بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}... (الإسراء : 36).
ذكرت كلمة (السمع) ومشتقاتها وتصاريفها في القرآن الكريم 185 مرة بينما وردت فيه كلمة (البصر) ومشتقاتها وتصاريفها 148 مرة وحيثما وردت كلمة السمع في القرآن الكريم عنت دائماً سماع الكلام والأصوات وإدراك ما تنقله من معلومات، بينما لم تعن كلمة البصر رؤية الضوء والأجسام والصور بالعينين إلا في 88 حالة فقط، إذ إنها دلت في باقي المرات على التبصير العقلي والفكري بظواهر الكون والحياة أو بما يتلقاه المرء ويسمعه من آيات وأقوال. وقد ترافقت كلمتا (السمع) و(البصر) في 38 آية كريمة. كما قال تعالى: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُون}... (السجدة : 9).
{وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ}... (المؤمنون : 78).
{وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْء}... (الأحقاف : 26).
{وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}... (النحل : 78).
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ}... (الملك: 23)
{أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ}... (يونس : 31).
{مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ}... (هود : 20).
{إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}... (الإنسان : 2).
وقد وردت كلمة (الصمم) مترافقة مع كلمة (العمى) في ثمان آيات سبقت في معظمها كلمة (الصمم) كلمة (العمى) كما في قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}... (محمد : 23).
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ}.. (البقرة : 171).
{صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ}... (البقرة : 18).
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا}... (الفرقان : 73)
ومن الملاحظ في هذه الآيات الكونية أن كلمة السمع قد سبقت البصر وبلا استثناء، فلا بد وأن نتساءل هل لهذا السبق من دلالة خاصة؟ قد تبدو الإجابة عن هذا السؤال وللوهلة الأولى وعلى ضوء المعلومات الأولية التي نعرفها عن هذين الحسين صعبة وعسيرة الفهم، فمن المعلوم فيزيولوجيا وتشريحياً أن العصب السمعي إلا على ثلاثين ألف ليف فقط (3.2) كما أن من المعروف فيزيولوجيا أن ثلثاً عدد الأعصاب الحسية في الجسم هي أعصاب بصرية، ولا يرد إلى الجسم من مجموعة المعلومات الحسية عن طريق الجهاز السمعي أكثر من 12% بينما يرد إلى الجسم عن طريق الجهاز البصري حوالي 70% من مجموع المعلومات الحسية.
إذاً هذا التقدم لحس السمع وإيراده قبل حس البصر في كل الآيات تقريباً؟ فلا بد وأن هناك سبباً لم نعرفه بعد، ولكننا لو تبصرنا في الحقائق العلمية التي عرفت حديثاً في علوم الأجنة والتشريح والفيزيولوجي والطب لتمكنا من إيجاد الأجوبة ولا تضح لنا الإعجاز العلمي في هذه الآيات الكريمة فمما عرفناه حتى الآن من هذه الحقائق تتطور آلتا حسي السمع والبصر في وقت متزامن تقريباً في الحياة الجنينية الأولى، إذ تظهر الصحيفة السمعية في آخر الأسبوع الثالث (Otic Placode) وهي أول مكونات آلة السمع، بينما تظهر الصحيفة البصرية في أول الأسبوع الرابع من حياة الجنين.
وتتطور الأذن الداخلية للجنين من هذه الصحيفة السمعية. فيظهر في الأسبوع الرابع الكيس الغشائي لحلزون الأذن (Cochlea Membraneous) الذي ينمو طولياً ويلتف لفتين ونصف مكونا الحلزون الكامل في الأسبوع الثامن، ثم تتم إحاطة الحلزون بغلاف غضروفي في الأسبوع الثامن عشر، وينمو هذا حتى يصل حجمه الحجم الطبيعي له عند البالغين في نهاية الأسٍبوع الواحد والعشرين، عندما ينمو فيه عضو كورتي (وهو عضو حس السمع) وتظهر فيه الخلايا الشعرية الحسية التي تحاط بنهايات العصب السمعي. وبهذا تكون الأذن الداخلية قد نمت ونضجت لتصل إلى حجمها الطبيعي عند البالغين وأصبحت جاهزة للقيام بوظيفة السمع المخصصة لها في الشهر الخامس من عمر الجنين.
وكما سنرى أن هذا القسم من الأذن يتمكن منفرداً من التحسس للأصوات ونقل إشاراتها إلى الدماغ لإدراكها دون أية ضرورة لمساهمة الأذنين الوسطى والخارجية من الأديم الظاهر والأذن الوسطى من الأديم المتوسط فتتولد عظيمات وعضلات الأذن الوسطى وبوق اوستاكي وغشاء الطبلة والصماخ السمعي الخارجي خلال الأسابيع 10 ـ 20 ثم يتم اتصالها بالأذن الداخلية في الأسبوع الحادي والعشرين. كما يتضح شكل صيوان الأذن في بداية الشهر الخامس ويتكامل نموه في الأسبوع الثاني والثلاثين.
أما العين فلا يتم تكامل طبقتها الشبكية الحساسة للضوء إلا بعد الأسبوع الخامس والعشرين ولا تتغطى ألياف العصب البصري بالطبقة النخاعية لتتمكن من نقل الإشارات العصبية البصرية بكفاءة إلا بعد أسابيع من ولادة الجنين. كما يبقى جفني عيني الجنين حتى الأسبوع السادس والعشرين من الحياة الجنينية.
يتضح مما تقدم أن الأذن الداخلية للجنين تنضج وتصبح قادرة على السمع في الشهر الخامس، بينما لا تفتح العين ولا تتطور طبقتها الحساسة للضوء إلا في الشهر السابع وحتى عند ذاك لن يكون العصب البصري مكتملاً لينقل الإشارات العصبية الضوئية بكفاءة، ولن تبصر العين لأنها غارقة في ظلمات ثلاث.
2- السمع والبصر: لقد ثبت علمياً أن الأذن الداخلية للجنين تتحسن للأصوات في الشهر الخامس، ويسمع الجنين أصوات حركات أمعاء وقلب أمه، وتتولد نتيجة هذا السمع إشارات عصبية سمعية في الأذن الداخلية، والعصب السمعي والمنطقة السمعية في المخ، يمكن تسجيلها بآلات التسجيل المختبرية، وهذا برهان علمي يثبت سماع الجنين للأصوات في هذه المرحلة المبكرة من عمره. ولم تسجل مثل هذه الإشارات العصبية في الجهاز البصري للجنين إلا بعد ولادته.