بسم الله الرحمن الرحيم
تفسير القرآن
كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون
جمل معترضات بين الجملتين المتعاطفتين ، ومضمون الجملة الأولى مؤكد لمضمون الجملة المعطوف عليها ، وهي وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ; ووجه إعادتها اختلاف القصد ، فإن الأولى للرد على المشركين وهذه لتعليم المؤمنين . واستعير الذوق لمطلق الإحساس الباطني ؛ لأن الذوق إحساس باللسان يقارنه ازدراد إلى بالباطن .
[ ص: 64 ] وذوق الموت ذوق آلام مقدماته ، وأما بعد حصوله فلا إحساس للجسد .
والمراد بالنفس : النفوس الحالة في الأجساد كالإنسان والحيوان . ولا يدخل فيه الملائكة ؛ لأن إطلاق النفوس عليهم غير متعارف في العربية ، بل هو اصطلاح الحكماء وهو لا يطلق عندهم إلا مقيدا بوصف المجردات ، أي التي لا تحل في الأجساد ولا تلابس المادة . وأما إطلاق النفس على الله تعالى فمشاكلة : إما لفظية كما في قوله تعالى : تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك في سورة المائدة ، وإما تقديرية كما في قوله تعالى : ويحذركم الله نفسه في آل عمران ، وجملة ونبلوكم بالشر والخير فتنة عطف على الجملة المعترضة بمناسبة أن ذوق الموت يقتضي سبق الحياة ، والحياة مدة يعتري فيها الخير والشر جميع الأحياء ، فعلم الله تعالى المسلمين أن الموت مكتوب على كل نفس حتى لا يحسبوا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مخلد ، وقد عرض لبعض المسلمين عارض من ذلك ، ومنهم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقد قال يوم انتقال النبيء - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى : ليرجعن رسول الله فيقطع أيدي قوم وأرجلهم ، حتى حضر أبو بكر - رضي الله عنه - وثبته الله في ذلك الهول ، فكشف عن وجه النبيء - صلى الله عليه وسلم - وقبله وقال : طبت حيا وميتا ، والله لا يجمع الله عليك موتتين .
وقد قال عبد بني الحسحاس وأجاد :
رأيت المنايا لم يدعن محمدا ولا باقيا إلا له الموت مرصدا
وأعقب الله ذلك بتعليمهم أن الحياة مشتملة على خير وشر ، وأن الدنيا دار ابتلاء .
[ ص: 65 ] والبلوى : الاختبار . وتقدم غير مرة . وإطلاق البلوى على ما يبدو من الناس من تجلد ووهن وشكر وكفر ، على ما ينالهم من اللذات والآلام مما بنى الله تعالى عليه نظام الحياة ، إطلاق مجازي ؛ لأن ابتناء النظام عليه دل على اختلاف أحوال الناس في تصرفهم فيه وتلقيهم إياه . أشبه اختبار المختبر ليعلم أحوال من يختبرهم . و " فتنة " منصوب على المفعولية المطلقة توكيدا لفعل " نبلوكم " ؛ لأن الفتنة ترادف البلوى ، وجملة " وإلينا ترجعون " إثبات للبعث ، فجمعت الآية الموت والحياة والنشر ، وتقديم المجرور للرعاية على الفاصلة وإفادة تقوي الخبر . وأما احتمال القصر فلا يقوم هنا ؛ إذ ليس ضد ذلك باعتقاد للمخاطبين كيفما افترضتهم
وتفسير ابن كثير
( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون ( 34 ) كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون ( 35 ) ) .
يقول تعالى : ( وما جعلنا لبشر من قبلك ) أي : يا محمد ، ( الخلد ) أي : في الدنيا بل ( كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام ) [ الرحمن : 26 ، 27 ] .
وقد استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب من العلماء إلى أن الخضر ، عليه السلام ، مات وليس بحي إلى الآن; لأنه بشر ، سواء كان وليا أو نبيا أو رسولا وقد قال تعالى : ( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد ) . [ ص: 342 ] وقوله : ( أفإن مت ) أي : يا محمد ، ( فهم الخالدون ) ؟! أي : يؤملون أن يعيشوا بعدك ، لا يكون هذا ، بل كل إلى فناء; ولهذا قال : ( كل نفس ذائقة الموت ) ، وقد روي عن الشافعي ، رحمه الله ، أنه أنشد واستشهد بهذين البيتين :
تمنى رجال أن أموت وإن أمت فتلك سبيل لست فيها بأوحد فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى
: تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
وقوله : ( ونبلوكم بالشر والخير فتنة ) أي : نختبركم بالمصائب تارة ، وبالنعم أخرى ، لننظر من يشكر ومن يكفر ، ومن يصبر ومن يقنط ، كما قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : ( ونبلوكم ) ، يقول : نبتليكم بالشر والخير فتنة ، بالشدة والرخاء ، والصحة والسقم ، والغنى والفقر ، والحلال والحرام ، والطاعة والمعصية والهدى والضلال . .
وقوله : ( وإلينا ترجعون ) أي : فنجازيكم بأعمالكم .