بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الفرقان
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُوراً (3)
مقدمة سورة الفرقان
هذه السورة المكية تبدو كلها وكأنها إيناس لرسول الله [ ص ] وتسرية , وتطمين له وتقوية وهو يواجه مشركي قريش , وعنادهم له , وتطاولهم عليه , وتعنتهم معه , وجدالهم بالباطل , ووقوفهم في وجه الهدي وصدهم عنه .
فهي في لمحة منها تصور الإيناس اللطيف الذي يحيط به الله عبده ورسوله ; وكأنما يمسح على آلامه ومتاعبه مسحا رفيقا ; ويهدهد قلبه , ويفيض عليه من الثقة والطمأنينة , وينسم عليه من أنسام الرعاية واللطف والمودة .
وهي في اللمحة الأخرى تصور المعركة العنيفة مع البشرية الضالة الجاحدة المشاقة لله ورسوله , وهي تجادل في عنف , وتشرد في جموح , وتتطاول في وقحة , وتتعنت في عناد , وتجنح عن الهدى الواضح الناطق المبين .
إنها البشرية التي تقول عن هذا القرآن العظيم: (إن هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون). . أو تقول: (أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا)والتي تقول عن محمد رسول الله الكريم: (إن تتبعون إلا رجلا مسحورا). . أو تقول في استهزاء: (أهذا الذي بعث الله رسولا ?). . والتي لا تكتفي بهذا الضلال , فإذا هي تتطاول في فجور على ربها الكبيروإذا قيل لهم:اسجدوا للرحمن قالوا:وما الرحمن ? أنسجد لما تأمرنا ? وزادهم نفورا). أو تتعنت فتقول: لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا ? .
وهي هي من قديم كما يرسمها سياق السورة من عهد نوح إلى موقفها هذا الأخير مع رسولها الأخير . . لقد اعترض القوم على بشرية الرسول [ ص ] فقالوا: ( ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ? لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا !).
واعترضوا على حظه من المال , فقالوا: ( أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة يأكل منها).
واعترضوا على طريقة تنزيل القرآن فقالوا: ( لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة !).
وذلك فوق التكذيب والاستهزاء والافتراء الأثيم .
ووقف الرسول [ ص ] يواجه هذا كله , وهو وحيد فريد مجرد من الجاه والمال , ملتزم حده مع ربه لا يقترح عليه شيئا , ولا يزيد على أن يتوجه إليه مبتغيا رضاه , ولا يحفل بشيء سواه:" رب إلا يكن بك علي غضب فلا أبالي . لك العتبى حتى ترضى " . .
فهنا في هذه السورة يؤويه ربه إلى كنفه , ويمسح على آلامه ومتاعبه , ويهدهده ويسري عنه , ويهون عليه مشقة ما يلقى من عنت القوم وسوء أدبهم وتطاولهم عليه , بأنهم يتطاولون على خالقهم ورازقهم , وخالق هذا الكون كله ومقدره ومدبره . . فلا عليه أن ينالوه بشيء من ذاك ! (ويعبدون من دون الله مالا ينفعهم ولا يضرهم وكان الكافر على ربه ظهيرا). .(واتخذوا من دونه آلهة لا يخلقون شيئا وهم يخلقون , ولا يملكون لأنفسهم ضرا ولا نفعا ولا يملكون موتا ولا حياة ولا نشورا). . (وإذا قيل لهم:اسجدوا للرحمن قالوا:وما الرحمن ?). .
ويعزيه عن استهزائهم به بتصوير المستوى الهابط الذي يتمرغون فيهأرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا ? أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون ? إن هم إلا كالأنعام , بل هم أضل سبيلا !).
ويعده العون والمساعدة في معركة الجدل والمحاجةولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا). . وفي نهاية المعركة كلها يعرض عليه مصارع المكذبين من قبل:قوم موسى ونوح وعاد وثمود وأصحاب الرس وما بين ذلك من قرون .
ويعرض عليه نهايتهم التعيسة في سلسلة من مشاهد القيامةالذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أولئك شر مكانا وأضل سبيلا). . (بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا . إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا . وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا . لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا ادعوا ثبورا كثيرا) (ويوم يعض الظالم على يديه يقول:يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا . يا ويلتا ! ليتني لم أتخذ فلانا خليلا). .
ويسليه بأن مثله مثل الرسل كلهم قبله: (وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق). .(وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين . وكفى بربك هاديا ونصيرا).
ويكلفه أن يصبر ويصابر , ويجاهد الكافرين بما معه من قرآن ,
واضح الحجة
قوي البرهان
عميق الأثر في الوجدانفلا تطع الكافرين وجاهدهم به جهادا كبيرا). .
ويغريه على مشاق الجهاد بالتوكل على مولاه (وتوكل علي الحي الذي لا يموت وسبح بحمده , وكفى به بذنوب عباده خبيرا . .
وهكذا تمضي السورة:في لمحة منها إيناس وتسرية وعطف وإيواء من الله لرسوله . وفي لمحة منها مشاقة وعنت من المشركين لرسول الله [ ص ] وتتبير ونكال من الله الكبير المتعال
. حتى تقرب من نهايتها , فإذا ريح رخاء وروح وريحان , وطمأنينة وسلام . . وإذا صورة (عباد الرحمن). . (الذين يمشون على الأرض هونا , وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما . . .)
وكأنما تتمخض عنهم معركة الجهادالشاقة مع البشرية الجاحدة الضالة المعاندة المشاقة ; وكأنما هم الثمرة الحلوة الجنية الممثلة للخير الكامن في شجرة البشرية ذات الأشواك .
وتختم السورة بتصوير هوان البشرية على الله , لولا تلك القلوب المؤمنة التي تلتجىء إليه وتدعوهقل:ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم . فقد كذبتم فسوف يكون لزاما).