطعة من القرآن، ولأنها تقطع عن غيرها، وتفصل عن غيرها بالبسملة، وتصبح منفردة.
وقوله تعالى: سُوْرَةٌ أَنْزَلْنَاهَا [النور:1]: قرئت (سورةٌ) على: - أنها خبر لمبتدأ محذوف. - أو أنها مبتدأٌ خبرُه الزانية والزاني. فهذان وجهان للعلماء
يقول تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي [النور:2] الزانية: هي المرأة التي فعلت الزنا، والزاني اسم فاعل، أي: الرجل الذي فعل الزنا، والمراد بالزنا: جريمة من الجرائم التي كانت في الجاهلية، وما زالت في الإسلام، ومعناها في اللغة كمعناها في الاصطلاح؛ ولكن في الاصطلاح معنى يُضْبَط به الزنا يختلف عن المعنى العام الموجود في لغة العرب. وقوله الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ [النور:2]: هذه الآية فيها مسائل:
المسألة الأولى: دلت الآية الكريمة على ثبوت حد الزنا، وهو جلد كل من الزاني والزانية مائة جلدة؛ ولكن هذا الحد فيه تفصيل دلت النصوص الأخرى على بيانه، وهو أن مَن فعل الزنا لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون بكراً. والحالة الثانية: أن يكون ثيباً سواءً كان رجلاً أو امرأة. أما إذا كان بكراً، فقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن البكر إذا زنا فإنه يجلد مائة جلدة؛ ولكن اختلفوا؛ هل يجب تغريبه أو لا يجب تغريبه، وذلك على ثلاثة أقوال عند أهل العلم رحمهم الله: - فمذهب الإمام أحمد و الشافعي و داوُد الظاهري أنه إذا زنى الرجل البكر بالمرأة البكر فإنه يجب جلد كل واحد منهما مائة جلدة، ثم يغرب سنة كاملة عن أهله، واحتج أصحاب هذا القول بما ثبت في الصحيح من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البكر بالبكر؛ جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب؛ جلد مائة والرجم)، وجه الدلالة من هذا الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب جلد كل بكر مائة جلدة، وأوجب تغريبَه أيضاً، ولم يفرق بين الذكر والأنثى. - أما القول الثاني في المسألة: فقالوا: لا يجب التغريب أصلاً، لا على الرجل ولا على المرأة، وهذا هو قول الإمام أبي حنيفة رحمة الله عليه، وقال الإمام: إن الله عز وجل ذكر الجلد في القرآن ولم يزد على ذلك، فنحن نقتصر على ما ورد به النص في الكتاب، وأما حديث السنة فهو زيادةُ آحادٍ فلا يُعْمَل بها لئلا يكون ذلك من باب نسخ القطعي بالظني، وذلك لا يجوز. - القول الثالث في المسألة: أنه يجب تغريب الذكر ولا يجب تغريب الأنثى، وهذا هو قول الإمام مالك رحمه الله قال: إذا زنى الرجل أقمتُ عليه الحد مائة جلدة، وأغربه عاماً كاملاً عن أهله، وأما المرأة فإنه يجب جلدها مائة جلدة ولا تغرَّب، قال: أما الرجل فاحتج بحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه في قوله: (البكر بالبكر؛ جلد مائة وتغريب عام) أما الأنثى فإني أسقط عنها التغريب؛ لأنني إذا غرَّبتها فإنه لا يخلو الأمر من حالتين: إما أن أغرِّبها بدون محرم، فأخالف النص الذي ينهى عن سفر المرأة بدون محرم، في قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم إلا ومعها ذو حرمة)، وإن غرَّبتها مع محرمها؛ فإنني أعاقب بريئاً لا ذنب له -وهو محرمها الذي سيغرَّب معها- فعلى كلا الوجهين يقول بعدم التغريب لهذا. وأصح الأقوال -والعلم عند الله- وجوب تغريب الرجل والمرأة، وذلك لصريح حديث عبادة بن الصامت في صحيح مسلم الذي تقدمت الإشارة إليه. وبناءً عليه: فإن البكر إذا زنى وجب أن يقام عليه الحد مائة جلدة، ويغرَّب عاماً كاملاً. والسؤال: ما هو التغريب؟ التغريب: مأخوذ من الغربة، وأصله سفر الإنسان، وتغريب الزاني بمعنى أن يُبعد عن المكان الذي زنى فيه سنة كاملة، وهذا علاج حكيم أراد به الشرع قطع دابر الفساد، وتهيئة البيئة الصالحة للشاب أو الشابة الذي بلي بالزنا حتى يكون أدعى لتوبته، فإذا غُرِّب عاماً كاملاً قطع عن الفساد الذي عهده، وابتعد عن المكان الذي يحركه للفتنة.
المسألة الثانية: إذا عرفنا الحد الذي صُدِّرت به الآية، فمتى يُحكم بالزنا؟ يشترط في الحكم وإثبات الزنا: - أن يزني بامرأة ليست بزوجة له، ولا بملك يمين. - وأن يكون خالياً من الشبهة كما بيَّن العلماء رحمهم الله، ولذلك قال العلماء رحمهم الله في تعريف الزنا: هو الوطء في غير نكاح ولا شبهة نكاح ولا ملك يمين، فقولهم (هو الوطء) المراد به مجاوزة رأس العضو الذي يتحقق به الزنا، وقولهم (في غير نكاح) خرج وطء النكاح؛ لأنه مباح شرعاً، وقولهم (وغير شبهة نكاح) كأن يطأ امرأة يظنها امرأة له، وليست بامرأة له، أو يقع في شبهة يظنها حلالاً فإذا هي حرام عليه، كالأنكحة الفاسدة التي يتبين فسادُها بعد الوطء، فكل ذلك يدفع عنه الحد؛ لأن الشبهة توجب دفع حد الزنا عن الزاني لما ورد في الأثر من قوله: (ادرءوا الحدود بالشبهات)وهو حديث يروى مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح أنه ضعيفٌ رَفْعُه، بل هو موقوف على عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وقولهم: (ولا ملك يمين) وهي الأمة التي يتسراها الإنسان؛ لأن ملك اليمين ليس من الزنا في شيء بل هو وطءٌ حلال
المسألة الثالثة: إذا عرفنا حقيقة الزنا وما يجب بالنسبة للزاني البكر، فالسؤال: ما حكم الزاني الثيب؟ الثيب: هو كل من تزوج، ووطئ في نكاح صحيح، مسلماً، عاقلاً، بالغاً، فإذا تحقق الإسلام، مع البلوغ، مع العقل، مع نكاح صحيح، ووطءٍ صحيح فإنه يُحْكَم بكون الإنسان ثيباً، ولو أن رجلاً تزوج امرأة وعَقَد عليها ولم يدخل بها ثم زنا قبل الدخول بها، فإنه لا يزال بكراً، ولا يُحْكم بكونه ثيباً بمجرد العقد. فالثيوبة بإجماع العلماء يشترط فيها الدخول. وبناءً عليه: فمتى تحقق هذا الوصف -وهو كون الزاني ثيباً- فإن الحكم أنه يُرْجَم، وهذا بإجماع السلف والخلف، خلافاً للخوارج الذين يقولون: إن الثيب إذا زنا لا يرجم؛ لأن الله عز وجل أوجب جلد الزاني ولم يوجب رجمه. ونجيبهم: بأن السنة دلت على الرجم، كما في الحديث الصحيح الذي سبقت الإشارة إليه، فحكمه أنه يجلد أولاً ثم يرجم بعد جلده. وقد اختلف العلماء رحمهم الله هل يُجلد الثيب قبل أن يُرجم أم لا؟ وذلك على قولين: فذهب الإمام أحمد و داوُد الظاهري وطائفة من السلف إلى أن الثيب إذا زنى يُجمع له في العقوبة بين أمرين: - أحدهما: جلده مائة جلدة. - ثم بعد ذلك يرجم سواءً كان رجلاً أو امرأة. وهذا القول دليله حديث عبادة بن الصامت عند أحمد في مسنده والإمام مسلم في صحيحه من قوله عليه الصلاة والسلام: (... والثيب بالثيب؛ جلد مائة والرجم). وذهب الإمام أبو حنيفة و مالك و الشافعي رحمة الله على الجميع إلى أن الثيب يرجم ولا يجلد، واحتجوا بحديث ماعز في الصحيحين من أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجمه ولم يأمر بجلده، فدل على أن الثيب يرجم ولا يجلد، وهكذا المرأة التي اعترفت بالزنا أمر برجمها ولم يأمر بجلدها، قالوا: فهذا يدل دلالة واضحة على أن الواجب هو الرجم دون الجلد. وأصح الأقوال -والعلم عند الله- هو الجمع بين الجلد والرجم؛ لأن حديث ماعز وحديث المرأة التي اعترفت بالزنا، فأمر بها، فرجمت، لم يُذكر فيها الجلد، وسُكت عنه، وحديث عبادة نطق فيه بوجوب الجلد، والقاعدة: أنه إذا تعارض المسكوت عنه والمنطوق به فيقدم المنطوق على المسكوت عنه، فاستدلال الجمهور من باب المسكوت عنه، واستدلال الإمام أحمد و داوُد من جهة المنطوق، وهذا أقوى، ولذلك يقال بالجمع بين الجلد والرجم على الصحيح من أقوال العلماء رحمهم الله. إذا ثبت هذا فإن هذه العقوبة، وهي معاقبة البكر بجلد مائة وتغريب عام، ومعاقبة الثيب بجلد مائة والرجم، هذه العقوبة، نسخ الله عز وجل بها حكماً سابقاً، ذلك أنه كان في أول الإسلام إذا زنى الرجل أو زنت المرأة يُحبس كل منهما حتى يتوفاه الموت، فجعل الله عز وجل الفَرَج والمخرج، ولذلك ورد في حديث عبادة الذي سبقت الإشارة إليه قوله عليه الصلاة والسلام: (خذوا عني، خذوا عني: قد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالبكر؛ جلد مائة وتغريب عام، والثيب بالثيب؛ جلد مائة والرجم).
هذه العقوبة من الله علاج لهذه الجريمة التي تُنتهك بها الأعراض، وتختلط بها الأنساب، والإسلام دين حكيم قويم عالج هذه الجريمة قبل وقوعها، وعالجها أثناء وقوعها، وعالجها بعد وقوعها: - فعالجها قبل الوقوع: حينما منع الأسباب المفضية إلى الزنا. - وعالجها أثناء الوقوع: حينما دعا إلى ترك المعصية والبُعد عنها، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله رب العالمين) فأغلقت الشريعة أبواب الزنا، ولذلك منعت المرأة أن تكثر الخروج لغير ضرورة فقال تعالى: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]، وإذا خرجت نُهيت عن التعطر حتى لا تسترسل الأنظار إليها، وكذلك نُهيت عن الضرب برجليها حتى لا يُعْلَم ما تخفيه من زينتها، ونُهيت عن أمور تكون سبباً في فتنة الغير بها، فلذلك أغلقت بهذه النواهي باب الفتنة، وأمرت المؤمن أن يغض بصره وأن يحفظ فرجه، وأن لا يختلي بامرأة لا تحل له، وأن لا يسافر بامرأة ليست من محارمه، كل ذلك قفلاً لأبواب الفساد وقطعاً لدابر أهل الإفساد. - ولما وقعت هذه الجريمة: قام سلاح الشرع مؤدباً وزاجراً حتى ينكف أهل الفساد عن الفساد، فأمر بعقوبة الزاني والزانية على ملأٍ من الناس وبمحضر من الناس حتى يكون ذلك أبلغ في زجر الغير، وأدعى للبُعد عنه.
وأما صفة الرجم: فبالنسبة للرجل: السُّنَّةُ أن يُرجم وهو قائم، وألاَّ يُحفَر للرجل، لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه لما أمر بـماعز أن يُرجم رُجِم دون أن يُحفَر له)، وأما بالنسبة للمرأة فللعلماء في صفة رجمها قولان: - منهم من قال: يُحفَر لها إلى ثديها، ثم تُرجم بعد ذلك. - ومنهم من قال: تُلَفُّ في ثيابها وترجم. والقول بالحفر لها قد ورد به نص عن النبي صلى الله عليه وسلم صحَّحها بعض العلماء، وحكم بثبوتها، فلا مانع من اعتبارها، وهو قول طائفة من السلف والخلف رحمة الله على الجميع. قالوا: الداعي إلى ذلك سترها حتى لا تنكشف. وأما بالنسبة لما يرجم به: فإنه لا يُرْجم بالحصى الصغير؛ لأن رجمه بالحصى الصغير مبالغة في الأذية، وإطالة تعذيب للمرجوم، ولا يُرجم بالحصى الكبير المبالَغ فيه، لما فيه من المبالغة في الإزهاق؛ لأن المقصود النكال، وكذلك المقصود زجر الغير عن هذا الفعل، وإنما يرجم بالحصى الذي هو وسط بين الصغير والكبير. ويكون الجلد والرجم بمحضر جماعة المسلمين: لقوله تعالى: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2]، فأمَرَ بشهوده وحضوره، لما فيه من العِظَة والعبرة، ومن ثم قال بعض العلماء رحمهم الله: إن الله عز وجل أوجب هذه الحدود حتى تكون زاجراً عن المعصية، وكذلك عقوبة لمن عصى، ومانعة لمن سلم من المعصية أن يقع فيها، لما فيها من العظة والعبرة
وفي قوله تعالى: فَاجْلِدُوا [النور:2]: الجلد يكون بالسوط ونحوه، والكلام في صفة الجلد يكون في أمور: - منها: حكمه: وهو الوجوب بالإجماع، لظاهر قوله سبحانه: (فَاجْلِدُوا)، وهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب. - ومنها: بأي شيءٍ يُجلد؟ يُجلد بسوط الذي هو وسط، ليس بشديد الطراوة، ولا شديد اليبس مما يجعله يتكسر لو ضرب به، وإنما هو بين بين، كما ورد في الأخبار والآثار وانعقد على ذلك عمل السلف والخلف رحمة الله على الجميع، فلا يُضرب بسوط يابس يتكسر ويتهشم عند الضرب به، ولا يُضرب كذلك بسوط طري ندي لما فيه من المبالغة في العقوبة والزيادة، وإنما يُضرب بما هو بين ذلك. ومنها: موضع الضرب: وأصح الأقوال عند العلماء رحمهم الله أن الرجل يُضرب قائماً، والمرأة تُضرب جالسة، بعد أن تلف عليها ثيابها، ويُضرب الرجل على ظهره ما بين رقبته وعجزه، ويفرق الضرب على سائر ظهره، ولا يستقر في مكان واحد حتى لا يُتْلِف عضواً من أعضائه. - ومنها: أن الجالد ينبغي له ألاَّ يجلد جلد الحانق، وألاَّ يجلد بموات. والمراد بقولهم: (جلدة الحانق) أي الذي يضرب بغيض، ومثَّل العلماء لذلك بأن قالوا: لا يرفع يده حتى يُرَى إبطه، وإنما يضربه مع استقرار يده على إبطه. وكذلك أيضاً لا يضرب بموات، لقوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ [النور:2]، فالمطلوب هو الوسط، ويُفَرَّق الضرب على الظهر على الصفة التي ذكرناها. وينبغي أن يُختار الوقت المناسب للجلد: فليتخير لذلك اليوم الذي لا يكون شديد الحر ولا شديد البرد، ويجرَّد من ثيابه، ويبقى بثوب واحد يقيه البرد إذا كان ثَمَّ برد، أو يقيه لفح الشمس على ظهره إذا كان النهار صائفاً، ويضربه على هذا الوجه بمحضر جماعة المسلمين.
والزنا هو إتيان لحد من حدود الله، وجريمة من الجرائم التي لا يحبها الله، وهي كبيرة من كبائر الذنوب؛ ولكن الزنا على مراتب، فبعضه أشد جريمة من بعض، وأعظم عند الله عز وجل أثراً: - فالزنا بامرأة المجاهِد في سبيل الله عز وجل من أعظم الزنا، وأشده إثماً وجرماً -والعياذ بالله-: ولذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أن مَن زنا بامرأة المجاهد في سبيل الله أنه يُقام له يوم القيامة على رءوس الخلائق يُخَيَّر في حسناته، يقول صلى الله عليه وسلم: فما ظنكم؟!) أي هل يُبقي شيئاً من حسناته؟! نسأل الله السلامة والعافية من ذلك. - وبعده الزنا في القريبة: فالزنا بالقريبة ليس كالزنا بالغريبة البعيدة، فالزنا بذات القرابة كابنة العم ونحوها أعظم جريمة من الزنا بغيرها، وكلما كانت ألصق بالقرابة كذي المحرم -والعياذ بالله- فهو أشد جريمة، وأعظم انتهاكاً لحد الله. - ومن الزنا المعظم عند الله: الزنا بحليلة الجار: أن يزني الرجل بزوجة جاره أو أخته أو ابنته والعياذ بالله، فهذا من أكبر الكبائر وأشد الجرائم، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما سأله أحد صحابته: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خَلَقَك، قال: قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك)، فهذا يدل -والعياذ بالله- على عظيم الذنب فيما إذا زنى الإنسان بحليلة الجار، ويشمل ذلك زوجته، وابنته، وأخته، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والله! لا يؤمن، والله! لا يؤمن، والله! لا يؤمن، قالوا: مَن يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جارُه بوائقه) فهذا يدل على عظيم الإساءة إلى الجار. ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجيرنا وإياكم من الفواحش ما ظهر منها وما بطن، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وآخر دعوانا: أن الحمد لله رب العالمين.
فترة الأقامة :
4571 يوم
معدل التقييم :
زيارات الملف الشخصي :
260
إحصائية مشاركات »
المواضيـع
الــــــردود
[
+
]
[
+
]
بمـــعــدل :
11.81 يوميا
ام ياسر
مشاهدة ملفه الشخصي
إرسال رسالة خاصة إلى ام ياسر
البحث عن كل مشاركات ام ياسر