أوجه الغرابة في كارثة جدة!!!...
نعم الرجل.... خالد الفيصل, نعم الرجل الفطن الذي لا تخدعه كلمات الثناء والإطراء وطال عمرك, ولا يخدعه المتملقون, في منطقةٍ تُرَقِّصْ الجمل "جدة", لأول مرة في حياتي أرى إغاثة فعلية, ومعونات حقيقية, توزع أمام العين على أرض الواقع, وإلى الآن أجدها بريئة من أصحاب المصالح الذاتية, لأن وراءها خالد الفيصل!!.... وليعذرني ابن الفيصل إذ لم أخاطبه بألقابه, فهو أكبر من الألقاب... وفقه الله وسدد خطاه.
الأنواء:
كان العرب يعرفون أزمنة القطر, ويسمون المنازل الممطرة أنواءً, يزعمون أن النجوم تنوء بحملها من الماء فيكون المطر وليد الإجهاد, واصل النوء ثقل الحمل على حامله, فينهض مجهداً مثقلاً, ويقال النوء الميلان إلى شق, لأن الرجل في الغالب يحمل الحمل على عاتقه, فإذا أثقله مال إلى حيث الحمل, فذلك النوء, لذلك يزعم العرب في الجاهلية أن المطر يكون مع ميل النجم إلى الغروب, ولا صحة لذلك, فقد يكون المطر في أول المنزلة وفي وسطها, وقد يكون كذلك في آخرها, وكانت العرب تسمي المنازل الطالعة البوارح, والساقطة إلى الغرب الأنواء, والمراد بالطوالع الطالعة في الأفق الشرقي فجراً, ومنازل القمر ثمانٍ وعشرين منزلة, أولها النطح, وآخرها الحوت, تتابع في الطلوع من المشرق, تطلع الأولى من المشرق فجراً, ثم تظل تسير نحو المغرب ثلاثة عشر ليلة, فإذا كان فجر الليلة الثالثة عشر سقطت في الأفق الغربي, ولا تسقط إلا والمنزلة التي تليها طالعة من المشرق, وكان العرب إذا مطروا قالوا مطرنا بنوء كذا, فينسبون حصول الغيث إلى غير تقدير الله ومشيئته, وكأنهم يقولون لو لم يجهد النجم الفلاني بحمله فيتناثر الماء عنه, لما كان المطر, فلما جاء الإسلام نهاهم عن ذلك, ففي حديث – أصبح من أمتي مؤمن بي وكافر بي – الذي رواه زيد بن خالد الجهني «وأما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي ومؤمن بالكواكب», من هنا تتضح علة النهي, حيث النهي عن نسبة الظواهر الكونية إلى غير تقدير الله ومشيئته, كمن يدعي أن الأحياء خلقت بفعل الطبيعة, منتهى الخرق, أما معرفة أزمنة القطر وتقدير أن قد يكون فيها المطر, والنظر إلى مخايل السماء وترجيح أن يكون منها مطر, فغير داخل في النهي, لأنه لا ينسب الفعل إلى غير فاعله, وهو مجرد ظن وتخمين, قال تعالى: «إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام» الآية... لقمان, وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: إذا بدأت يمانية ثم تشآءمت فهي غديقة.
وعلى هذا المنحى فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم النهي عن قول مطرنا بنوء كذا, ففي خبر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استسقى بالناس, فلما فرغ من الصلاة نادى العباس بن عبدالمطلب رضي الله عنه يسأله: «كم بقي من نوء الثريا؟, فرد العباس إن العلماء بها يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعاً بعد وقوعها, "أي بعد استيفاء الثلاثة عشر يوماً"», ويقال أنهم مطروا في مدة تقدير العباس رضي الله عنه, ولم ينكر أحد لا على عمر ولا على العباس خوضهما في تقدير الزمن الذي في الغالب الأعم يكون فيه نزول القطر, مع الإقرار انه قد يكون وقد لا يكون, بمقتضى المشيئة الإلهية, ولا نزال في تهامة نعد الثريا أو النجم من المنازل الممطرة "صيفاً", ومدتها من 29مارس إلى 10 إبريل من كل سنة.
وكما قدر الأقدمون مواسم القطر, فإن لأهل تهامة المعاصرين حساباتهم وتسمية المنازل الممطرة من كل فصل من فصول السنة, وهو تقدير وحساب المنازل الممطرة بحكم ما يكون في الغالب, وليس هو أمر حتمي الحدوث, لأن مرد كل ذلك إلى الله, ولا يعني أنه لا يكون مطر في المنازل الأخرى, إنما في الغالب يكون المطر في المنازل التي سوف أسميها من كل فصل, والذي يرى هذا القحط الشديد الذي تمر به جزيرة العرب, يعلم أن تدوين هذه المعرفة عن المنازل لا تقدم ولا تؤخر, إنما هي من قبيل العلم بالشيء خير من الجهل به, وأقول والله المستعان.
وادي بيش أكبر أودية جزيرة العرب وأكثرها سيولاً، وأنا ابن ذلك الوادي، ووالدي رحمه الله كان من كبار المزارعين، وأكثرهم معرفة بمواسم القطر ومواعيد البذار، وكثير من الزراع يأتون يسألونه متى يزرعون ومتى يحصدون، ولمن يرتاب في قولي أن يسأل كبار السن في محافظة بيش عن علي أبو علة رحمه الله.
جعلت هذه المقدمة الموجزة لأقول للقارئ أن لدي معرفة بالأنواء ومخيلات السماء، فيما يخص تهامة على وجه الخصوص، لأني أريد أن أبين بعض الأمور الغريبة في كارثة يوم الثامن من ذي الحجة على مدينة جدة.
لقد كان والدي يرحمه الله يأمرني وأنا في ربان الحداثة أن أنظر إلى السماء وآتيه بالخبر، إن كانت تخيلت السماء بالمطر، يكون هو داخل الدار، فأخرج وأنظر إلى الأفق، وأعود إليه بالخبر، وأين أتوقع أن يكون المطر الذي رأيت، وقد اكتسبت خبرة من أخطائي، ثم إني تعلمت منه أسماء منازل القمر والممطر منها وغير الممطر، وماذا يزرع في كل موسم، والحمد لله أني دونت كل ذلك.
لذلك أقول للقارئ العزيز إن فصول السنة في تهامة لا تأتي في نفس أزمانها في نجد وبادية الشام وجميع أقطار العالم العربي، لأنهم يحسبون على ربيع العراق، وتهامة يحسبون على ربيع تهامة، ولأن تهامة تختلط فيها فصول السنة، ولا تتمايز شأن نجد، لذلك فالربيع عندهم، هو الشتاء في عموم أقطار العالم العربي، ولن أطيل في هذا الموضوع، لأن كتابي لا يزال مسودة، ونحن الآن في تهامة في آخر أيام فصل الشتاء، ويأتي بعده فصل الربيع، الذي يمتد من أول يوم في شهر ديسمبر، إلى نهاية اليوم الأول من شهر مارس، أما فصل الشتاء الذي مطرنا في آخر أيامه، فيبدأ من أول أيام سبتمبر، إلى آخر أيام نوفمبر، وفي هذا الفصل ثلاث منازل ممطرة، أي أنها موسم مطر بإذن الله، تبدأ من اليوم العاشر من أكتوبر، إلى نهاية اليوم السابع عشر من نوفمبر، وهذا يعني أن مطر جدة جاء بعد خروج الموسم بثمانية أيام، وتقدم الموسم الذي يليه ((الربيع)) بثمانية عشر يوماً، لأن موسم الربيع يبدأ، من الرابع عشر من ديسمبر، وينتهي بنهاية يوم 21 يناير، ويعرف مطر الشتاء في تهامة, الذي قلت إنه يبدأ بالعاشر من أكتوبر، وينتهي بالسابع عشر من نوفمبر بالوسمى، وكما تختلف أزمنة الفصول في تهامة عن العالم العربي، تختلف أزمنة منازل القمر، عن أزمنتها لدى الفلكيين، فنحن في تهامة نتقدم الفلكيين، بأربع منازل وثلث المنزلة، ومطر كل موسم يختلف عن الموسم الآخر، فمطر جدة الذي مطرنا به بالأمس، أشبه مطر الموسم الذي للتو انسلخ ((مطر الشتاء)) في أوجه، وخالفه في صفات تشبه مطر الموسم القادم الذي يليه ((الربيع)، فمطر الشتاء يكون متفرقاً وغير غزير ومصحوباً برعد وبرق وصواعق ورياح، تظهر فيه السحب بادئ ذي بدء من الجنوب الغربي ويتحرك شمالاً، وقد وافق مطر الشتاء في وجود الرياح والرعد والبرق والصواعق ولكنه خالفه أنه لم يكن متفرقاً ولا خفيفاً، كما خالف في منطقة ظهور البرق، فقد بدأ البرق غرب جدة مباشرة، وهذه المنطقة يظهر فيها موسم الربيع القادم بعد أيام، ونسميها منطقة الخرماء، ومن أمثالنا في بيش – إذا برق من الخرماء سَرِّحْ العجوز الثرماء – أي لا تخش عليها العطش، والثرماء هي التي سقطت ثنيتاها ورباعيتاها, لأن مطر ذلك البرق لا يتخلف، شريطة أن يكون البرق قادماً من البحر، يتتابع ويصعد إلى وسط السماء، أما إذا كان لسحائب أمطرت الجبال ثم عادت إلى البحر بحكم رياح البحر والجبل، فلا يأتي له مطر، ومواسم القطر في جزيرة تحدثها أربعة منخفضات جوية، أولها منخفض الهند ويبدأ من جنوب الجزيرة ويتجه شمالاً من 3 مارس إلى 10 أبريل.
موسم الخريف من 24 يوليه إلى آخر أيام أغسطس، يبدأ بمنخفض الهند ثم يكمله منخفض الهضبة الحبشية وجنوب السودان.
موسم الشتاء ((الذي جاء فيه هذا المطر))، من 10 أكتوبر إلى نهاية 17 نوفمبر في الغالب يكون بمنخفض الحبشة وجنوب السودان.
موسم فصل الربيع من 14 ديسمبر إلى نهاية يوم 21 يناير، بتأثير منخفض السودان، يخلو من الرعود والعواصف والصواعق، وقد يتحرك في آخر هذا الموسم أو بعده مباشرة منخفض البحر المتوسط، ومطره في الغالب يصيب شمال الجزيرة العربية، وأجزاء من نجد والحجاز، وفي النادر يصيب جيزان وعسير وأطراف اليمن.
لقد ذكرت أننا في تهامة نحسب على ربيع تهامة لا على ربيع العراق، فصيف تهامة ربيع ما سواها، وخريفها صيف شمال الجزيرة العربية، وهكذا...
أما كيف كان مطر جدة، فإني بعد الخروج من صلاة الفجر، أخذت أمشي لتنشيط جسمي، وبعد أن قطعت أربعمائة متر، أو خمسمائة متر، رأيت صديقاً لي يقف على قارعة الطريق، فانحرفت لأسلم عليه، وشاهدت البرق من جهة الغرب بميل إلى شمال جدة، فقلت لصاحبي هذا البرق لا يتخلف مطره، إذا تتابع برقه، وقررت أن أعود إلى البيت، ولم يتتابع البرق، ولم أسمع رعداً، فقدرت أن لا يكون مطر ذلك اليوم، وقد يكون في المساء، ودخلت إحدى الغرف لأخذ سنة من النوم، وبعد التاسعة أيقظني صوت المطر، وفي العاشرة أخذت تداهمنا سيول لا نعرف مصدرها، في وقت لا يمكن أن تكون لذلك المطر سيول بعد، وفي شمال غرب جدة، بدأ هطول المطر في الثامنة, وهذا أمر طبيعي حسب حركة الرياح, فأنا أسكن جنوب شرق جدة, حيث المنطقة المنكوبة، ولكن الأمر الذي يحار فيه العاقل، أن تأتي سيول منقولة قبل أن تتحرك السحب إلى الأودية، هل تسيل الأودية دون مطر، لو كان ذلك السيل حسب قاموس الطبيعة، لجاءنا في الخامسة أو السادسة مساء، لقد جاءتنا أمطار أغزر من هذه المطرة، ومنها ما كان ديمة استمرت ثمانية أيام بلياليها، ولم تجاوز السيول مجاريها.
وحين خرجت مع أبنائي ندفع السيل عن بيتنا بالفرش القطنية والبسط والبطانيات وكل ما تقع أيدينا عليه، نجعله سداً دون الباب، في ذلك الوقت شممت للسيل رائحة مياه المجاري، ولم أبالِ، وقلت لعله اختلط بمراحيض ودبول الحي، والغريب أننا كنا نقاوم السيل في عدم وجود أي قطرة مطر، وهذا يدل على أن المطر كان غير غزير، وأن للسيول أمراً آخر، وبعد أن يأسنا دخلنا الدار وفوضنا أمرنا لله، وعادت السماء تلث لثاً يسيراً، لقد كانت السيول أغزر وأكثر وأسرع من مطر السماء.
والذي أعجب له تكهنات الأرصاد الجوية، فقد أرسلت رسائل على جوالات الناس، وأعلنت في الإم بي سي "mbc"، أن ستكون في ثاني يوم للكارثة أمطار, وستكون سيول في نفس الأودية وستتضرر نفس المناطق!!، ومثل هذا لا يمكن معرفته بالعلم، إلا أن يكون ما حدث بفعل فاعل، وسيتم تكراره، وفي عين المكان!!!, لتسير السيول في نفس الاتجاه, لأن المطر تتحكم فيه حركة الرياح وليست الأرصاد, إذ لم تؤت الأرصاد ما أوتي نبي الله سليمان بن داود الذي سخر الله له الريح، أسأل أن يبدأ التحقيق بالأرصاد وخبرها هذا!!, لأنه يحوي قدراً من الإرابة!.
أما أنا فلا زلت أرجح أن هذه السيول مياه سد إنْفَجَر أو فُجِر على هذه الأمة المنكوبة ، فحسبنا الله ونعم الوكيل.
هادي بن علي بن أحمد أبوعامرية..