بسم الله الرحمن الرحيم
يتَّسِمُ القُرآن بأنَّه مُعجِزٌ في حركتِه وسكنتِه، وفي حَرفِه وبِنيتِه، وفي تَراكيبه وصُوَرِه، وفي أساليبه وجُمَلِه، وفي مَعانيه وأخيِلَتِه، وفي أُطروحاته وأسئلته، وفي هذه السُّطور نقفُ أمامَ سورةٍ من سُوَرِه الجليلة، نستَقرِي بلاغتها، ونستَمطِرُ عبيرَها، ونعتبقُ شَذاها، ونعيشُ في أفيائها، ونتنقَّلُ بين ظِلالها وأفنانها؛ يقول الله - عزَّ في عُلاه - في سورة الناس: بسم الله الرحمن الرحيم ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ﴾ [الناس: 1 - 6].
نلحَظُ أوَّلَ ما نلحَظُ هنا: وجودَ حرفٍ يتكرَّر كلَّ آيةٍ؛ بل يتعدَّد في الآية الواحدة، وهو حرف السينِ، والسينُ هو الحرف الثاني عشر من حُروف الهجاء، مخرَجُه من بين طَرَفِ اللسان وفُوَيق الثَّنايا العُليا، ومن صِفاته أنَّه مهموسٌ، رخم، من حُروف الصَّفير، فهو من الأحرُف المتَّصفة بالهمس، وهو يرسُمُ بشكلٍ واضحٍ طبيعةَ عملِ الشيطان الوَسواس؛ حيث يقومُ بعمَلِه بهمسٍ وخِفَّةٍ وحركةٍ لا صوتَ معها كما يخرجُ حرف السين، وفي هذا كنايةٌ عن الجُبن والخِداع، وعدم قُدرتِه على المواجهة الحقيقيَّة للإنسان المتَّصِلِ بالله، والموصول بالقُدرة الإلهيَّة، فغاية ما عندَه أنْ يُرى جبانًا مخادعًا، لا يَقوَى على الحركة أو الصوت، وإنْ صات أو صوَّت ففي إطار الضَّعف والهمس، يُقال: همَس همسًا وهموسًا: سارَ بالليل بلا فُتور، ومشى مُستَخفيًا، وهمَس فلان إلى فلان همسًا، تكلَّم معه كلامًا خفيًّا لا يَكادُ يُفهَم، وهمَسَ الشيطان: وَسوَسَ، وهمَسَ الكلام: أخفاه همسًا، وتهامَسَ القومُ: تساروا، والمهموس من الكلام: غير الظاهر، والهمس كلُّ خَفِيٍّ من كلامٍ ونحوِه، وفي التَّنزيل الحميد: ﴿ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا ﴾ [طه: 108]، والهمسُ أخفى ما يكونُ من صوتِ القدَم.
والملاحظة الثانية: أنْ تحتَشِدَ كلُّ هذه الصفات الثلاث: الربوبيَّة والملك والألوهيَّة من شَرِّ ذلك الوَسواس الخنَّاس؛ وذلك كنايةٌ عن خُطورةِ ما يفعَلُه ذلك الخنَّاس في الخَلْقِ والبشَر، وما يُحدِثُه في الكون من غَوايةٍ وضَلالةٍ وتدميرٍ وهلاكٍ، فهو يُغوي الإنسان والمجتمع والدُّول والشعوب على تدمير حَضارات بعضها البعض، ونسْف وُجود أسلافِها، وإيقاعِ الفتن بأبنائها، وإحداث الوَقِيعة بين الأمَّة؛ ممَّا يستوجبُ معه الاستعاذة بصاحب الأمرِ والنَّهي في ذلك الكون؛ حيث لا يقدرُ على الشيطان إلا خالقُه وإلهه ومليكُه، فهذه الكناية تكشفُ عن خُطورة إبليس، وفَداحة الشيطان، وأثر الوَسواس في حياة الأُمَمِ والشُّعوبِ والناسِ، فهذا مَطلَعٌ قُرآني يجعَلُ الخلق في حَذَرٍ من الشيطان، ودأبٍ على تجنُّبِه وتنكُّبِ طريقِه، ذلك الطريق الذي يُودِي بجهودهم وأعمالهم وحيواتهم.
وقوله: ﴿ قل ﴾ أسلوبٌ إنشائي، ونوعُه أمر، وغرضُه البلاغي النُّصح والإرشاد والتوجيه، وفيه كنايةٌ عن صِدْقِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - فيما بلَّغ، فلم يكتفِ بالمقول كما نفعلُ، وإنما قال الفعل الذي أمَرَ به نفسَه، فلم يتدخَّل حتى في تلك اللفظة، وفي ذلك ردٌّ على كلِّ ناعقٍ أو كاذبٍ أو جهولٍ قائل: "إنَّ القُرآن من تأليف محمد"، كما قِيل سابقًا وحكاه القُرآن: ﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ ﴾ [النحل: 103]، فردَّ عليهم القُرآنُ بقوله: ﴿ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾[النجم: 3، 4].
وقوله: ﴿ أعوذ ﴾ هذا فعلٌ مضارع يفيدُ الاستمرارَ، وهو يعني أنْ يظلَّ المسلم معتصمًا بربِّه، عائذًا بمولاه، محتميًا بحِماه، ملتجئ إلى سيِّده القادر المقتدر، لا يَنْسَى ذلك لحظةً؛ حتى لا يفترسه الشيطان، فإذا تحصَّن كلُّ مسلمٍ بالله، واعتصَمَ بمولاه، ولجأ إلى حماه - كان في مَأمَنٍ ومَنجى من هذه الوسوسة، وذلك الشرِّ الوَبِيل.
* وقوله: ﴿ برب الناس ﴾ الباء هنا للاستعانةِ، فالعَوْذُ يكونُ بالله - جَلَّ في عُلاه - وقوله: ﴿ برب ﴾ اسمُ فاعلٍ أصله رابِب - بكسر الباء الأولى - حُذِفَتْ كسرةُ الباء الأولى للاستِثقال، فالتَقَى ساكنان، فحُذفت الألفُ لئلا يلتَقِيَ ساكنان، واسمُ الفاعل هنا بمعنى المربِّي، والمتفضِّل، والمعين، والرازق، والخالق، والربوبيَّة تعني الحدَب والإشفاقَ، والتربية، والحنان، والرعاية والعناية.
* و(أل) في ﴿ الناس ﴾ جنسيَّةٌ؛ فهو ربُّ جنسِ الناس، وإلهُ كلِّ البشَر، لا يشذُّ أحدٌ عن ذلك، ولا يمكنه الخروجُ عن هذا الحدِّ، فإذا اعتاذَ الإنسان بربِّ جميع الأناسيِّ، وكلِّ الخلق، فقد اعتاذَ بالقادرِ على النَّفْعِ، والمقتدرِ على تحصينِ العبد من وَيْلاتِ الحياة، ونزغات الشيطان، وعَواقِب الوسوسة.
وقوله: ﴿ ملك الناس ﴾ المَلِك (بوزن فَعِل) صفة مُشبَّهة؛ أي: إنَّ امتلاكه للناس أمرٌ على سبيل الديمومة والأزَل، فهو المتفرِّد بالتصرُّف فيهم، والمالك المطلق لهم، وهو مالكُ الملوك، ومالكُ يوم الدِّين، وصاحب الملك في الأولى والآخِرة، والناس من ممتلكاته؛ فهو يملكُ ما في الدنيا، وما في الآخِرة: ماديًّا ومعنويًّا، فمَلِك - كما سبق - صفة مشبهة تدلُّ على الصفة ومَنْ ملكَها على سبيل الثُّبوت والدَّوام، وفيه كنايةٌ عن طَلاقة القُدرة، والسَّيْطرة الكاملة على الكون، ومَن فيه، وما فيه.