بسم الله الرحمن الرحيم
لا يمكن النطق بأجزاء الكلام دفعة واحدة، بل لا بد من تقديم بعض الأجزاء وتأخير البعض.
والأصل في صياغة الجملة العربية وضع الألفاظ في مواضعها، فالمبتدأ مقدم على الخبر، والفعل مقدم على الفاعل والعمدة مقدم على الفضلة.
لكن قد تدعو بعض الأسباب إلى مخالفة هذا الأصل والعدول عنه، وتغيير مواضع هذه الكلمات إلى مواضع أخرى بتقديمها أو تأخيرها، لتحقيق غرض بلاغي أو للتركيز على معنى بياني.
والتقديم والتأخير في القرآن قسمان:
الأول: تقديم اللفظ على عامله: كتقديم المفعول به على الفعل، وتقديم الحال على فعله، وتقديم الظرف والجار والمجرور على فعلهما و تقديم الخبر على المبتدأ، وهذا التقديم في الغالب يفيد الاختصاص، وهذا كثير في القرآن منه:
- قوله تعالى: إيَّاك نَعبدُ وإيَّاك نَستَعِين فقد قدّم المفعول به "إياك" على فعل العبادة وعلى فعل الاستعانة دون فعل الهداية فلم يقل إيانا اهد كما قال في الأوليين ، وسبب ذلك أن العبادة والاستعانة مختصتان بالله تعالى فلا يعبد أحد غيره ولا يستعان به، وهذا نظير قوله تعالى بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) [الزمر] وقوله وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) [البقرة]
فقدم المفعول به على فعل العبادة في الموضعين، وذلك لأن العبادة مختصة بالله تعالى.
أما طلب الهداية فلا يصح فيه الاختصاص؛ لأنه لا يصح أن تقول: "اللهم اهدني وحدي ولا تهد أحداً غيري" أو "خُصني بالهداية من دون الناس" وهو كما تقول: "اللهم ارزقني واشفني وعافني" فأنت تسأل لنفسك ذلك، ولم تسأله أن يخصك وحدك بالرزق والشفاء والعافية فلا يرزق أحداً غيرك ولا يشفيه ولا يعافيه( ).
- وقوله تعالى: وعلى الله فليتوكل المتوكلون فقدم الجار والمجرور للدلالة على الاختصاص وذلك لأن التوكّل لا يكون إلا على الله وحده والإنابة ليست إلا إليه وحده( ).
- وقوله تعالى: ألا إلى الله تصير الأمور أي: أن الله مختص بصيرورة الأمور إليه دون غيره.
- وقوله تعالى: إن إلينا إيابهم . ثم إن علينا حسابهمأي: إن الإياب لا يكون إلا إلى الله .
- وقوله تعالى: وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو قدم الظرف الذي هو الخبر على المبتدأ (مفاتح الغيب) وذلك لاختصاصه سبحانه بعلم الغيب، ألا ترى كيف أكد ذلك الاختصاص بأسلوب آخر هو أسلوب القصر فقال: لا يعلمها إلا هو( ).
ومن التقديم الذي لا يفيد الاختصاص:
قوله تعالى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ فليس معناه أننا ما هدينا إلا نوحا، وإنما هو من باب المدح والثناء.
وقوله تعالى: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ{9} وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ{10} ليس المقصود جواز قهر غير اليتيم ونهر غير السائل، وإنما هو من باب التوجيه، لأن اليتيم والسائل مظنة القهر والنهر فقدمهما للاهتمام بشأنهما، والتوجيه إلى عدم استضعافهما( )..
الثاني: تقديم الألفاظ بعضها على بعض في غير العامل( )، وذلك لأسباب منها:
1. التبرك: كتقديم اسم الله تعالى في الأمور ذات الشأن ومنه قوله تعالى: شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ.
2. التعظيم كقوله تعالى: ومَن يُطِعِ اللهَ والرَّسُول إنَّ اللهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبي.
3. التشريف ومنه تقديم الله سبحانه في الذكر كقوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) [النساء] فقدم الله على الرسول ثم قدم السعداء من الخلق بحسب تفاضلهم فبدأ بالأفضلين وهم النبيون ثم ذكر من بعدهم بحسب تفاضلهم( ).
ومنه تقديم الحي على الميت في قوله: يخرج الحي من الميت .
وجعلوا من ذلك تقديم السمع على البصر، كما في قوله تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) [الشورى] و إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) [غافر] وقال: إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) و هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) [غافر] [الإسراء] .
وقال تعالى: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) [الإنسان] فقدم السمع على البصر، وقال: وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) [الفرقان] فقدّم الصم -وهم فاقدو السمع- على العميان -وهم فاقدو البصر- قالوا: لأن السمع أفضل، قالوا: والدليل على ذلك أن الله تعالى لم يبعث نياً أصم، ولكن قد يكون النبي أعمى كيعقوب فإنه عمي لفقد ولده.
والظاهر أن السمع بالنسبة إلى تلقي الرسالة أفضل من البصر، ففاقد البصر يستطيع أن يفهم ويعي مقاصد الرسالة، فإن مهمة الرسل التبليغ عن الله، والأعمى يمكن تبليغه بها وتيسير استيعابه لها كالبصير غير أن فاقد السمع لا يمكن تبليغه بسهولة، فالأصم أنأى عن الفهم من الأعمى، ولذا كان العميان علماء كبار بخلاف الصم، فلكون متعلق ذلك التبليغ كان تقديم السمع أولى.
ويمكن أن يكون تقديم السمع على البصر لسبب آخر عدا الأفضلية، وهو أن مدى السمع أقل من مدى الرؤية فقدم ذا المدى الأقل متدرجاً من القصر إلى الطول في المدى، ولذا حين قال موسى في فرعون: قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) [طه]قال تعالى: قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) [طه] فقدم السمع لأنه يوحي بالقرب إذ الذي يسمعك يكون في العادة قريباً منك بخلاف الذي يراك فإنه قد يكون بعيداً، وإن كان الله لا يند عن سمعه شيء( ).
4. المناسبة: نحو: وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا قدم نفي الإسراف لأنه أنسب بالإنفاق، وقوله: يريكم البرق خوفا وطمعا لأن الصواعق تقع مع أول برقة ولا يحصل المطر إلا بعد توالي البرقات.
وقد تكون المناسبة من التقدم والتأخر كقوله تعالى: الأول الآخر ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين( ).
5. الحث عليه والحض على القيام به حذرا من التهاون به كتقديم الوصية على الدين في قوله من بعد وصية يوصي بها أو دين مع أن الدين مقدم عليها شرعا.
6. السبق وهو إما في الزمان باعتبار الإيجاد بتقديم الليل على النهار، أو باعتبار الإنزال كقوله: صحف إبراهيم وموسى ، أو باعتبار الوجوب والتكليف نحو اركعوا واسجدوا، أو بالذات نحو: مثنى وثلاث ورباع.
7. السببية: كتقديم العزيز على الحكيم ، لأنه عز فحكم، ومنه إنّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابينَ وَيُحِبُ المتَطَهِّرِين فإن التوبة سبب للطهارة، وكذلك: كُل أَفَّاكٍ أَثِيم فإن الإفك سبب للإثم( ).
8. التدرج من الأدنى إلى الأعلى كقوله: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا [الأعراف:195] بدأ بالأدنى لغرض الترقي لأن اليد أشرف من الرجل والعين أشرف من اليد والسمع أشرف من البصر.
9. الرتبة وهو قريب من السابق، كقوله تعالى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ{10} هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ{11} مَنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ{12} فتقديم هماز على مشاء بنميم بالرتبة، لأن المشي مرتب على القعود في المكان، والهماز هو العياب وذلك لا يفتقر إلى حركة وانتقال من موضعه بخلاف النميمة، وأما تقدم مناع للخير على معتد فبالرتبة أيضا، لأن المناع يمنع من نفسه والمعتدي يعتدي على غيره ونفسه قبل غيره( ).
ثم ختم بقوله: أثيم وهو وصف جامع لأنواع الشرور، وهذه مرتبة أخرى أشد إيذاء ( ).
وجعلوا منه تقدم السمع على العلم حيث وقع في القرآن الكريم كقوله تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) [البقرة] وقوله: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) [الأنفال] وذلك أنه خبر يتضمن التخويف والتهديد، فبدأ بالسمع لتعلقه بالأصوات وهمس الحركات فإن من يسمع حسك وخفي صوتك أقرب إليك في العادة ممن يقال لك: إنه يعلم، وإن كان علمه تعالى متعلقاً بما ظهر وبطن وواقعاً على ما قرب وشطن، ولكن ذكر السميع أوقع في باب التخويف من ذكر العليم فهو أولى بالتقديم.
ويمكن أن يقال: إن السمع من وسائل العلم فهو يسبقه.
وجعلوا منه أيضاً تقديم المغفرة على الرحمة نحو قوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) [البقرة] في آيات كثيرة وقوله: وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) [النساء] .
قالوا: سبب تقديم الغفور على الرحيم أن المغفرة سلامة والرحمة غنيمة والسلامة مطلوبة قبل الغنيمة.
وإنما تأخرت في سورة سبأ في قوله: يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) لأنها منتظمة في سلك تعداد أصناف الخلق من المكلفين وغيرهم، فالرحمة شملتهم جميعاً والمغفرة تخص بعضاً، والعموم قبل الخصوص بالرتبة( ).
ولإيضاح ذلك أن جميع الخلائق من الإنس والجن والحيوان وغيرهم محتاجون إلى رحمته، فهي برحمته تحيا وتعيش، وبرحمته تتراحم، وأما المغفرة فتخص المكلفين فالرحمة أعمّ( ).
10. التدرج من القلة للكثرة كما في قوله تعالى: أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ فالطائفون أقل من العاكفين، لأن الطواف لا يكون إلا حول الكعبة، والطواف يكون في المساجد عموما، والعاكفون أقل من الراكعين، لأن الركوع –أي الصلاة- تكون في كل أرض طاهرة، وأما العكوف فلا يكون إلا في المساجد، والراكعون أقل من الساجدين، لأن لكل ركعة سجدتين( ).
ومنه قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) [النساء]
تدرج من الفئة القليلة إلى الكثرة فبدأ بالنبيين وهم أقل الخلق ثم الصدّيقين وهم أكثر ثم الشهداء ثم الصالحين فكل صنف أكثر من الذي قبله، فهو تدرج من القلة إلى الكثرة، ومن الأفضل إلى الفاضل ولا شك أن أفضل الخلق هم أقل الخلق إذ كلما ترقى الناس في الفضل قلّ صنفهم( ).
11. التدرج من الكثرة إلى القلة، كما في الأمثلة التالية:
أ- قوله تعالى: يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ فبدأ بالقنوت وهو عموم العبادة، ثم السجود وهو أقل وأخص، ثم الركوع وهو أقل وأخص( ).
ب- وقوله تعالى: فمنكم كافر ومنكم مؤمن[التغابن] فبدأ بالكفار لأنهم أكثر( ).
ت- وقوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ[فاطر:32]. فقدم الظالم لكثرته، ثم المقتصد وهو أقل ممن قبله، ثم السابقين وهم أقل( ).
ث- وقوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا[المائدة:38]قدم السارق على السارقة لأن السرقة في الذكور أكثر.
ج- وقدم الزانية على الزاني في قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ لأن الزنى فيهن أكثر( )
12. التناسب مع السياق، بأن يكون السياق بعد ذلك مرتبا حسب ترتيب التقديم والتأخير السابق له، أو أن يكون موضوع الكلمة المقدمة هو الغالب على السياق كما في الأمثلة التالية:
- قوله تعالى:فمنكم كافر ومنكم مؤمن[التغابن] هو إشارة إلى أنه سيبدأ بذكر الكافرين ثم بذكر المؤمنين بعدهم، فقد قال بعد هذه الآية: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ{5} ثم قال بعد ذلك: وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ{9} ولا يناقض هذا ما ذكرناه في تعليل التقديم بأنه جرى بحسب الكثرة، إذ ربما كان أكثر من ملحظ للتقديم والتأخير، فقد تعاضد على ذلك أمران كلاهما يقتضي التقديم وهو تعاضد فني رائع( ).
- ومن ذلك تقديم لفظ (الضر) على (النفع) وبالعكس، قالوا: حيث تقدم النفع على الضر فلتقدم ما يتضمن النفع، قال تعالى: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [الأعراف:188] فقدم النفع على الضرر، وذلك لأنه تقدمه في قوله: مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ{178} وبعد ذلك قال: وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ{188}فقدم الخير على السوء، ولذا قدم النفع على الضر إذ هو مناسب للسياق.
وقال تعالى: قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ [يونس:49] فقدم الضر على النفع، وقد قال قبل هذه الآية: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ...{11} وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ ...{12} فقدم الضر على النفع في الآيتين، ويأتي بعد هذه الآية قوله: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ{50} فكان المناسب تقديم الضرر على النفع ههنا.
13. اقتضاء السياق: وهو أن يتقدم ذكر لكلمة أو لجملة تقتضي تقديم ما يتعلق بها، وقد لا يتقدم شيء من ذلك فلا تقدم في موضع آخر، كما في المثالين التاليين:
أ- قال تعالى: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ[الأنبياء:31]
وقال تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً{19} لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً{20} [نوح]فقدم الفجاج على السبل في الآية الأولى، وأخرها عنها في آية نوح، وذلك لأن الفج في الأصل هو الطريق في الجبل أو بين الجبلين، فلما تقدم في آية الأنبياء ذكر الرواسي وهي الجبال قدم الفجاج لذلك، بخلاف آية نوح فإنه لم يرد فيها ذكر للجبال فأخرها.
ب- قال تعالى: وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ{157} وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ{158} [آل عمران] لما ذكر في الآية الأولى "في سبيل الله" وهو الجهاد قدم القتل إذ هو المناسب لأن الجهاد مظنة القتل، ولما لم يقل في الثانية: "في سبيل الله" قدم الموت على القتل، لأنه الحالة الطبيعية في غير الجهاد( ).
وشبيه بهذا أن تجتمع صفتان كل واحدة تقتضي التقديم لكن تكون إحداهما أهم في مكان فتقدم، وإن أخرت في غيره من ذلك:
1- قال تعالى: إنما أموالكم وأولادكم فتنةتقديم الأموال هنا لكونها سببا للأولاد، لأن الإنسان يشرع في النكاح عند قدرته على مؤنه، والنكاح سبب للتناسل، وقدم النساء على البنين وأخر المال عنهما في قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ [آل عمران:14]لأن الآية مصدرة بالحب والنساء والبنين أقعد في المحبة الجبلية.
2- قدمت السماء على الأرض لأنها أكمل شرفا، وأخرت في قوله تعالى: َمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء لتقدم: وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً( ).