العدالة والمساواة في سلوك النبي صلى الله عليه
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحدث علماء الغرب عن أخلاق العدالة والمساواة في سلوك النبي صلى الله عليه وسلم، لاسيما وهو يمثل الحاكم الأول لدولة المسلمين؛ التي تمخض عنها أعرق حضارة في تاريخ البشرية..!
ولنتحدث عن أخلاق العدالة والمساواة في شخصية النبي r..!
فجل الأنظمة الحالية التي تحكم كوكب الأرض تتشدق بقيم العدل والمساواة بين الناس، وأنى لهذه الأنظمة أن تتطلع لهذه الأخلاق السامقة.. بعدما جعلت من العدالة والمساواة شعارات براقة جوفاء خالية من التطبيق على أرض الواقع، فإلى هذه الأنظمة هذا النموذج الفذ:
أولا: محمد صلى الله عليه وسلم حاكما عادلا
يقول برتلي سانت هيلر1:
"كان محمد[صلى الله عليه وسلم] رئيسا للدولة وساهرا على حياة الشعب وحريته، وكان يعاقب الأشخاص الذين يجترحون الجنايات حسب أحوال زمانه، وأحوال تلك الجماعات الوحشية التي كان يعيش النبي [صلى الله عليه وسلم] بين ظهرانيها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم داعيا إلى ديانة الإله الواحد، وكان في دعوته هذه لطيفا ورحيما حتى مع أعدائه، وإن في شخصيته صفتين هما من أجل الصفات التي تحملها النفس البشرية، وهما العدالة والرحمة"2.
كان الرسول صلى الله عليه وسلم كمعلم ورئيس دولة ورجل سياسي؛ بالغ الحرص على تطبيق المساواة على الجميع، خاصة أنه قد وضع نفسه على قدم المساواة مع سائر المسلمين، يقول "مولانا محمد علي":
"وفي إقامة العدالة كان الرسول[صلى الله عليه وسلم] منصفا، وكان المسلمون وغير المسلمين، والأصدقاء والأعداء، كلهم سواء في نظره، وحتى قبل أن يبعث إلى الناس كانت أمانته وتجرده واستقامته معروفة لدى الخاص والعام، وكان الناس يرفعون منازعاتهم إليه حتى يحكم فيها، وفي المدينة رضي الوثنيون واليهود به حكما في منازعاتهم كلها. وعلى الرغم من حقد اليهود عميق الجذور على الإسلام فإن الرسول[صلى الله عليه وسلم] حكم -عندما عرض عليه ذات مرة نزاع بين يهودي ومسلم- لليهودي بصرف النظر عن أن المسلم قد ينفر بذلك من الإسلام، بل ربما بصرف النظر عن أن قبيلته كلها قد تنفر بذلك من الإسلام، ولا حاجة بنا إلى تبيان أهمية خسارة كهذه بالنسبة إلى الإسلام في أيام ضعفه ومحنته تلك، فالأمر أوضح من أن يحتاج إلى بيان"3.
"ولقد نبه[صلى الله عليه وسلم] ابنته فاطمة، إلى أن أعمالها وحدها سوف تشفع لها يوم القيامة، وقال أيضا: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها"4.
وبينما كان على فراش الاحتضار، قبيل وفاته بقليل، سأل كل من له عليه دين أن يتقاضى ذلك الدين، ولكل من أساء إليه ذات يوم أن يثأر لنفسه منه"5.
إن صفة العدالة والمساواة التي تخلق بها نبي الإسلام ونظام الإسلام، قد دفعت الكثيرين إلى اعتناق الإسلام، فالمساواة والعدالة في الإسلام –كما يقول "جاوبا" 6– "تختلف عنها في البلشفية التي تعمل على سحق الأغنياء لصالح الفقراء، ولا هي كالمساواة عند النصارى؛ حيث يجلد الرجل الزنجي لا لشيء إلا لأنه وقع بصره على امرأة بيضاء، ويعبد الزنوج ربهم في كنائس خاصة بهم مستقلة عن كنائس البيض. أما في الإسلام فجميع المساجد مفتحة أبوابها لكل مسلم غنيا كان أم فقيرا، أسود كان أو أبيض، ملكا كان أو عبدا، وهذه الصفة تقيم صرح وحدة حقيقية راسخة بين المسلمين. ومن أجل ذلك فإن الدين الإسلامي لا يقيم مراسيم خاصة لكل داخل في الإسلام كما تفعل الأديان الأخرى، وإنما حسب المرء أن ينطق بالشهادتين حتى يغدو عضوا في أعظم أخوة عالمية يتساوى في ظلها الناس جميعا في الواقع العملي الملموس، إلى جانب الناحية النظرية المجردة، وليس في العالم كله أشمل وأصدق من هذه الأخوة الإسلامية"7.
ثانيا: العدالة والمساواة في معاملاته اليومية
كان النبي صلى الله عليه وسلم يمارس سلوكيات العدالة والمساواة في أدق تفصيل حياته اليومية، مع الغريب والقريب، في السفر والحضر، كمدين وكدائن، بل نراه إيجابيا عندما شارك في تأسيس هيئة خيرية تعنى بنصرة المظلوم!
يقول "مولانا محمد علي":
"وفي معاملات النبي [صلى الله عليه وسلم] مع الآخرين لم يكن يضع نفسه على مستوى أرفع من غيره البتة، كان يضع نفسه على قدم المساواة مع سائر الناس، وذات يوم، وكان قد احتل في "المدينة" مقاما أشبه بمقام الملك، وفد عليه يهودي يقتضيه دينا ما، وخاطبه في جلافة وخشونة قائلا: إن بني هاشم لا يردون أيما مال اقترضوه من شخص آخر، فثارت ثائرة عمر بن الخطاب لوقاحة اليهودي، ولكن الرسول[صلى الله عليه وسلم] عنفه، ذاهبا إلى أن الواجب كان يقتضي من عمر أن ينصح كلا من المدين والدائن: أن ينصح المدين -الرسول[صلى الله عليه وسلم]- برد الدين مع الشكر، وأن ينصح الدائن بالمطالبة به بطريقة أليق، ثم دفع إلى اليهودي حقه وزيادة، فتأثر هذا الأخير تأثرا عظيما بروح العدل والإنصاف عند الرسول[صلى الله عليه وسلم]، ودخل في الإسلام"8.
"وفي مناسبة أخرى، وكان مع أصحابه في أجمة من الآجام، حان وقت إعداد الطعام، فعهد إلى كل امرئ في القيام بجانب من العمل، وانصرف هو نفسه إلى جمع الوقود، فلقد كان برغم سلطانه الروحي والزمني يؤدي قسطه من العمل مثل رجل عادي، وكان يراعي في معاملة خدمه مبدأ المساواة نفسه، وقال أنس: "خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي أف قط، وما قال لشيء صنعته لم صنعته، ولا لشيء تركته لم تركته" "9.
ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من مؤسسي حلف الفضول، الذي ما أسس إلا لنصرة المظلوم ونشر العدل بين الناس، فتحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم في إيجابية شديدة في دعم وتأييد هذه الحلف، وقال عنه:
" شهدت حلف المطيبين مع عمومتي -وأنا غلام- فما أحب أن لي حمر النعم وأني أنكثه"10.
وقال: "لقد شهدت مع عمومتي في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت"11.
ثالثا: نماذج العدالة في سنته وسيرته r
أولا: تحذيره من استعباد الناس:
لقد رسخ الرسول صلى الله عليه وسلم قيم العدالة والمساواة في نفوس وزرائه وأتباعه، فكان يقول -محذرا من استعباد الناس-: "لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي، كلكم عباد الله وكل نسائكم إماء الله، ولكن ليقل: غلامي وجاريتي، وفتاي وفتاتي، ولا يقل العبد: ربي ولكن ليقل: سيدي"..12
ثانيا: نهيه عن التمييز العنصري:
فيقول: "كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب، لينتهين قوم يفتخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله من الجعلان"13.
ولقد عنف الرسول صلى الله عليه وسلم أبا ذر t تعنيفا شديدا لما عير بلالا بأمه، فعن المعرور بن سويد قال لقيت أبا ذر بالربذة وعليه حلة، وعلى غلامه حلة فسألته عن ذلك -أي كيف تلبس حلة ويلبس خادمك أو صبيك نفس الحلة التي تلبسها؟ -، فقال: إني ساببت رجلا فعيرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: "يا أبا ذر! أعيرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم"14.
فكأن أبا ذر رفع شعار المساواة بعد هذا التعنيف من رسول الله r، فأصبح أبو ذر يأكل ما يأكل منه خادمه، ويلبس ما يلبس منه خادمه!.
ثالثا: العدل بين الأولاد:
عن النعمان بن بشير أن أمه بنت رواحة سألت أباه بعض الموهبة من ماله لابنها، فالتوى بها سنة، ثم بدا له، فقالت: لا أرضى حتى تشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ما وهبت لابني! فأخذ أبي بيدي، وأنا يومئذ غلام، فأتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله إن أم هذا بنت رواحة أعجبها أن أشهدك على الذي وهبت لابنها.
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: "يا بشير ألك ولد سوى هذا؟"
قال: نعم.
فقال: "أكلهم وهبت له مثل هذا؟؟"
قال: لا.
قال: "فلا تشهدني إذا، فإني لا أشهد على جور".15
رابعا: عدله مع غير المسلمين
1- العدل مع فصيل يهودي:
لقد حدث أن عبد الله بن رواحة t لما بعثه رسول الله r يقدر على أهل خيبر محصولهم من الثمار والزروع لمقاسمتهم إياها مناصفة، حسب عهد رسول الله r بعد فتح خيبر، حاول اليهود رشوته ليرفق بهم، فقال لهم: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلي، ولأنتم والله أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير، وما يحملني حبي إياه وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم!!.
فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض!16.
لقد كان t قد تخرج في مدرسة الرسول صلى الله عليه وسلم على المنهج الرباني المتفرد القائم على العدل والمساواة.
2- العدل مع رجل يهودي:
أ) رد الحق إلى رجل يهودي:
عن ابن أبي حدرد الأسلمي أنه كان ليهودي عليه أربعة دراهم فاستعدى عليه،
فقال اليهودي -شاكيا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم -: يا محمد إن لي على هذا أربعة دراهم، وقد غلبني عليها!.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - آمرا المسلم بالسداد: "أعطه حقه".
قال المسلم -معللا سبب المماطلة-: والذي بعثك بالحق ما أقدر عليها!.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤكدا على ضرورة التنفيذ فورا: "أعطه حقه"!.
قال المسلم: والذي نفسي بيده ما أقدر عليها! قد أخبرته أنك تبعثنا إلى خيبر فأرجو أن تغنمنا شيئا فأرجع فأقضيه.
قال النبي- صلى الله عليه وسلم - مكررا الأمر: "أعطه حقه".
قال الراوي: وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قال ثلاثا لم يراجع!!!.
فخرج به (ابن أبي حدرد) إلى السوق، وعلى رأسه عصابة، وهو متزر ببرد، فنزع العمامة عن رأسه فاتزر بها، ونزع البردة فقال: اشتر مني هذه البردة.
فباعها منه بأربعة الدراهم.
فمرت عجوز فقالت: ما لك يا صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم– فأخبرها، فقالت: ها دونك هذا ببرد عليها، طرحته عليه".17
ب) آيات تنزل لتبرئة رجل يهودي:
ولقد أنزل الله نحو خمس آيات في سورة النساء، على رأسها قول الله تعالى: ]إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} [ النساء: 105]، لتبرأ رجلا يهوديا، اتهمه بعض المسلمين ظلما!.
هذه الآيات تحكي قصة لا تعرف لها الأرض نظيرا، ولا تعرف لها البشرية شبيها، وتشهد -وحدها- بأن هذا القرآن وهذا الدين لابد أن يكون من عند الله؛ لأن البشر -مهما ارتفع تصورهم، ومهما صفت أرواحهم، ومهما استقامت طبائعهم- لا يمكن أن يرتفعوا -بأنفسهم- إلى هذا المستوى الذي تشير إليه هذه الآيات؛ إلا بوحي من الله.
هذا المستوى الذي يرسم خطا على الأفق لم تصعد إليه البشرية -إلا في ظل هذا المنهج- ولا تملك الصعود إليه أبدا إلا في ظل هذا المنهج كذلك!.
إنه في الوقت الذي كان اليهود في المدينة يطلقون كل سهامهم المسمومة، التي تحويها جعبتهم اللئيمة، على الإسلام والمسلمين؛ في الوقت الذي كانوا فيه ينشرون الأكاذيب؛ ويؤلبون المشركين؛ ويشجعون المنافقين، ويحاولون تفسيخ المجتمع المسلم من الداخل، في الوقت الذي يؤلبون عليه خصومه ليهاجموه من الخارج، ففي هذا الوقت الحرج، كانت هذه الآيات كلها تتنزل، على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لتنصف رجلا يهوديا، اتهم ظلما بسرقة؛ ولتدين الذين تآمروا على اتهامه، وهم بيت من الأنصار في المدينة.
والأنصار يومئذ هم عدة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجنده، في مقاومة هذا الكيد الناصب من حوله، ومن حول الرسالة والدين والعقيدة الجديدة!.
أي مستوى هذا من النظافة والعدالة والتسامي! ثم أي كلام يمكن أن يرتفع ليصف هذا المستوى؟ وكل كلام، وكل تعليق، وكل تعقيب، يتهاوى دون هذه القمة السامقة؛ التي لا يبلغها البشر وحدهم، بل لا يعرفها البشر وحدهم، إلا أن يقادوا بمنهج الله إلى هذا الأفق العلوي الكريم الوضيء؟!".18
فقد كان أهل بيت من الأنصار يقال لهم بنو أبيرق، وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام، فقدمت ضافطة من الشام فابتاع رفاعة بن زيد حملا من الدرمك فجعله في مشربة له، وفي المشربة سلاح ودرع وسيف فعدي عليه من تحت البيت، فنقبت المشربة، وأخذ الطعام والسلاح، فلما أصبح أتى رفاعة إلى قتادة بن النعمان فقال: يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنا وذهب بطعامنا وسلاحنا.
قال قتادة بن النعمان: فتحسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم، فلما أشارت أصابع الاتهام لبني أبيرق، قال رفاعة –صاحب المال المسروق– لقتادة: يا ابن أخي لو أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له.
قال قتادة: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له، وأخذوا سلاحهن وطعامه، فليردوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سآمر في ذلك".
فلما سمع بنو أبيرق، وخافوا الفضيحة، أتوا رجلا منهم يقال له أسير بن عروة فكلموه في ذلك، فاجتمع في ذلك ناس من أهل الدار.
فقالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينة ولا ثبت!!
قال قتادة: فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمته.
فقال: "عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة!".
قال قتادة: فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك.
فأتاني عمي رفاعة، فقال: يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: الله المستعان".19
وفي رواية: لما رأى السارق ذلك عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل يهودي (اسمه زيد بن السمين)20
وما لبث أن اتهم الناس هذا الرجل البريء -وإن كان من غير المسلمين- بسرقة هذا الدرع.
فلم يلبث أن نزل القرآن:
] إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما[21
خامسا: الكل سواء أمام القانون
فعن عائشة رضي الله عنها: أن قريشا، أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله r؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله r فكلمه أسامة، فقال رسول الله r: "أتشفع في حد من حدود الله؟!"، ثم قام فاختطب، ثم قال: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها!".22
سادسا: عدله بين فصائل الدولة
1- عدله بين قريظة والنضير في مسألة الديات:
وما أروع عدله! حتى بين غير المسلمين وبعضهم، فقد تحاكم إليه يهود قريظة والنضير، في مسألة تتعلق بالديات، فقد كانت بنو النضير أعز من بني قريظة، فكانت تفرض عليهم دية مضاعفة لقتلاها، فلما ظهر الإسلام في المدينة امتنعت بنو قريظة عن دفع الضعف، وطالبت بالمساواة في الدية، وتحاكمت إلى نبي الرحمة، فعدل بينهما 23، ونزلت الآية: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) [المائدة: 45].24
فعن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية (فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ) [المائدة42]، قال: "كان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة أدوا نصف الدية، وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا إليهم الدية كاملة، فسوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينهم".25
وفي رواية: "فكان إذا قتل رجل من قريظة رجلا من النضير قتل به، وإذا قتل رجل من النضير رجلا من قريظة، ودي بمائة وسق من تمر! فلما بعث النبي -صلى الله عليه وسلم- قتل رجل من النضير رجلا من قريظة، فقالوا: ادفعوه إلينا نقتله، فقالوا: بيننا وبينكم النبي صلى الله عليه وسلم فأتوه فنزلت26 " الآية، وحكم بينهم بالعدل.
2- عدله بين الفصائل في مسألة الري وتوزيع المياه:
فقد أتاه أهل مهزور من قريظة، يتحاكمون إليه في مشكلة تتعلق بالمياه والري، فحكم بينهم.
فعن ثعلبة بن أبي مالك أنه سمع أن رجلا من قريش كان له سهم في بني قريظة، فخاصم إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في [سيل] مهزور 27 يعني السيل الذي يقتسمون ماءه، فقضى بينهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن الماء إلى الكعبين لا يحبس الأعلى على الأسفل.28
وفي رواية: قال ثعلبة بن أبي مالك: "قضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سيل مهزور، الأعلى فوق الأسفل، يسقي الأعلى إلى الكعبين، ثم يرسل إلى من هو أسفل منه".29
ومذينب ومهزور واديان بالمدينة معروفان يستويان يسيلان بالمطر، ويتنافس أهل المدينة في سيلهما فقضى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في سيلهما أنه للأعلى فأعلى والأقرب إلى السيل، فالأقرب يمسك الأعلى جميع الماء حتى يبلغ الكعبين ثم يرسله إلى من تحته ممن يليه.30
سابعا: مبادئ المساواة والعدالة في خطبة الوداع
هذا، وتعد خطبة الوداع دستورا عظيما في إقامة العدالة والمساواة في ربوع العالم، ويعلق هربرت جورج ولز31 على هذه الخطبة بقوله:
"حج محمد [r] حجة الوداع [في ذي الحجة 10هـ/ مارس632 م] من المدينة إلى مكة، قبل وفاته بعام، وعند ذاك ألقى على شعبه موعظة عظيمة.
إن أول فقرة فيها تجرف أمامها كل ما بين المسلمين من نهب وسلب ومن ثارات ودماء، وتجعل الفقرة الأخيرة منها الزنجي المؤمن عدلا للخليفة، إنها أسست في العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم".32
إن دروس العدالة والمساواة في سيرة النبي r ودولته ونظامه جلية بينة لكل ذي بال، وهي تمثل مظهرا من مظاهر رحمته r للبشر، بيد أن الخرص كثير ما يصيب طائفة من الحاقدين والحانقين على سيرة محمد r؛ فيغضون الطرف عن هذه القيم الزاهية في سيرة النبي r.
الناس سواء كأسنان المشط:
يقول رسول الله r، في جملة مشهورة للقاصي والداني:
"الناس كأسنان المشط"..33
ويشرح المستشرق والمؤرخ بودلي هذه العبارة البليغة قائلا:
أي "ليس هناك أي عائق لوني للمسلم، فلا يهم أكان المؤمن أبيض أو أسود أو أصفر، فالجميع يعاملون على قدم المساواة".34
ويتعرض توماس كارلايل لهذه القيمة في إعجاب شديد فيقول:
"في الإسلام خلة أراها من أشرف الخلال وأجلها، وهي التسوية بين الناس، وهذا يدل على أصدق النظر وأصوب الرأي، فنفس المؤمن راجحة بجميع دول الأرض، والناس في الإسلام سواء".35
وتأسيسا على مبدأ الأخوة الإنسانية بين الأجناس والشعوب، حقق نبينا محمد r واقعيا عملية توحيد مختلف الأجناس في ظل المساواة والعدل الإسلاميين، يقول "برج"مؤكدا: "إنه ليس هناك من مجتمع آخر سجل له التاريخ من النجاح كما سجل للإسلام في توحيد الأجناس الإنسانية المختلفة، مع التسوية بينها في المكانة والعمل وتهيئة الفرص للنجاح في هذه الحياة".36
فلقد ساوى الإسلام بين الناس في إيجاب العبادات وتحريم المحرمات، وكما ساوى بينهم في الفضل والثواب بحسب أعمالهم ]من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97].
وساوى بينهم في كل حق ديني ودنيوي، ولم يجعل لأحد منهم ميزة في مال أو لون أو عرق أو حسب أو نسب، إنما الميزة والتفضيل بالصلاح القلبي والتقوى: فقال الله تعالى: ] يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم [[ الحجرات: 13]
وهذا مظهر من مظاهر رحمة النبي r.. فلم تكن العدالة والمساواة في اعتبارات زعماء العرب أو في أسلوب حكمهم للعرب، قبل بعثة الرسول r، فقد كان قبل عهده r، الاسترقاق على أشده، والتمييز العنصري في ذروته، حتى أكرم الله العرب برسالة محمد r .
ولقد كان رسول الله r حريصا على تربية أصحابه تربية عملية، بغرس قيم العدالة والمساواة في نفوس أصحابه، فتخرج من مدرسة محمد r رجال ملئوا الأرض عدلا ورحمة كما ملئت ظلما وجورا، من هؤلاء الرجال عمر بن الخطاب صاحب المقولة الشهيرة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
ولقد ضرب المسلمون الأوائل في فتوحاتهم أروع الأمثلة في تحقيق العدل والمساواة بين الشعوب، حتى قال جوستاف لوبون -في إعجاب وتقدير-: "ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب".37
|