بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في القرآن الكريم آيات ثلاث تشابه مضمونها، واختلفت في بعض ألفاظها، نبين فيما يلي وجه هذا الاختلاف:
الآية الأولى: قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون} (البقرة:170).
الآية الثانية: قوله سبحانه: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون} (المائدة:104).
الآية الثالثة: قوله عز وجل: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير} (لقمان:21).
والاختلاف بين هذه الآيات يظهر في موضعين:
الموضع الأول: أن الفعل في آية البقرة جاء على النحو التالي: {ألفينا}، بينما في آيتي المائدة ولقمان جاء وفق التالي: {وجدنا}.
الموضع الثاني: أن ختام الآيات جاء بألفاظ مختلفة، فجاء في آية البقرة: {أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}، وفي آية المائدة: {أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون}.
أما الموضع الأول من الاختلاف، فقد وجهوا القول فيه على النحو التالي: أن الفعل (ألفى) بمعنى (وجد)، ولا يقال (ألفى) بمعنى (وجد) التي بمعنى (عَلِمَ) متعدياً إلى مفعولين، تقول: ألفيت زيداً عالماً. فـ (وجد) لفظ مشترك، يقال بمعنى (العلم)، وبمعنى (العثور على الشيء)، تقول: وجدت الضالة، أي: عثرت عليها. وإذا تقرر هذا، فيقال: إنه قد تقدم قبل آية البقرة قوله سبحانه: {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} (البقرة:168)، وقوله: {إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} (البقرة:169)، و{خطوات الشيطان} وأمره أهواء مضلة، وذلك كله على طرفي نقيض من مقتضى (العلم)، وحصل من هذا أن الشيطان هو الذي يأمرهم، ويدعوهم إلى أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، وحاصل هذا أنه لا علم عندهم، ولا توهم علم، وأنهم اعتمدوا اتباع آبائهم فيما يأمر به الشيطان، فناسب هذا قولهم: {بل نتبع ما ألفينا عليه}؛ لأن ما ألفوا عليه آباءهم (وجدان) لا (علم) معه حاصلاً، ولا متوهماً، فناسب جوابهم ما عليه حالهم وما هم عليه.
ولما تقدم في سورة لقمان قوله سبحانه: {ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير}، فذكر (عِلْماً) وإن كان منفياً؛ ولأن جدالهم ينبئ أنهم توهموا أن ذلك (علم)، وأنهم على شيء، فقد حصل من مجادلتهم، أنهم يظنون أنهم على (علم)، كما قال تعالى: {ويحسبون أنهم على شيء} (المجادلة:18)، ولا يجادل إلا متعلق بشبهة (علم)، فناسبه قوله تعالى مخبراً عنهم: {ما وجدنا عليه آباءنا}؛ لاشتراك لفظ (وجد)؛ إذ يكون بمعنى (العلم).
وظاهرٌ أن هذا التوجيه اعتمد السياق أساساً لبيان الفرق، وهو وإن كان متجهاً في بيان الفرق بين آيتي البقرة ولقمان، فإنه غير متجه في بيان الفرق بين آيتي البقرة والمائدة؛ لأن آية المائدة لم يتقدمها حديث عن (العلم)، كما تقدم آية لقمان، ومن هنا وجدنا من تعرض للفرق بين هذه الألفاظ، قد سكت عن بيان الفرق بين آيتي البقرة والمائدة.
أما فيما يتعلق بـ الموضع الثاني من الاختلاف، فقد قالوا: إن لقوله: {يعلمون} رتبة ليست لقوله: {يعقلون}؛ وذلك أن قول القائل: يعلم، معناه: يدرك الشيء على ما هو به، مع سكون إليه، بينما قوله: يعقل، معناه: يحصره بإدراك له عما لا يدركه؛ ولذلك جاز أن تقول: يعلم الله كذا، ولا يجوز لك أن تقول: يعقل الله كذا؛ لأن العقل: الشدُّ، والعاقل: الذي يحبس نفسه عما تدعو إليه الشهوات، ولا شهوة لله تعالى، فيُحبس عنها؛ فلذلك لا يقال لله: عاقل، ويقال: عقل فلان الشيء، وهو يعقله بمعنى: حصره بإدراكه له عما لا يدركه، وشده بتمييزه عن غيره مما لا يدركه، وهذا لا يصح في حق الله تعالى.
فإذا كانت رتبة (العلم) زائدة على رتبة (العقل)، فقد أخبر سبحانه عن الكفار في آية المائدة، فقال: {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا ولا يهتدون}، فبين أنهم ادعوا رتبة العلم بصحة ما كان آباؤهم عليه؛ لأنهم قالوا: {حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا}، ولفظ {حسبنا} تستعمل فيما كان يكفي في بابه، ويغني عن غيره، فالمدرك للشيء إذا أدركه على ما هو به، وسكنت نفسه إليه، فذاك حسبه، فكأنهم قالوا: معنا علم سكنت نفوسنا إليه مما وجدنا عليه آباءنا من الدين، فنفى ما ادعوه بعينه، وهو (العلم).
وآية البقرة لم تحكِ عنهم أنهم ادعوا تناهيهم في معرفة ما اتبعوا عليه آباءهم، بل كان قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون}، ولم يدعو أن ما ألْفَوْا عليه آباءهم كان كافيهم وحسبهم، فاكتفى بنفي أدنى منازل العلم؛ لتكون كل دعوى مقابَلة بما هو بإزائها مما يبطلها.
هذا حاصل ما ذكره مَن بحث في الفروق بين الآيات المتشابهة في القرآن الكريم، ولم نر من المفسرين من تعرض لبيان وجه الفروق بين هذه الآيات.