الملك ابن البادية
طبعا ستعرفون في اخر القصة منه الملك ابن البادية كما هو في العنوان
ارتبطت جبال الدخول وحومل بالذاكرة الشعبية من خلال معلقة الشاعر الجاهلي امرئ القيس، وتقع هذه المواقع في منطقة نجد، وبالتحديد في موقع يسمى (جفرة الصاقب)، والصاقب هذا عبارة عن جبل شامخ تعرف المنطقة المجاورة له باسمه، فتسمى تلك المواقع بالصاقب، وجبال الدخول وحومل قد تكون «مواقعها» غير معروفة عند الكثيرين من أبناء العرب، ولكنها ارتبطت باذهانهم في معلقة امرئ القيس، وهو يردد:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
لما نسجتها من جنوب وشمـأل
ترى بعر الأرام في عرصاتهـا
وقيعانها كـأنه حب فلفـل
وأشار عبد الله سعد السبيعي المهتم بالآثار، إلى أن جبال الدخول وحومل تبعد عن الرياض بحوالى (500) كيلو متر جنوبا، وعن رنية بحوالى (150) كيلو مترا شمالا، وعن محافظة بيشة ما يقارب (200) كيلو متر شمال غرب، وتقع جبال الدخول غربا عن الجبل «حومل»، وتبعد عنه بعشرة كيلو مترات تقريبا، وهناك سلسلة من الجبال تحد حومل من الجنوب تسمى (جبال حوضا) وكثبان رملية وعرة على شكل عروق وتعرف باسم (عرق سبيع)، ويصعب المرور منها بالسيارات باتجاه حومل، والجبل (حومل) يشبه في شكله عندما تناظره من (الجنوب) الأسد الرابض، وهو كتلة صخرية ملساء الملمس أسود اللون، وأضاف: أما الدخول فهي سلسلة (هضاب جبلية تنتهي بالدخول المعروف باتجاه حومل)، وتختلف في لونها عن حومل وتميل إلى الحمرة، وتحيط بجبال الدخول وحومل عدد من الآبار القديمة جدا (ويذكر أبناء البادية، أنها تعود إلى العهد الجاهلي)، وتتميز هذه الآبار بعذوبة المياه، حتى أنها أصبحت موارد مياه ينهلون منها، وتقع هذه الآبار في الجهة الغربية من جبال الدخول، ولا تبعد عنها سوى أمتار قليلة، فيما يقع في جبل حومل (وقر) لتجميع مياه الأمطار والسيول، ويستفيد منها أبناء البادية، والمنطقة عموما تشتهر بأنها منطقة مراعي جيدة وتنبت بعض الأعشاب، مثل: (الخزامى والمرار)، والمرار هذا قيل إن امرأ القيس كان يأكل منه فسمي بآكل المرار، وهو عشب مر الطعم، لكن الإبل تحبه وتظهر مرارته في طعم حليبها.
واشتهرت جبال الدخول وحومل في معلقة امرئ القيس بن حجر بن الحارث الكندي، أشهر شعراء العرب الجاهليين على الإطلاق، وهو يماني الأصل ومولده بنجد أو بمخلاف السكاسك باليمن، واشتهر بلقبه واختلف المؤرخون في اسمه، فقيل حندج وقيل مليكة وقيل عدي، وكان أبوه ملك أسد وغطفان، وأمه أخت المهلل الشاعر، ولقنه خاله الشعر، فقاله وهو غلام وعاشر صعاليك العرب، ولما بلغ ذلك أباه نهاه عنه ولم ينته، فأبعده إلى حضرموت (دمون) موطن آبائه وعشيرته إلى أن ثأر بنو أسد على أبيه فقتلوه، وبلغ ذلك امرئ القيس وهو جالس يشرب الخمر.
وفي شرح المعلقات السبع للقاضي الإمام أبو عبدالله – الحسن بن أحمد بن الحسين (الزورني) أن امرأ القيس شاهد النور في نجد عام (500 ميلادية) على الأرجح وعاش حياة متفرقة، يشرب الخمر ويستمع الغناء ويقول الشعر، ولم يكن هذا من عادة أبناء الملوك، فنهاه والده عنها فلم ينته فأبعده عنه.. فخرج امرئ القيس يطوف في أرض العرب مع جماعة من أمثاله سكرا وعربدة وشرورا، وظل هذا شأن امرئ القيس حتى أتاه خبر مصرع أبيه حجر، نتيجة تنكر بنو أسد له وامتناعهم عن دفع الأتاوة ونشوب حرب بينهم، حيث قتل والد امرئ القيس فيها، فقال امرئ القيس عندما أتاه خبر مقتل أبيه:
«ضيعني أبي صغيرا، وحملني دمه كبيرا، لا صحو اليوم، ولا سكر غدا، اليوم خمر ، وغدا أمر..».
وكان عند قوله فودع ماضيه السيء، وتوقف عن لهوه وشرابه الخمر، وأخذ يتأهب للأخذ بثأر أبيه، فلما سمع بنو أسد «قتلة أبيه» باستعداده لمحاربتهم، عرضوا عليه دم أسرة كاملة منهم، أو دية من الأنعام، ولكنه رفض، فطلبوا أن يمهلهم ريثما يضع الحوامل من النساء ويستعدون للحرب، ففعل، ثم حمل عليهم تسانده قبيلتا تغلب وبكر، فأثخن في بني أسد عندما طلب منه التغلبيون والبكريون (الذين ساندوه) والاكتفاء بما ناله من نصر على بني أسد، ففي ذلك النصر تحقق الثأر وبلغ الغرض، ولكن امرئ القيس رفض واعتبر أن هذا الانتصار ليس كاملا، فقد كان ينوي فناء بني أسد جميعهم ليرضى.. وكان ملك الحيرة (المنذر) في هذه الأثناء يحاول الوصول إلى امرئ القيس بعد أن شاهده لا يبرح يهاجم بني أسد، فاضطر امرئ القيس إلى الهروب من منازلة ملك الحيرة والانتقال من حي عربي إلى آخر يطلب النصر والمعونة، حتى وصل به المطاف إلى السموأل في «تيماء» وطلب منه أن يكتب إلى أمير الغساسنة في الشام، ليساعده في السفر إلى القسطنطينية ليطلب النصر على عدوه من قيصر الروم، فحقق له السموأل مطلبه، وأودع امرئ القيس ابنته هند وسلاحه ودروعه عند السموأل، ثم توجه إلى القسطنطينية لمقابلة القيصر يوستنيانس، الذي أحسن وفادة امرئ القيس وكتب إلى ملك الحبشة ليساعده، وقيل إن امرأ القيس لم يستفد من هذه الرحلة ولم يظفر بتأييد القيصر، فعاد من القسطنطينية حزينا يائسا حتى وصل إلى أنقرة، وهناك سرى في جسده داء يشبه الجدري، فسبب له قرحا أودى بحياته وهو في عمر الأربعين عاما تقريبا سنة (540) ميلادية، ومعلقة امرئ القيس (قفا نبك) تعتبر أجمل قصائده على الإطلاق، وقد نظمها في يوم دارة جلجل حيث التقى بابنة عمه شرحبيل حبيبته «عنيزة»، وكان محبا لها التقاها تتنزه مع سرى من العذارى، فذبح لها ولرفيقاتها ناقة ثم أرخ هذه الحادثة، ومعها حوادث أخرى في هذه المعلقة، والتي أحسن فيها امرئ القيس التشبيه ووصف العواطف الإنسانية كأحسن ما يكون الوصف، والشاعر الملك (امرئ القيس) يحسن اختيار ألفاظه وينحتها نحتا يوافق الموقف الذي هو فيه (تتميز بالخشونة حينا، وحينا آخر بالليونة)، وتؤكد لك ألفاظه أنه ابن البادية حقا، وأنه كذلك ابن الملوك
|