بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
دلائل تعلم الإنسان من الحيوان
وكثير من العقلاء يتعلم من الحيوانات البهم أموراً تنفعه في معاشه وأخلاقه وصناعته وحربه وحزمه وصبره ، وهداية الحيوان فوق هداية أكثر الناس قال تعالى : ( أمّ تحسب أنَّ أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلاَّ كالأنعام بل هم أضلُّ سبيلاً ) [ الفرقان : 44 ] قال أبو جعفر الباقر : والله ما اقتصر على تشبيههم بالأنعام ، حتى جعلهم أضل سبيلاً منها ، فمن هدى الأنثى من السباع إذا وضعت ولدها أن ترفعه في الهواء أياماً تهرب به من الذر والنمل ، لأنها تضعه كقطعة من لحم ، فهي تخاف عليه الذر والنمل ، فلا تزال ترفعه وتضعه وتحوله من مكان إلى مكان حتى يشتد .
وقال ابن الأعرابي : قيل لشيخ من قريش : مَنّ علمك هذا كله ، وإنما يعرف مثله أصحاب التجارب والتكسب ؟ قال : علمني الله ما علم الحمامة تقلب بيضها حتى تعطي الوجهين جميعاً نصيبهما من حضانتها ، ولخوف طباع الأرض على البيض إذا استمر على جانب واحد .
وقيل لآخر : مَنْ علمك اللجاج في الحاجة والصبر عليها وإن استعصت حتى تظفر بها ؟ قال : مِنْ علم الخنفساء إذا صعدت في الحائط تسقط ، ثم تصعد ، ثم تسقط مراراً عديدة ، حتى تستمر صاعدة .
وقيل لآخر : مَنْ علمك البكور في حوائجك أول النهار لا تخل به ؟ قال : من علم الطير تغدو خماصاً كل بكرة في طلب أقواتها على قربها وبعدها ، لا تسأم ذلك ، ولا تخاف ما يعرض لها في الجو والأرض .
وقيل لآخر : مَنْ علمك السكون والتحفظ والتماوت حتى تظفر بأربك ، فإذا ظفرت به وثبت وثوب الأسد على فريسته ؟ فقال : الذي علم السِّنَّورة أن ترصد جحر الفأرة ، فلا تتحرك ولا تتلوى ، ولا تختلج كأنها ميتة ، حتى إذا برزت لها الفأرة وثبت عليها كالأسد .
وقيل لآخر : مَنْ علمك الصبر والجلد والاحتمال وعدم السكون ؟ قال : من علم ابا أيوب صبره على الأثقال والأحمال الثقيلة ، والمشي والتعب وغلظة الجمّال وضربه ، فالثقل والكل على ظهره ، ومرارة الجوع والعطش في كبده ، وجهد التعب والمشقة ملأ جوارحه ولا يعدل به ذلك عن الصبر .
وقيل لآخر : مَنْ علمك حسن الإيثار والسماحة بالبذل ؟ قال : من علم الديك يصادف الحبة في الأرض ، وهو يحتاج إليها فلا يأكلها ؛ بل يستدعي الدجاج ويطلبهن طلباً حثيثاً ، حتى تجيء الواحدة منهن فتلقطها ، وهو مسرور بذلك طيب النفس به ، وإذا وضع له الحب الكثير فرّقه هنا و هنا ، وإن لم يكن هناك دجاج ، لأن طبعه قد ألف البذل والجود ، فهو يرى من اللؤم أن يستبد وحده بالطعام .
وقيل لآخر : مَنْ علمك هذا التحيل في طلب الرزق ووجوه تحصيله ؟ قال : من علم الثعلب تلك الحيل التي يعجز العقلاء عن علمها وعملها ، وهي أكثر من أن تذكر .
ومَنْ علم الأسد إذا مشى وخاف أن يقتفى أثره ويطلب ، عفى أثر مشيته بِذَنَبِه ، ومن علمه أن يأتي إلى شبله في اليوم الثالث من وضعه ، فينفخ في منخريه ، لأن اللبوة تضعه جرواً كالميت ، فلا تزال تحرسه حتى يأتي أبوه فيفعل به ذلك ! .
ومن ألهم كرام الأسود وأشرافها أن لا تأكل إلا من فريستها ، وإذا مر بفريسة غيره لم يدن منها ولو جهده الجوع !
ومن علم الأنثى من الفيلة إذا دنا وقت ولادتها أن تأتي إلى الماء فتلد فيه ، لأنها دون الحيوانات لا تلد إلا قائمة ، لأن أوصالها على خلاف أوصال الحيوان ، وهي عالية ، فتخاف أن تسقطه على الأرض فينصدع أو ينشق ، فتأتي ماء وسطاً تضعه فيه يكون كالفراش اللين والوطاء الناعم .
ومن علم الذباب إذا سقط في مائع أن يتقي بالجناح الذي فيه الداء دون الآخر !
ومَنْ علم الكلب إذا عاين الظباء أن يعرف المعتل من غيره ، والذكر من الأنثى ، فيقصد الذكر مع علمه بأنّ عدوه أشد وأبعد وثبة ، ويدع الأنثى على نقصان عدوها ؛ لأنّه قد علم أن الذكر إذا عدا شوطاً أو شوطين حقن ببوله ، وكل حيوان إذا اشتد فزعه فإنه يدركه الحقن ، وإذا حقن الذكر لم يستطع البول مع شدة العدو ، فيقل عدوه ، فيدركه الكلب ، وأما الأنثى فتحذف بولها لسعة القبل وسهولة المخرج ، فيدوم عدوها !.
ومَنْ علمه أنه إذا كسا الثلج الأرض أن يتأمل الموضع الرقيق الذي قد انخسف ، فيعلم أن تحته جحر الأرانب ، فينبشه ، ويصطادها علماً منه بأن حرارة أنفاسها تذيب بعض الثلج فيرق !
ومن علم الذئب إذا نام أن يجعل النوم نوباً بين عينيه ، فينام بإحداهما ، حتى إذا نعست الأخرى نام بها ، وفتح النائمة ! حتى قال بعض العرب :
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي ××× بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
ومَنْ علم العصفورة إذا سقط فرخها أن تستغيث ، فلا يبقى عصفور بجوارها حتى يجيء ، فيطيرون حول الفرخ ، ويحركونه بأفعالهم ، ويحدثون له قوة وهمة وحركة ، حتى يطير معهم !
قال بعض الصيادين : ربما رأيت العصفور على الحائط ، فأومي بيدي كأني أرميه فلا يطير ، وربما أهويت إلى الأرض كأني أتناول شيئاً فلا يتحرك ، فإن مسست بيدي أدنى حصاة أو حجر أو نواة طار قبل أن تتمكن منها يدي .
ومن علم (( اللبب )) وهو صنف من العناكب أن يلطأ بالأرض ، ويجمع نفسه ، فيرى الذبابة أنه لاه عنها ، ثم يثب عليها وثوب الفهد !
ومن علم العنكبوت أن تنسج تلك الشبكة الرفيعة المحكمة ، وتجعل في أعلاها خيطاً ثم تتعلق به ، فإذا تعرقلت البعوضة في الشبكة تدلت إليها فاصطادتها !
ومن علم الظبي أن لا يدخل كناسه إلا مستدبراً ، ليستقبل بعينه ما يخافه على نفسه وخشفه !
ومن علم السنور إذا رأى فأرة في السقف أن يرفع رأسه كالمشير إليها بالعود ، ثم يشير إليها بالرجوع ، وإنما يريد أن يدهشها فتزلق فتسقط !
ومن علم اليربوع أن يحفر بيته في سفح الوادي حيث يرتفع عن مجرى السيل ليسلم من مدق الحافر ومجرى الماء ، ويعمقه ثم يتخذ يف زواياه أبواباً عديدة ، ويجعل بينها وبين وجه الأرض حاجزاً رقيقاً ، فإذا أحس بالشر فتح بعضها بأيسر شيء ، وخرج منه ، ولما كان كثير النسيان لم يحفر بيته إلا عند أكمة أو صخرة علامة له على البيت ، إذا ضل عنه!
ومن علم الفهد إذا سمن أن يتوارى لثقل الحركة عليه حتى يذهب ذلك السمن ، ثم يظهر !
ومن علم الأيل إذا سقط قرنه أن يتوارى ، لأنّ سلاحه قد ذهب ، فيسمن لذلك ، فإذا كمل نبات قرنه تعرض للشمس والريح ، وأكثر من الحركة ليشتد لحمه ، ويزول السمن المانع له من العدو .
وهذا باب واسع جداً ، ويكفي فيه قوله – سبحانه – ( وما من دابَّةٍ في الأرض ولا طائِرٍ يطير بجناحيه إلاَّ أمم أمثالكم مَّا فرَّطنا في الكتاب من شيء ثمَّ إلى ربهم يحشرون – والَّذين كذَّبوا بِآيَاتِنَا صمٌّ وبكمٌ في الظُّلمات من يَشَإِ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراطٍ مستقيمٍ ) [ الأنعام : 38-39 ] .
وجه المماثلة بين الحيوانات وبني الإنسان :
قال ابن عباس في رواية عطاء : ( إلاَّ أمم أمثالكم ) [ الأنعام : 38 ] ، ويريد : يعرفونني ، ويوحدونني ، ويسبحونني ، ويحمدونني ، مثل قوله تعالى : ( وإن من شيءٍ إلاَّ يسبح بحمده ) [ الإسراء : 44 ] ، ومثل قوله : ( ألم تر أنَّ الله يسبح له من في السَّماوات والأرض والطَّير صافاتٍ كلٌّ قد علم صلاته وتسبيحه ) [ النور : 41 ] .
(1/76)
ويدل على هذا قوله تعالى : ( ألم تر أنَّ الله يسجد له من في السَّماوات ومن في الأرض والشَّمس والقمر والنُّجوم والجبال والشَّجر والدَّواب ) [ الحج : 18 ] وقوله : ( ولله يسجد ما في السَّماوات وما في الأرض من دابّةٍ والملائكة وهم لا يستكبرون ) [النحل : 49 ] ، ويدل عليه قوله تعالى : ( يا جبال أوّبي معه والطَّير ) [ سبأ : 10 ] ، ويدل عليه قوله : ( وأوحى ربُّك إلى النَّحل ) [ النحل : 68 ] ، وقوله : ( قالت نملةٌ يا أيُّها النَّمل ) [ النمل : 18 ] ، وقول سليمان ( عُلّمنا منطق الطَّير ) [ النمل : 16 ] .
وقال مجاهد : أمم أمثالكم ، أصناف مصنفة تعرف بأسمائها ، وقال الزجاج : أمم أمثالكم في أنها تبعث .
وقال ابن قتيبة : أمم أمثالكم في طلب الغذاء ، وابتغاء الرزق ، وتوقي المهالك .
وقال سفيان بن عيينة : ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم ، فمنهم من يهتصر اهتصار الأسد ، ومنهم من يعدو عدو الذئب ، ومنهم من ينبح نباح الكلب ، ومنهم من يتطوس كفعل الطاووس ، ومنهم من يشبه الخنازير التي لو ألقي عليها الطعام الطيب عافته ، فإذا قام الرجل عن رجيعه ولغت فيه ، فلذلك تجد من الآدميين من لو سمع خمسين كلمة لم يحفظ واحدة منها ، وإن أخطأ رجل ترّواه وحفظه .
قال الخطابي : ما أحسن ما تأول سفيان هذه الآية واستنبط منها هذه الحكمة ، وذلك أن الكلام إذا لم يكن حكمه مطاوعاً لظاهره وجب المصير إلى باطنه ، وقد أخبر الله عن وجود المماثلة بين الإنسان وبين كل طائر ودابة ، وذلك ممتنع من جهة الخلقة والصورة ، وعدم من جهة النطق والمعرفة ، فوجب أن يكون منصرفاً إلى المماثلة في الطباع والأخلاق .
والله – سبحانه – قد جعل بعض الدواب كسوباً محتالاً ، وبعضها متوكلاً غير محتال ، وبعض الحشرات يدخر لنفسه قوت سنته ، وبعضها يتكل على الثقة بأن له في كل يوم قدر كفايته رزقاً مضموناً وأمراً مقطوعاً ، وبعضها لا يعرف ولده ألبتة ، وبعض الإناث تكفل ولدها لا تعدوه ، وبعضها تضيع ولدها ، وتكفل ولد غيرها ، وبعضها لا تعرف ولدها إذا استغنى عنها ، وبعضها يدخر ، وبعضها لا تكسب له ، وبعض الذكور يعول ولده ، وبعضها لا تزال تعرفه وتعطف عليه .
وجعل بعض الحيوانات يُتمها من قِبل أمهاتها ،وبعضها يُتمها من قبل آبائها ، وبعضها لا يلتمس الولد ، وبعضها يستفرغ الهم في طلبه ، وبعضها يعرف الإحسان ويشكره ، وبعضها ليس ذلك عنده شيئاً ، وبعضها يؤثر على نفسه ، وبعضها إذا ظفر بما يكفي أمة من جنسه لم يدع أحداً يدنو منه .
وبعضها يألف بني آدم ويأنس بهم ، وبعضها يستوحش منهم ، وينفر غاية النفار ، وبعضها لا يأكل إلا الطيب ، وبعضها لا يأكل إلا الخبائث ، وبعضها يجمع بين الأمرين .
وبعضها لا يؤذي إلا من بالغ في أذاها ، وبعضها يؤذي من لا يؤذيها ، وبعضها حقود لا ينسى الإساءة ، وبعضها لا يذكرها ألبتة ، وبعضها لا يغضب ، وبعضها يشتد غضبه ، فلا يزال يسترضى حتى يرضى ، وبعضها عنده علم ومعرفة بأمور دقيقة لا يهتدي إليها أكثر الناس ، وبعضها لا معرفة له بشيء من ذلك ألبتة ، وبعضها يستقبح القبيح وينفر منه ، وبعضها الحسن والقبيح سواء عنده ، وبعضها يقبل التعليم بسرعة ، وبعضها مع الطول ، وبعضها لا يقبل ذلك بحال .
وهذا كله من أدل الدلائل على الخالق لها سبحانه ، وعلى إتقان صنعه ، وعجيب تدبيره ، ولطيف حكمته ، فإن فيما أودعها من غرائب المعارف ، وغوامض الحيل ، وحسن التدبير ، والتأني لما تريده ، ما يستنطق الأفواه بالتسبيح ، ويملأ القلوب من معرفته ومعرفة حكمته وقدرته ، وما يعلم به كل عاقل أنه لم يخلق عبثاً ، ولم يترك سدى ، وأن له – سبحانه – في كل مخلوق حكمة باهرة وآية ظاهرة وبرهاناً قاطعاً ، يدل على أنه رب كل شيء ومليكه ، وأنه المتفرد بكل كمال دون خلقه ، وأنه على كل شيء قدير ، وبكل شيء عليم .