السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحكمـة ضالـة المؤمن { أعقل الناس أعذرهم للناس}
للكاتب : د.وليد خالد الربيع
هذه كلمة حكيمة، ودرة نفيسة، من درر الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، تدل على
فهم عميق للنفس الإنسانية، ومنهج سديد في التربية العملية، للرقي بالمسلم من حضيض
الانتقام والتشفي، إلى سمو الصفح والعفو، ليحيا في سلام مع نفسه والآخرين، فيسلم
من آفات الغضب والرغبة في الثأر التي تعود عليه بالضرر في بدنه ودينه ودنياه وربما آخرته.
فاللوم والنقد والمقارنة هي القتلة الثلاثة - كما سماها د. إبراهيم الفقي رحمه الله - لما فيها
من أثر ضار - كسم الثعبان- يسري في داخل الإنسان وينعكس على تصرفاته، وتسلب منه
سعادته وراحة باله واتزانه، وبالتالي تبعده عن أهدافه الحقيقية في تحصيل
سعادة الدنيا والآخرة بطاعة الله والتزام دينه.
فبعض الناس يعيش في دائرة اللوم؛ فكثيرا ما يلوم الآخرين على
ما يفعلون، ويعذلهم على ما يقولون، ولا ينفك من توجيه توبيخ
أو تعنيف أو تقريع ، فالناس منه في شقاء، ونفسه منه في ضيق وكرب.
فقول عمر رضي الله عنه عين الصواب؛ لأن العاقل حين يعذر الناس
يتخلص من اللوم والنقد فيحيا في سلام وهدوء، فهو يضع نفسه مكان
الآخرين، فيلتمس لهم الأعذار والتبريرات، ولا يحملهم على الكذب
لتبرير أفعالهم وأقوالهم فيسلم من تسلط الشك والريب، ويحيا معافى في بدنه وعقله.
والشرع المطهر يقرر هذا الخلق، ويؤكد هذا السلوك في النصوص
الشرعية، فمن ذلك قوله تعالى: {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم}،
قال ابن كثير:
«فَإِنَّ الْجَزَاء مِنْ جنس الْعَمَل فَكَمَا تَغفِر ذنب مَنْ أَذنَبَ إِلَيك يَغفِر اللَّه لَك، وَكَمَا تَصْفَح يُصْفَح عَنْك».
وقال الشيخ ابن سعدي: «واعف عما صدر منهم لله، فإن من عفا عن عباد الله
عفا الله عنه، ومن سامحهم سامحه الله، ومن تفضل عليهم تفضل الله عليه، والجزاء من جنس العمل».
وقال تعالى: {وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم}، قال الطبري:
«يَقُول: إِنْ تَعْفُوا أَيّهَا الْمُؤْمِنُونَ عَمَّا سَلَفَ مِنْهُمْ مِنْ صَدّهمْ إِيَّاكُمْ عَنْ الْإِسْلَام
وَالْهِجْرَة وَتَصْفَحُوا لَهُمْ عَنْ عُقُوبَتكُمْ إِيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ, وَتَغْفِرُوا لَهُمْ غَيْر ذَلِكَ مِنْ الذُّنُوب
{فَإِنَّ اللَّه غَفُور رَحِيم} لَكُمْ لِمَنْ تَابَ مِنْ عِبَاده, مِنْ ذُنُوبكُمْ {رَحِيم} بِكُمْ أَنْ يُعَاقِبكُمْ عَلَيْهَا مِنْ بَعْد تَوْبَتكُمْ مِنْهَا».
وقال تعالى: {فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين}،
قال ابن كثير: «وَهَذَا هُوَ عَيْن النَّصْر وَالظَّفر، كَمَا قَالَ بَعْض السَّلَف: مَا عَامَلت
مَنْ عَصَى اللَّهَ فِيك بمِثْلِ أَنْ تُطِيع اللَّهَ فِيهِ، وَبِهَذَا يَحْصُلُ لَهُمْ تَأْلِيفٌ وَجَمْعٌ عَلَى الْحَقِّ،
وَلَعَلَّ اللَّهَ يَهْدِيهِم وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّه يُحِبّ الْمُحْسِنِينَ}، يَعنِي بِهِ الصَّفح عَمَّنْ أَسَاءَ إِلَيْك».
وانظر إلى صفح يوسف عليه السلام عن إخوته بعد أن فعلوا به ما ذكره الله تعالى
من المعاناة والأذى ثم لما تمكن وقدر قال لهم:
{لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}، قال ابن كثير:
أَيْ لَا تَأْنِيب عَلَيْكُمْ وَلا عَتْبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْم وَلا أُعِيد عَلَيْكُمْ ذَنبكُمْ فِي حَقِّي بَعْد الْيَوْم،
ثُمَّ زَادَهُمْ الدُّعَاء لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ فَقَالَ: {يَغْفِر اللَّه لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَم الرَّاحِمِينَ}.
وتأمل صفح رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة بعد أن تمكن منهم
بعد الفتح فقال لهم: «ما تقولون وما تظنون؟» قالوا: نقول: ابن أخ، وابن عم،
حليم، رحيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقول كما قال يوسف:
{لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين}،قال أبو هريرة: فخرجوا كأنما نشروا من القبور، فدخلوا في الإسلام .
وهذا ليس بمستغرب من خلقه وهديه صلى الله عليه وسلم، فقد سئلت عائشة
رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «لم يكن فاحشا،
ولا متفحشا، ولا صخابا في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح»
أخرجه الترمذي وهو صحيح.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود»
أخرجه أبو داودوصححه الألباني، قال شراح الحديث: «المراد بذوي الهيئات:
أصحاب المروءات والخصال الحميدة، وقيل: ذوو الوجوه من الناس، ومعنى أقيلوا:
أي: اعفوا، والعثرات: الزلات، والحديث يندب إلى التجافي عن الزلات وعدم المؤاخذة
بالصغائر وما يندر من الخطايا ممن كان حاله الاستقامة وظاهره الصلاح إلا
ما يستوجب العقوبة المقدرة شرعا وهي الحدود فلا تساهل فيها.
وفي الأثر قال جعفر بن محمد: إذا بلغك عن أخيك الشيء تـنكره ؛ فالتمس
له عذراً واحداً إلى سبعين عذراً، فإن أصبته وإلا قل: لعل له عذراً لا أعرفه.
وقال حمدون القصار: إذا زل أخٌ من إخوانكم فاطلبوا له سبعين عذراً ، فإن لم
تقبله قلوبكم فاعلموا أن المعيب أنفسكم؛ حيث ظهر لمسلم سبعون عذراً فلم تقبله.
وقال دِعبل الخُزاعي:
تأنَّ ولا تعجَل بلَومِكَ صاحِبا
لعلَّ له عُذراً وأنتَ تلومُ
والاعتذار كما قال ابن فارس: العذر معروف، وهو طلب الإنسان إصلاح ما أنكر
عليه بكلام، وقال الأصفهاني: العذر تحري الإنسان ما يمحو به ذنوبه».
وهو أمر محمود كما قال أبو حاتم البستي: الاعتذار يذهب الهموم، ويجلي الأحزان،
ويدفع الحقد، ويذهب الصد، والإقلال منه تستغرق فيه الجنايات العظيمة، والذنوب
الكثيرة، والإكثار منه يؤدي إلى الاتهام وسوء الرأي، فلو لم يكن في اعتذار المرء
إلى أخيه خصلة تحمد إلا نفي التعجب عن النفس في الحال لكان الواجب على العاقل ألا يفارقه الاعتذار عند كل زلة.
ولهذا فإن الواجب على العاقل - كما يقول أبو حاتم البستي - إذا اعتذر أخوه إليه لجرم
مضى، أو لتقصير سبق، أن يقبل عذره، ويجعله كمن لم يذنب؛ لأن من تنصل إليه فلم يقبل أخاف ألا يرد
الحوض على المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ومن فرط منه تقصير في سبب من
الأسباب يجب عليه الاعتذار في تقصيره إلى أخيه.
وقال أيضاً: لا يخلو المعتذر في اعتذاره من أحد رجلين: إما أن يكون صادقا في
اعتذاره، أو كاذبا؛ فإن كان صادقا فقد استحق العفو؛ لأن شر الناس من لم يقل العثرات،
ولا يستر الزلات، وإن كان كاذبا فالواجب على المرء إذا علم من المعتذر إثم الكذب وريبته
وخضوع الاعتذار وذلته ألا يعاقبه على الذنب السالف، بل يشكر له الإحسان المحدث الذي جاء به في اعتذاره.
فحق المسلم العاقل أن يعيش في سلام مع نفسه ومع الآخرين، فيسامح نفسه
ويحيا في صفاء وهدوء، ويعفو عن زلات الناس، ويقبل أعذارهم،ويتغاضى عن
عثراتهم، فيكون عفوا، صفوحا، واسع الحلم، رحب الصدر، يحب الناس قربه ،
ويأنسون به، ويكون حقا مثالا حيا للمسلم الصالح،