قال ابن قدامه _ رحمه الله _ :
اعلم أن الخوف عبارة عن تألم القلب واحتراقه بسبب توقع مكروه في المستقبل .
الخشية أخص من الخوف .. فإن الخشية للعلماء بالله ، قال تعالى : " إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ "
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إني أتقاكم لله وأشدكم له خشية "
فالخوف لعامة المؤمنين .. والخشية للعلماء العارفين ..
وعلى قدر العلم والمعرفة يكون الخوف والخشية .
فصاحب الخوف يلتجئ إلى الهرب .. وصاحب الخشية يلتجئ إلى الاعتصام بالعلم .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" الخشية خوف مبني على العلم بعظمة من يُخشى وكمال سلطانه ..
فإذا خفت من شخص لا تدري هل هو يقدر عليك أم لا ، فهذا خوف .
وإذا خفت من شخص تعلم أنه قادر عليك فهذه خشية .... "
ورد الخوف في القرآن على وجوه ؛ منها :
1 / القتل والهزيمة
" وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف "
" ولنبلونكم بشيء من الخوف "
2 / الحرب والقتال
" فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد " أي إذا انجلت الحرب
" فإذا جاء الخوف رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالذي يغشى عليه من الموت "
3 / العلم والدراية
" فمن خاف من موص جنفا أو إثما " أي علم
" إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله " أي علما
" وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى " أي علمتم
4 / النّقْص
" أو يأخذهم على تخوف "
5 / الرعب والخشية من العقوبة
" يدعون ربهم خوفا "
قال ابن قدامه رحمه الله :
اعلم بأن الخوف سوط الله يسوق به عباده إلى المواظبة على العلم والعمل ؛ لينالوا بهما رتبة القُرْب من الله عز وجل ،
والخوف سراج القلب ؛ به يبصر ما فيه من الخير والشر .
ما فارق الخوفُ قلبا إلا خربَ ،
فإذا سكن الخوفُ القلوبَ أحرق مواضع الشهوات فيها ، وطرد الدنيا عنها .
الخوف ليس مقصودا لذاته ، ليس المقصود أن نخاف لأجل أن نخاف ،
بل نخاف ليكون الخوف وسيلة تصلح أحوالنا .
من خاف اليوم أمِنَ غدا .. ومن أمِن اليوم خاف غدا !
الخوف المطلوب :
هو الذي يحمل على فعل المستحبات ، وفعل الواجبات قبلها ،
وعلى ترك الشبهات والمكروهات ، وترك المحرمات قبلها .
كلما كان العبد أقرب إلى ربه ؛ كان أشد له خشية ممن دونه .
۰۰
حكم الخوف من الله تعالى واجب ..
وهو من أجلِّ منازل الطريق وأنفعها للقلب .. وهو فرض على كل أحد كما قال ابن القيم رحمه الله .
قال السعدي رحمه الله في تفسير قوله تعالى " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " :
وفي هذه الآية وجوب الخوف من الله وحده ، وأنه من لوازم الإيمان ،
فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله .
۰۰۰
" فلا تخشوا الناس واخشون "
قال السعدي في تفسير هذه الآية :
أمر الله تعالى بخشيته التي هي رأس كل خير ،
فمن لم يخشَ الله لم ينكفّ عن معصيته ، ولم يمتثل أمره .
۰۰۰
التخويف من عذاب الله أحد مهمات الرسل : " وما نرسل المرسلين إلا مبشرين ومنذرين " .
۰۰۰
جعل الله تعالى الخوف شرطا لحصول الإيمان ، فقال سبحانه : " فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " .
إذا وجد الإنسان أمامه معصية متيسرة ، لا يحتاج إلى تعب فيها فعليه أن يتذكر قوله سبحانه :
" يا أيها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله أيديكم ورماحكم ليعلم الله من يخافه بالغيب فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم " .
۰۰۰
في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة : " ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله "
في قوله : " إني أخاف الله " ظاهر الحديث أنه يقولها بلسانه
ليزجر المرأة عن فعلها ..
وليذكر نفسه ويصرّ على موقفه .. ولا يتراجع بعد إعلان المبادئ .
قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
" ومن ثمرات الخوف أنه يقمع الشهوات ويكدِّر اللذات ، فتصير المعاصي المحبوبة عنده مكدرة
كما يصير العسل مكروها عند من يشتهيه إذا علم أن فيه سُمّا ، فتحترق الشهوات بالخوف ، وتتأدب الجوارح ، ويذل القلب ويستكين ... "
۰۰۰
قال ابن قدامة رحمه الله :
فضيلة كل شيء بقدر إعانته على طلب السعادة وهي لقاء الله تعالى والقرب منه ،
فكل ما أعان على ذلك فهو فضيلة ، وقد قال تعالى : " ولمن خاف مقام ربه جنتان " .
الخوف من الله تعالى على مقامين ، يقول ابن قدامة رحمه الله :
المقام الأول : الخوف من عذاب الله ، وهذا خوف عامة الناس ،
وهذا النوع من الخوف يحصل بالإيمان بالجنة والنار ، وكونهما جزاءين على الطاعة والمعصية .
وأما المقام الثاني : الخوف من الله نفسه عز وجل ، وهو خوف العلماء والعارفين ؛
لأنه يكفيهم فقط ثلاث كلمات : "
ويحذركم الله نفسه " .. وهذا يكفي ؛
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أنا أعرفهم بالله وأشدهم له خشية "
وقال الله تعالى : " إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ "
لأنه لما كملت معرفتهم بربه وأسمائه وصفاته أثرت الخوف ، ففاض الأثر على القلب ،
ثم ظهر على الجوارح بهذه الأعمال .
قال ابن القيم رحمه الله :
ليس شيء أنفع للعبد في معاشه ومعاده ، وأقرب إلى نجاته من تدبر القرآن وإطالة التأمل ،
وجمع الفكر على معاني آيات الكتاب العزيز ، فلا تزال معانيه تُنهض العبد إلى ربه بالوعد الجميل ،
وتحذره وتخوفه بوعيده من العذاب الوبيل ، وتحثه على التضمرّ والتخفف للقاء اليوم الثقيل .
قال أبو العتاهية :
ألا رُبّ ذي أجل قد حضر
كثير التمني قليل الحذر
إذا هز في المشي أعطافه
تعرفت من منكبيه البطر
يؤمِّل أكثر من عمره
ويزداد يوما بيوم أشر .
۰۰۰
من الأشياء الجالبة للخوف :
أن يعلم العبد أنه يمكن أن يحال بينه وبين التوبة بموت مفاجئ ؛
أو فتنة مضلة أو تسويف أو شبهات أو إصرار على معصية .
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه :
لو نادى منادٍ من السماء : يا أيها الناس ، إنكم داخلون الجنة كلكم إلا واحدا . لخفت أن أكون أنا هو !!
۰۰۰
وعمران بن حصين رضي الله عنه يقول :
يا ليتني كنت رمادا تذروه الرياح .
إن القريرة عينه عبد
خشي الإله وعيشه قصد
عبد قليل النوم مجتهدا
لله كل فعاله رشد
نزه عن الدنيا وباطلها
لا عرض يشغله ولا نقد
متذلل لله مرتقب
ما ليس من إتيانه بد
۰۰۰
الخوف قد تمنعه أشياء ؛ ومنها :
المعاصي ، والدنيا ، والرفقة السيئة ، والغفلة وتبلد الإحساس .
۰۰۰
المطلوب الخوف المستمر .. أما الخوف اللحظي فلا شيء .
۰۰۰
قال بعض السلف :
عجبت لهم كيف يحتمون من الطعام مخافة الداء ولا يحتمون من الذنوب مخافة النار !
۰۰۰
قال ابن تيمية :
كل عاص لله فهو جاهل ، وكل خائف منه فهو عالم مطيع .
قال ابن المبارك رحمه الله :
إذا ما الليل أظلم كابدوه
فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا
وأهل الأمن في الدنيا هجوع
لهم تحت الظلام وهم سجود
أنين منه تنفرج الضلوع
وخرس بالنهار لطول صمت
عليهم من سكينتهم خشوع .
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ..