02-08-2013, 06:32 AM | #11 |
|
رد: حيــــــــــــ ذى(عثمـــــان بن عفـــــان) النــورين ــــــــــــاة
فتوحات الجبهة المصــــــــــرية أولاً: ردع المتمردين في الإسكندرية: كبر على الروم خروج الإسكندرية من أيديهم، وظلوا يتحينون الفرص لإعادتها إلى حوزتهم، فراحوا يحرضون مَنْ بالإسكندرية مِنَ الروم على التمرد والخروج على سلطان المسلمين؛ ذلك لأن الروم كانوا يعتقدون أنهم لا يستطيعون الاستقرار في بلادهم بعد خروج الإسكندرية من ملكهم وصادف تحريض الروم لأهل الإسكندرية هوى في نفوس سكانها فاستجابوا للدعوة، وكتبوا إلى قسطنطين بن هرقل يخبرونه بقلة عدد المسلمين ويصفون له ما يعيش فيه الروم بالإسكندرية من الذل والهوان. وكان عثمان قد عزل عمرو بن العاص عن مصر، وولى مكانه عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وفي أثناء ذلك وصل منويل الخصى قائد قوات الروم إلى الإسكندرية لإعادتها وتخليصها من يد المسلمين، ومعه قوات هائلة يحملهم في ثلاثمائة مركب مشحونة بكل ما يلزم هذه القوات من السلاح والعتاد. علم أهل مصر بأن قوات الروم قد وصلت إلى الإسكندرية، فكتبوا إلى عثمان يلتمسون إعادة عمرو بن العاص ليواجه القوات الغازية فإنه أعرف بحربهم، وله هيبة في نفوسهم، فاستجاب الخليفة لطلب المصريين، وأبقى ابن العاص أميرا على مصر، ونهب منويل وجيشه الإسكندرية وغادروها بعد أن تركوها قاعا صفصفا, ليعيثوا فيما حولها من القرى ظلما وفسادا، وأمهلهم عمرو بن العاص ليمعنوا في الإفساد وليشعر المصريون بالفرق الهائل بين حكامهم من المسلمين وحكامهم من الروم، ولتمتلئ قلوب المصريين على الروم حقدا وغضبا فلا يكون لهم من حبهم والعطف عليهم أدنى حظ، وخرج منويل بجيشه من الإسكندرية يقصد مصر السفلى دون أن يخرج إليهم عمرو أو يقاومهم أحد، وتخوف بعض أصحابه, وعمرو كان له رأي آخر، فقد كان يرى أن يتركهم يقصدونه، ولا شك أنهم سينهبون أموال المصريين، وسيرتكبون من الحماقات في حقهم ما يملأ قلوبهم حقدا عليهم وغضبا منهم، فإذا نهض المسلمون لمواجهتهم عاونهم المصريون على التخلص منهم، وحدد عمرو سياسته هذه بقوله: «دعهم يسيروا إليَّ، فإنهم يصيبون من مروا به، فيخزي بعضهم ببعض». وقد صدق حدس عمرو، وأمعن الروم في إفسادهم ونهبهم وسلبهم، وضج المصريون من فعالهم، وأخذوا يتطلعون إلى من يخلصهم من شر هؤلاء الغزاة المفسدين وصل منويل إلى نقيوس، واستعد عمرو للقائه وعبأ جنده، وسار بهم نحو عدوه الشرس، وتقابل الجيشان عند حصن نقيوس على شاطئ نهر النيل، واستبسل الفريقان أيما استبسال، وصبر كل فريق صبرا أمام خصمه مما زاد الحرب ضراوة واشتعالا، ودفع بالقائد عمرو إلى أن يمعن في صفوف العدو، ويقدم فرسه بين فرسانهم، ويشهر سيفه بين سيوفهم، ويقطع به هامات الرجال وأعناق الأبطال، وأصاب فرسه سهم فقتله، فترجل عمرو وانضم إلى صفوف المشاة، ورآه المسلمون فأقبلوا على الحرب بقلوب كقلوب الأسود لا يهابون ولا يخافون قعقعة السيوف. وأمام ضربات المسلمين وهنت عزائم الروم وخارت قواهم، فانهزموا أمام الأبطال الذين يريدون إحدى الحسنيين، وقصد الروم في فرارهم الإسكندرية لعلهم يجدون في حصونهم المنيعة وأسوارها الشاهقة ما يواري عنهم شبح الموت الذي يلاحقهم وخرج المصريون بعد أن رأوا هزيمة الروم يصلحون للمسلمين ما أفسده العدو الهارب من الطرق، ويقيمون لهم ما دمره من الجسور، وأظهر المصريون فرحتهم بانتصار المسلمين على العدو الذي انتهك حرماتهم واعتدى على أموالهم وممتلكاتهم، وقدموا للمسلمين ما ينقصهم من السلاح والمؤونة ولما وصل عمرو الإسكندرية ضرب عليهم الحصار ونصب عليها المجانيق وظل يضرب أسوار الإسكندرية حتى أوهنها، وألح عليها بالضرب حتى ضعف أهلها وتصدعت أسوارها وفتحت المدينة الحصينة أبوابها، ودخل المسلمون الإسكندرية وأعملوا سيوفهم في الروم يقتلون المقاتلين، ويأسرون النساء والذرية، وهرب من نجا من الموت لاجئين إلى السفن ليفروا بها عائدين من حيث أتوا، وكان منويل في عداد القتلى، ولم يكف المسلمون عن القتل والسبي حتى أمر عمرو بذلك لما توسط المسلمون المدينة، ولما لم يكن هناك من يقاوم أو يتصدى لهم ولما فرغ المسلمون أمر عمرو ببناء مسجد في المكان الذي أوقف فيه القتال وسماه مسجد الرحمة. وعادت إلى العاصمة العتيدة طمأنينتها، وعادت السكينة إلى قلوب المصريين فيها، فرجع إليها من كان قد فر منها أمام الزحف الرومي الرهيب، وعاد بنيامين بطريرك القبط إلى الإسكندرية بعد أن فر مع الفارين، وأخذ يرجو عمرو ألا يسيء معاملة القبط لأنهم لم ينقضوا عهدهم ولم يتخلوا عن واجبهم، ورجاه كذلك ألا يعقد صلحا مع الروم، وأن يدفنه إذا مات في كنيسة يحنس. وجاء المصريون من كل حدب وصوب إلى عمرو يشكرونه على تخليصهم من ظلم الروم، ويطلبون منه إعادة ما نهبوا من أموالهم ودوابهم معلنين ولاءهم وطاعتهم، فقالوا: إن الروم قد أخذوا دوابنا وأموالنا ولم نخالف نحن عليكم وكنا على الطاعة، فطلب منهم عمرو أن يقيموا البينة على ما ادعوا، ومن أقام بينة وعرف من له بعينه رده عليه، وهدم عمرو سور الإسكندرية، وكان ذلك في سنة 25 هـ. وأصبحت الإسكندرية آمنة من جهاتها كلها رغم هدم سورها، فقد كان شرقيها في قبضة المسلمين وكذلك جنوبها، وأما غربيها فقد أمنه عمرو بن العاص بفتح برقة وزويلة وطرابلس الغرب، وصالح أهل هذه البلاد على الجزية فكانوا يدفعونها طائعين، وأما شمالها فكان في قبضة الروم، وقد تلقوا درسا على يد المسلمين لم يترك لهم فرصة للتفكير في العودة، وحتى لو فكروا في العودة فهيهات أن يدخلوها وليس لهم فيها نصير ولا معين، وقوات المسلمين تراقب البحر بكل يقظة واهتمام ثانيًا: فتح بلاد النوبة: كان عمرو بن العاص قد شرع في فتح بلاد النوبة بإذن من الخليفة عمر، فوجد حربا لم يتدرب عليها المسلمون وهي الرمي بالنبال في أعين المحاربين حتى فقدوا مائة وخمسين عينا في أول معركة، ولهذا قبل الجيش الصلح, ولكن عمرو بن العاص رفض للوصول إلى شروط أفضل، وعندما تولى ابن سعد ولاية مصر غزا النوبة في عام إحدى وثلاثين هجرية فقاتله الأساود من أهل النوبة قتالا شديدا، فأصيبت يومئذ عيون كثيرة من المسلمين، فقال شاعرهم: لم تر عين مثل يوم دُمقلة والخيل تعدو بالدروع مثقلة فسأل أهل النوبة عبد الله بن سعد المهادنة، فهادنهم هدنة بقيت إلى ستة قرون، وعقد لهم عقدا يضمن لهم استقلال بلادهم ويحقق للمسلمين الاطمئنان إلى حدودهم الجنوبية، ويفتح النوبة للتجارة والحصول على عدد من الرقيق في خدمة الدولة الإسلامية، وقد اختلط المسلمون بالنوبة والبجة، واعتنق كثير منهم الإسلام. ثالثـًا: فتح إفريقية: كان من مقاصد حملة عمرو بن العاص لبرقة وطرابلس وبقية مناطق ليبيا، فتح البلاد وإزالة الطاغوت الروماني عن قلوب العباد حتى تتضح لهم السبل وتفترق لهم الطرق، وتصبح حرية الاختيار في متناول تلك الشعوب، بعد تلك الحملة المباركة التي كانت سببا في دخول ذلك النور إلى تلك المناطق المظلمة بعبادة الأصنام والتقرب إليها بالقرابين، واتخاذ الأنداد والأرباب من البشر من دونه سبحانه وتعالى، وإخراجهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. وعن حملة عبد الله بن سعد على إفريقية يقول الدكتور صالح مصطفى: وفي سنة26 هـ/646م عُزِل عمرو بن العاص عن ولاية مصر، واستعمل عليها عبد الله بن سعد ، وكان عبد الله بن سعد يبعث جرائد الخيل كما كانوا يفعلون أيام عمرو بن العاص فيصيبون من أطراف إفريقية ويغنمون، وكانت جرائد الخيل تقصد إفريقية (تونس) تمهيدا لفتحها ومعرفة وضعها، فكان حال هذه الجرائد أشبه ما يكون بكتائب الاستطلاع التي تعتبر مقدمة الجيش وعيونه، فلما اجتمعت عند عبد الله بن سعد معلومات كافية عن إفريقية من ناحية مداخلها ومخارجها، وقوتها وعدادها، وموقعها الجغرافي الاستراتيجي كتب حينئذ إلى الخليفة الراشد عثمان بن عفان يخبره بهذه المعلومات الهامة عن إفريقية، يستأذن بناء على تلك المعلومات بفتحها، فكان له ما طلب. يقول الدكتور صالح مصطفى: ولما استأذن عبد الله بن سعد الخليفة عثمان بن عفان في غزو إفريقية، جمع الصحابة واستشارهم في ذلك، فأشاروا عليه بفتحها، إلا أبو الأعور سعيد بن زيد، الذي خالفه متمسكا برأي عمر بن الخطاب في ألا يغزو أفريقية أحد من المسلمين، ولما أجمع الصحابة على ذلك دعا عثمان للجهاد، واستعدت المدينة -عاصمة الخلافة الإسلامية- لجميع المتطوعين وتجهيزهم، وترحيلهم إلى مصر لغزو إفريفية تحت قيادة عبد الله بن سعد. وقد ظهر الاهتمام بأمر تلك الغزوة جليا، وهذا يتضح من الذين خرجوا إليها من كبار الصحابة، ومن خيار شباب آل البيت، وأبناء المهاجرين الأوائل وكذلك الأنصار؛ فقد خرج في تلك الغزوة الحسن والحسين، وابن عباس وابن جعفر وغيرهم. هذا وقد خرج من قبيلة مهرة وحدها في غزوة عبد الله بن سعد ستمائة رجل، ومن غنث سبعمائة رجل، ومن ميدعان سبعمائة رجل، وعندما بات الاستعداد تامًا خطب عثمان فيهم، ورغبهم في الجهاد، وقال لهم: لقد استعملت عليكم الحارث بن الحكم إلى أن تقدموا على عبد الله بن سعد فيكون الأمر إليه، وأستودعكم الله. ويقال: إن عثمان قد أعان في هذه الغزوة بألف بعير يحمل عليها ضعفاء الناس، وعندما وصل هذا الجيش إلى مصر انضم إلى جيش عبد الله بن سعد، وتقدم من الفسطاط تحت قيادة عبد الله ذلك الجيش الذي يقدر بعشرين ألفا يخترق الحدود المصرية الليبية، وعندما وصلوا إلى برقة انضم إليهم عقبة بن نافع الفهري ومن معه من المسلمين، ولم يواجه الجيش الإسلامي أية صعوبات أثناء سيرهم في برقة؛ وذلك لأنها ظلت وفية لما عاهدت المسلمين عليه من الشروط زمن عمرو بن العاص، حتى إنه لم يكن يدخلها جابي الخراج، وإنما كانت تبعث بخراجها إلى مصر في الوقت المناسب. ومما يؤكد بقاء برقة على عهدها لعمرو بن العاص، ما ذكر أنه سمع يقول: قعدت مقعدي هذا، وما لأحد من قبط مصر علي عهد إلا أهل أنطابلس، فإن لهم عهدًا يوفي لهم به، كما أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان يقول: ولولا مالي بالحجاز لنزلت برقة، فما أعلم منزلا أسلم ولا أعزل منها وهكذا انطلقت هذه الحملة المباركة نحو إفريقية, وكان ذلك بعد انضمام قوات عقبة بن نافع إليها، إلا أن عبد الله بن سعد قائد الحملة ما فتئ يرسل الطلائع والعيون في جميع الاتجاهات لاستكشاف الطرق وتأمينها ورصد تحركات العدو وضبطها؛ تحسبا لأي كمين أو مباغتة تطرأ على حين غفلة، فكان من نتائج تلك الطلائع الاستطلاعية أن تم رصد مجموعات من السفن الحربية تابعة للإمبراطورية الرومانية، حيث كانت هذه السفن الحربية قد رست في ساحل ليبيا البحري بالقرب من مدينة طرابلس، فما هي إلا برهة من الزمن حتى كان ما تحمله هذه السفن غنيمة للمسلمين، وقد أسروا أكثر من مائة من أصحابها، وتعتبر هذه أول غنيمة ذات قيمة أصابها المسلمون في طريقهم لفتح إفريقية وواصل عبد الله بن سعد السير إلى إفريقيا، وبث طلائعه وعيونه في كل ناحية، حتى وصل جيشه إلى مدينة سبيطلة بأمان، وهناك التقى الجمعان؛ جيش المسلمين بقيادة عبد الله ابن سعد وجيش جرجير حاكم إفريقية، وكان تعداد جيشه يبلغ حوالي مائة وعشرين ألفا، وكان بين القائدين اتصالات مستمرة ورسائل متبادلة، فَحْوَاها عرض الدعوة الإسلامية على جرجير ودعوته للدخول في الإسلام، ويستسلم لأمر الله سبحانه، أو أن يدفع الجزية، ويبقى على دينه خاضعا لسيادة الإسلام، ولكن كل تلك العروض رفضها وأصر واستكبر هو وجنوده، وضاق الأمر بالمسلمين، ونشبت المعركة بين الجمعين وحمى الوطيس بينهما لعدة أيام، حتى وصل مدد بقيادة عبد الله بن الزبير، وكانت نهاية هذا المستكبر الطاغي جرجير على يديه ولما رأى الروم الذين بالساحل ما حل بجرجير وأهل سبيطلة، غارت أنفسهم وتجمعوا وكاتب بعضهم بعضا في حرب عبد الله بن سعد إياهم، فخافوه وراسلوه وجعلوا له جعلا على أن يرتحل بجيشه، وألا يعترضوه بشيء ووجهوا إليه ثلاثمائة قنطار من الذهب في بعض الروايات، وفي البعض الآخر مائة قنطار، جزية في كل سنة على أن يكف عنهم ويخرج من بلادهم، فقبل ذلك منهم وقبض المال، وكان في شرط صلحهم أن ما أصاب المسلمون قبل الصلح فهو لهم، وما أصابوه بعد الصلح رده عمر إن عبد الله بن الزبير قال لعبد الله بن سعد: إن أمرنا يطول مع هؤلاء وهم في أمداد متصلة وبلاد هي لهم ونحن منقطعون عن المسلمين وبلادهم، وقد رأيت أن نترك غدا جماعة صالحة من أبطال المسلمين في خيامهم متأهبين ونقاتل نحن الروم في باطن العسكر إلى أن يضجروا ويملوا, فإذا رجعوا إلى خيامهم ورجع المسلمون ركب من كان في الخيام من المسلمين ولم يشهدوا القتال وهم مستريحون ونقصدهم على غرة، فلعل الله ينصرنا عليهم، فأحضر جماعة من أعيان الصحابة واستشارهم فوافقوه على ذلك، فلما كان الغد فعل عبد الله ما اتفقوا عليه، وأقام جميع شجعان المسلمين في خيامهم وخيولهم عندهم مسرجة، ومضى الباقون فقاتلوا الروم إلى الظهر قتالا شديدا، فلما أذن بالظهر همَّ الروم بالانصراف على العادة فلم يمكنهم ابن الزبير وألح عليهم بالقتال حتى أتعبهم، ثم عاد عنهم والمسلمون؛ فكل الطائفتين ألقى سلاحه ووقع تعبا، فعند ذلك أخذ عبد الله بن الزبير من كان مستريحا من شجعان المسلمين وقصد الروم فلم يشعروا بهم حتى خالطوهم وحملوا حملة رجل واحد وكبروا فلم يتمكن الروم من لبس سلاحهم حتى غشيهم المسلمون، وقتل جرجير، قتله ابن الزبير، وانهزم الروم وقتل منهم مقتلة عظيمة، وأخذت ابنة الملك جرجير سبية، ونازل عبد الله بن سعد المدينة وحاصرهم حتى فتحها، ورأى فيها من الأموال ما لم يكن في غيرها، فكان سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار وسهم الراجل ألف دينار. ولما فتح عبد الله مدينة سبيطلة بث جيوشه في البلاد فبلغت قفصة فسبوا وغنموا، وسيِّر عسكرا إلى حصن الأجم، وقد احتمى به أهل تلك البلاد فحصرهم وفتحه بالأمان فصالحه أهل إفريقية كما مر معنا، ونفل عبد الله بن الزبير ابنة الملك وأرسله ابن سعد إلى عثمان بالبشارة بفتح إفريقية رابعًا: بطولة عبد الله بن الزبير في فتح إفريقية: هذا ولقد كان لعبد الله بن الزبير -رضي الله عنهما- موقف عظيم في البطولة والشجاعة، وقد ذكره الحافظ ابن كثير حيث قال: لما قصد المسلمون -وهم عشرون ألفا- إفريقية، وعليهم عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وفي جيشه عبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير، صمد إليهم ملك البربر جرجير في عشرين ومائة ألف، وقيل في مائتي ألف، فلما تراءى الجمعان أمر جيشه فأحاطوا بالمسلمين هالة، فوقف المسلمون في موقف لم ير أشنع منه ولا أخوف عليهم منه. قال عبد الله بن الزبير: نظرت إلى الملك جرجير من وراء الصفوف وهو راكب على برذون، وجاريتان تظلانه بريش الطواويس، فذهبت إلى عبد الله بن سعد بن أبي السرح فسألته أن يبعث معي من يحمي ظهري، وأقصد الملك، فجهز معي جماعة من الشجعان، فأمر بهم فحموا ظهري وذهبت حتى خرقت الصفوف إليه، وهم يظنون أني في رسالة إلى الملك، فلما اقتربت منه أحس مني الشر، ففر على برذونه فلحقته فصفعته برمحي وذففت -يعني أجهزت- عليه بسيفي، وأخذت رأسه فنصبته على رأس الرمح وكبرت، فلما رأى ذلك البربر فَرِقُوا وفروا كفرار القطا، واتبعهم المسلمون يقتلون ويأسرون, فغنموا غنائم جمة وأموالا عظيمة وسبيًا عظيمًا، وذلك ببلد يقال له: (سبيطلة) على يومين من القيروان. قال ابن كثير: فكان هذا أول موقف اشتهر فيه أمر عبد الله بن الزبير t وعن أبيه، وعن سائر الصحابة الكرام أجمعين إن ما قام به ابن الزبير نوع من الطموح نحو المعالي المحفوفة بالأهوال بدون تدرج سابق، لقد كان عمره آنذاك سبعا وعشرين سنة، ولم يذكر له قبل ذلك مواقف بطولية من نوع المغامرات، فكيف أقدم على هذه المغامرة الهائلة التي يغلب على الظن أو يكاد يقرب من اليقين في عرف الناس العاديين أن فيها الهلاك؟!! وإن الاحتمالات التي يمكن أن ترد في مثل هذه المغامرة أن يدور في خلد المغامر أمران: 1- أن ينجح في هجومه فيقضي على ملك البربر، ويتفرق جنده كما هي عادة الكفار، وفي ذلك نصر مؤزر للمسلمين، وكفاية لهم عن خوض معركة شرسة قد تخوف منها المسلمون. 2- أن يتقبله الله شهيدا، وفي ذلك الوصول إلى أسمى الأماني، وأبلغ الدرجات التي يطمح إليها الصالحون ويتنافسون على بلوغها، كما أن في ذلك من إرهاب الكفار وإثارة الرعب فيهم الشيء الكثير؛ حيث سيتوقع الكفار أن المسلمين الذين سيقاتلونهم كلهم من هذا النوع الجريء الفتاك؛ إذ أنه يكفي المغامر شجاعة أن يقذف بنفسه في وسط المعركة الملتهبة، إنه لا يقدم على هذه الوثبة العالية إلا العظماء الذين يتصورون الجنة من وراء تلك الوثبة ويشتاقون للعيش فيها. ولقد كان ابن الزبير وثب تلك الوثبة متجردا من علائق الدنيا وأثقالها المثبطة، طامحا إلى ما أعده الله تعالى للمجاهدين في سبيله على قدر طاقتهم، سواء انتصروا على أعدائهم أو نالوا الشهادة وقد جاء في هذا الخبر أن البربر بعدما قتل ملكهم فروا من جيش المسلمين كفرار القَطَا، وأن المسلمين تبعوهم يقتلون ويأسرون منهم من غير مقاومة، وإن هذا الخبر دليل على أن الله تعالى مع أوليائه المؤمنين، وأنه يقيض لهم إذا صدقوا ما يخلصهم من الشدائد وينقذهم من المآزق، فإن المسلمين قد وقعوا في معضلة كبرى؛ حيث أحاط بهم أعداؤهم الذين يفوقونهم ست مرات في العدد أو أكثر، وكان على المسلمين أن يقاتلوهم من كل جانب، وهو أمر عسير على جيش صغير بالنسبة لكثرة عدوه، كما جاء في قول الراوي: فوقف المسلمون في موقف لم ير أشنع منه ولا أخوف عليهم منه، فقيض الله لهم هذا البطل المغوار الذي أقدم على مغامرة نادرة المثال، فأنقذ الله به ذلك الجيش الإسلامي من عسرة كان يعاني منها ولا ننسى موقف الأبطال الذين كانوا مع عبد الله بن الزبير يحمون ظهره، فإنهم قد شاركوه في تلك المخاطرة، ولئن لم يذكر التاريخ أسماءهم فإن عملهم الفدائي قد بقي مخلدا في الدنيا برفع ذكر هذه الأمة حينما تفاخر بأبطالها، وفي الآخرة بما ينتظرون من وعد الله للمجاهدين الصادقين هذا وقد قدَّم المسلمون الغالي والرخيص في فتوحات إفريقية، واستشهد منهم الكثير، خامسًا: معركة ذات الصواري: أصيب الروم بضربة حاسمة في إفريقية، وتعرضت سواحلهم للخطر بعد سيطرة الأسطول الإسلامي على سواحل المتوسط من ردوس حتى برقة، فجمع قسطنطين بن هرقل أسطولا بناه الروم من قبل، فخرج بألف سفينة لضرب المسلمين ضربة يثأر لها لخسارته المتوالية في البر، فأذن عثمان لصد العدوان، فأرسل معاوية مراكب الشام بقيادة بسر بن أرطأة، واجتمع مع عبد الله بن سعد بن أبي السرح في مراكب مصر، وكانت كلها تحت أمرته، ومجموعها مائتا سفينة فقط، وسار هذا الجيش الإسلامي وفيه أشجع المجاهدين المسلمين ممن أبلوا في المعارك السابقة؛ فقد انتصر هؤلاء على الروم من قبل في معارك عديدة، فشوكة عدوهم في أنفسهم محطمة، لا يخشونه ولا يهابونه، على الرغم من قلة عدد سفنهم إذا قيست بعدد سفن عدوهم. خرج المسلمون إلى البحر وفي أذهانهم وقلوبهم إعزاز دين الله وكسر شوكة الروم، ولقد كان لهذه المعركة التاريخية أسباب، منها: 1- الضربات القوية التي وجهها المسلمون إلى الروم في إفريقية. 2- أصيب الروم في سواحلهم الشرقية والجنوبية بعد أن سيطر المسلمون بأسطولهم عليها. 3- خشية الروم من أن يقوى أسطول المسلمين فيفكروا في غزو القسطنطينية. 4- أراد قسطنطين بن هرقل استرداد هيبة ملكه بعد الخسائر المتتالية برًّا، وعلى شواطئه في بلاد الشام ومصر وساحل برقة. 5- كما أراد الروم خوض معركة ظنوا أنها مضمونة النتائج، كي تبقى لهم السيطرة في المتوسط، فيحافظوا على جزره، فينطلقوا منها للإغارة على شواطئ بلاد العرب. 6- محاولة استرجاع الإسكندرية بسبب مكانتها عند الروم، وقد ثبت تاريخيا مكاتبة سكانها لقسطنطين بن هرقل ملك الروم. هذه بعض أسباب معركة ذات الصواري. أين وقعت هذه المعركة؟ وهذا السؤال لم يجد المؤرخون له جوابا موحدا؛ فالمراجع العربية لم تحدد مكانها، باستثناء مرجع واحد على ما نعلم صرح بالمكان بدقة، وآخر قال اتجه الروم إليه. * في (فتح مصر وأخبارها) ذكر الكتاب خطبة عبد الله بن سعد بن أبي السرح وقال: قد بلغني أن هرقل قد أقبل إليكم في ألف مركب. ولم يحدد مكان المعركة. * (الطبري) في أخبار سنة 31هـ، ربط حدوث ذات الصواري بما أصاب المسلمون من الروم في إفريقية، وقال: فخرجوا في جمع لم يجتمع للروم مثله قط. * ولم يذكر (الكامل في التاريخ) مكان الموقعة أيضا، ولكنه ربط سبب وقوعها بما أحرزه المسلمون من نصر في إفريقية بالذات. * وفي (البداية والنهاية) : فلما أصاب عبد الله بن سعد بن أبي السرح من أصاب من الفرنج والبربر بلاد إفريقية، حميت الروم واجتمعت على قسطنطين بن هرقل، وساروا إلى المسلمين في جمع لهم لم ير مثله منذ كان الإسلام؛ خرجوا في خمسمائة مركب وقصدوا عبد الله بن سعد بن أبي السرح في أصحابه من المسلمين ببلاد المغرب. * (تاريخ الأمم الإسلامية): لم يذكر مكان الموقعة أيضا، ورجح الدكتور شوقي أبو خليل أن المعركة كانت على شواطئ الإسكندرية، وذلك للأسباب التالية: * كتاب (النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة) يذكر صراحة: غزوة ذات الصواري في البحر من ناحية الإسكندرية. * تاريخ ابن خلدون يذكر: ثم بعث ابن أبي السرح السرايا ودوخ البلاد فأطاعوا وعاد إلى مصر، ولما أصاب ابن أبي السرح إفريقية ما أصاب، ورجع إلى مصر خرج قسطنطين بن هرقل غازيا إلى الإسكندرية في ستمائة مركب. * ربطت المراجع العربية التي لم تحدد موقع المعركة بين حدوث المعركة وبين ما خسره الروم في شمال إفريقية بالذات. * الأسطول الرومي صاحب ماض عريق، فهو سيد المتوسط قبل ذات الصواري، فهو أجرأ على مهاجمة السواحل الإسلامية، ولذلك رجح الدكتور شوقي أبو خليل مجيء الأسطول الرومي إلى شواطئ الإسكندرية لاستعادتها بسبب مكانتها عند الروم، ومكاتبة أهلها لملكهم السابق، وهو بذلك يقضي أيضا على الأسطول الفتي في مهده، الذي شرع العرب في بنائه بمصر، فتبقى للروم السيطرة والسطوة في مياه المتوسط وجزره. * المراجع الأجنبية تعرف ذات الصواري بموقعة (فونيكة)، وفونيكة هو ثغر يقع غرب مدينة الإسكندرية، بالقرب من مدينة مرسى مطروح، فهي تحدد الموقع تماما. * أحداث المعركة: قال مالك بن أوس بن الحدثان: كنت معهم في ذات الصواري، فالتقينا في البحر، فنظرنا إلى مراكب ما رأينا مثلها قط، وكانت الريح علينا -أي لصالح مراكب الروم- فأرسينا ساعة، وأرسوا قريبا منا، وسكتت الريح عنا، قلنا للروم: الأمن بيننا وبينكم، قالوا: ذلك لكم، ولنا منكم كما طلب المسلمون من الروم: إن أحببتم ننزل إلى الساحل فنقتتل حتى يكتب لأحدنا النصر، وإن شئتم فالبحر. قال مالك بن أوس: فنخروا نخرة واحدة، وقالوا: بل الماء الماء، وهذا يظهر لنا ثقة الروم بخبرتهم البحرية، وأملهم في النصر لممارستهم أحواله وفنونه، مرنوا عليه فأحكموا الدراية بثقافته وأنوائه فطمعوا بالنصر فيه، خصوصا أنهم يعلمون حداثة عهد المسلمين به بات الفريقان تلك الليلة في عرض البحر، وموقف المسلمين حرج، فقال القائد المسلم لصحبه: أشيروا عليَّ؟ فقالوا: انتظر الليلة بنا لنرتب أمرنا ونختبر عدونا، فبات المسلمون يصلون ويدعون الله -عز وجل- ويذكرونه ويتهجدون، فكان لهم دوي كدوي النحل على نغمات تلاطم الأمواج بالمراكب، أما الروم فباتوا يضربون النواقيس في سفنهم، وأصبح القوم، وأراد قسطنطين أن يسرع في القتال، ولكن عبد الله بن سعد بن أبي السرح لما فرغ من صلاته إماما بالمسلمين للصبح، استشار رجال الرأي والمشورة عنده، فاتفق معهم على خطة رائعة: فقد اتفقوا على أن يجعلوا المعركة برية على الرغم من أنهم في عرض البحر، فكيف تم للمسلمين ذلك؟ أمر عبد الله جنده أن يقتربوا من سفن أعدائهم فاقتربوا حتى لامست سفنهم سفن العدو، فنزل الفدائيون أو رجال الضفادع البشرية في عرفنا الحالي إلى الماء، وربطوا السفن الإسلامية بسفن الروم، ربطوها بحبال متينة، فصار 1200 سفينة في عرض البحر، كل عشرة أو عشرين منها متصلة مع بعضها، فكأنها قطعة أرض ستجري عليها المعركة، وصفَّ عبد الله بن سعد المسلمين على نواحي السفن يعظهم ويأمرهم بتلاوة القرآن الكريم، خصوصا سورة الأنفال؛ لما فيها من معاني الوحدة والثبات والصبر. وبدأ الروم القتال، فهم في رأيهم قد ضمنوا النصر عندما قالوا: بل الماء الماء، وانقضوا على سفن المسلمين بدافع الأمل بالنصر، مستهدفين توجيه ضربة أولى حاسمة يحطمون بها شوكة الأسطول الإسلامي، فنقض الروم صفوف المسلمين المحاذية لسفنهم، وصار القتال كيفما اتفق, وكان قاسيا على الطرفين، وسالت الدماء غزيرة اصطبغت بها صفحة الماء، فصار أحمر، وترامت الجثث في الماء، وتساقطت فيه, وضربت الأمواج السفن حتى ألجأتها إلى الساحل، وقتل من المسلمين الكثير، وقتل من الروم ما لا يحصى، حتى وصف المؤرخ البيزنطي (ثيوفانس) هذه المعركة بأنها كانت يرموكا ثانيا على الروم. ووصفها الطبري بقوله: إن الدم كان غالبا في الماء في هذه المعركة، حاول الروم أن يغرقوا سفينة القائد المسلم عبد الله بن أبي السرح، كي يبقى جند المسلمين دون قائد، فتقدمت من سفينته سفينة رومية، ألقت إلى عبد الله السلاسل لتسحبها وتنفرد بها، ولكن علقمة بن يزيد الغطيفي أنقذ السفينة والقائد بأن ألقى بنفسه على السلاسل وقطعها بسيفه وصمد المسلمون رغم كل شيء، وصبروا كعادتهم في معاركهم، فكتب الله -عز وجل- لهم النصر بما صبروا، واندحر ما تبقى من الأسطول الرومي، وكاد الأمير قسطنطين أن يقع أسيرا في أيدي المسلمين -كما ذكر ابن عبد الحكم- لكنه تمكن من الفرار لما رأى قواه تنهار وجثث جنده على سطح الماء تلقى بها الأمواج إلى الساحل. لقد رأى أسطوله الذي تأمل فيه خيرا ونصرا وإعادة كرامة يغرق قطعة بعد قطعة، ففر مدبرا والجراحات في جسمه، والحسرة تأكل فؤاده، يجر خيبة وفشلا، فوصل جزيرة صقلية، وألقت به الريح هناك، فسأله أهله عن أمره فأخبرهم، فقالوا: شمت النصرانية، وأفنيت رجالها، لو دخل المسلمون لم نجد من يردهم فقتلوه، وخلوا من كان معه من المراكب * نتائج ذات الصواري: 1- كانت ذات الصواري أول معركة حاسمة في البحر خاضها المسلمون، أظهر فيها الأسطول الفتيُّ الصبر والإيمان، والجَلَد والفكر السليم بما تفتَّق عنه الذهن الإسلامي من خطة جعلت المعركة صعبة على أعدائهم، فاستحال عليهم اختراق صفوف المسلمين بسهولة، كما استخدم المسلمون خطاطيف طويلة يجرون بها صواري وشرع سفن الأعداء، الأمر الذي انتهى بكارثة بالنسبة للروم. 2- كانت ذات الصواري حدا فاصلا في سياسة الروم إزاء المسلمين، فأدركوا فشل خططهم في استرداد هيبتهم، أو استرجاع مصر أو الشام، وانطلق المسلمون في عرض هذا البحر الذي كان بحيرة رومية، وانتهى اسم (بحر الروم) إلى الأبد، واستطاع المسلمون فتح قبرص وكريت وكورسيكا وسردينيا وصقلية وجزر البليار، ووصلوا إلى جنوة ومرسيليا. 3- قتل قسطنطين فتولى ابن قسطنطين الرابع من بعده، وكان حَدَثًا صغير السن، مما جعل الظروف مواتية لقيام حملة بحرية وبرية إسلامية تستهدف عاصمة روما (القسطنطينية) فيما بعد. 4- الإعداد الروحي قبل المعركة -أو ما يسمى بالتوجيه المعنوي في أيامنا هذه- له قيمته في تحقيق النصر؛ حيث تتجه القلوب إلى الله بصدق، فهذا المؤمن الذي بات ليله في تهجد وذكر، يستمد العون من الله، من عظمته وعزته، بعد أن هيأ الأسباب، يلقى الأعداء بروح عالية لا يهاب الموت، فالله أكبر من كل شيء، وهذه المعارك التي نصف أحداثها التاريخية هي وصفة طبية نعرضها للتطبيق والنهج، لنستفيد منها في حياتنا؛ فحياة الصحابة ما هي إلا للقدوة وسيرة للاتباع. 5- أصبح البحر المتوسط بحيرة إسلامية، وصار الأسطول الإسلامي سيد مياه البحر المتوسط، وهذا الأسطول ليس للتسلط والقرصنة بل للدعوة إلى الله وكسر شوكة المشركين، ونشر الحضارة المنبثقة عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. 6- عكف المسلمون على دراسة علوم البحرية، وصناعة السفن، وكيفية تسليحها، وأسلوب القتال من فوقها، وعلوم الفلك المتصلة بتسييرها في البحار، ومعرفة مواقعهم على المصورات البحرية المختلفة، فيما بعد، فعرفوا الاصطرلاب (البوصلة الفلكية), وطوروها إلى المدى الذي استفاد منه بعد ذلك البحارة الغربيون أمثال: كرستوف كولومبس، وأمريكوفيسبوشي في اكتشافاتهم 7- لقد كانت هذه المعركة مظهرا من مظاهر تفوق العقيدة الصحيحة الصلبة على الخبرة العسكرية والتفوق في العدد والعُدَد، فلقد كان الروم هم أهل البحر منذ القدم، وقد مروا بتجارب طويلة في الحروب البحرية، بينما كان المسلمون حديثي عهد بركوب البحر والقتال البحري، ولكن الله تعالى أدلى المسلمين عليهم برغم التفوق المذكور؛ لأنه سبحانه قد سخر أولئك المؤمنين لنشر دينه وإعلاء كلمته في الأرض. وإن مما يشاد به في هذه المعركة قوة قائدها عبد الله بن سعد بن أبي السرح ورباطة جأشه، ومقدرته الجيدة على إدارة الحروب، وهي بعد ذلك لون من ألوان بسالة المسلمين واستقالتهم في الحروب بأنفسهم في سبيل إعزاز دينهم ورفع شأن دولتهم. سادسًا: أهم الدروس والعبر والفوائد في فتوحات عثمان : 1- تحقيق وعد الله للمؤمنين: قال ابن كثير في حديثه عن عثمان بن عفان :... ففتح الله على يديه كثيرا من الأقاليم والأمصار، وتوسعت المملكة الإسلامية، وامتدت الدولة المحمدية، وبلغت الرسالة المصطفوية في مشارق الأرض ومغاربها، وظهر للناس مصداق قوله تعالى: "وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [النور: 55]، وقوله تعالى: "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" [التوبة: 33]، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وإذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله». وهذا كله تحقق وقوعه وتأكد وتوطد في زمان عثمان 2- التطور في فنون الحرب والسياسة: كانت الحروب تنشأ بين الشعوب من أجل قطعة من الأرض يراد تملكها، أو بسبب اعتداء يقع على بلد أو قبيلة، ولكنها في عهد النبوة والعهد الراشدي أصبحت بسبب المبادئ؛ فالمسلمون يريدون أن تكون عقيدتهم هي السائدة والمهيمنة في الأرض، فاصطدمت بعقائد فاسدة ومنحرفة كعقائد المشركين والمجوس، على أن هذا لم يكن كل شيء في التطور الحربي، بل نجد لونا جديدا آخر وهو ما كان يعرضه المجاهدون المسلمون على أعدائهم من: الإسلام أو الجزية أو المناجزة، ونتج عن تلك الفتوح سياسة فذة أرضت جميع الشعوب إلا من كان في قلبه حقد على العدل والمساواة ممن كانت تحدثهم نفوسهم بالفتن والعصيان، وهؤلاء اضطروا المسلمين أحيانا إلى الشدة معهم والتنكيل بهم 3- بدء التجنيد الإلزامي في عهد عمر واستمراره في عهد عثمان: كانت معركة القادسية من أسباب اتخاذ الفاروق لقرار التجنيد الإلزامي، فقد أمر عماله على الأقاليم بإحضار كل فارس ذي نجدة أو رأى أو فرس أو سلاح، فإن جاء طائعا وإلا حشروه حشرا وقادوه مقادا، واستعجلهم في ذلك بحزمه المشهور قائلا: لا تدعوا أحدا إلا وجهتموه إليَّ، والعَجَلَ العجل. وكان عمر يفكر في التجنيد الإلزامي الموقوف للجهاد، فلما دوَّن الديوان ورتب للمسلمين أرزاقهم السنوية، خرجت فكرته إلى حيز الوجود، واقترنت نشأة الديوان بنشأة التجنيد النظامي الرسمي، وحددت للجنود النظاميين عطاياهم ورواتبهم من بيت مال المسلمين، وعندما أذن عثمان لمعاوية بالغزو بحرا أمره أن يخير الناس ولا يكرههم؛ حتى لا يذهب أحد إلى هذا الضرب من الغزو إلا طائعا مختارا، أما التجنيد برا لإتمام حركة الفتوح، فقد ظل في عهده إلزاميا على أصحاب الرواتب والأرزاق من الجنود النظاميين 4- اهتمام عثمان بحدود الدولة الإسلامية: ترتب على توسع الدولة الإسلامية في عهد عثمان الاستمرار في سياسة تحصين الثغور للحفاظ على حدود الدولة الإسلامية من مهاجمة الأعداء، سواء كان ذلك بشحنها بالجند المرابطين أو بناء الحاميات الدفاعية المختلفة بها، فكان أول كتاب كتبه عثمان بن عفان في خلافته لأمر الأجناد في الثغور لحماية حدود الدولة الإسلامية قوله: أما بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا بل كان على ملإ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل، فيغير الله ما بكم ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون فإني أنظر فيما أكرمني الله النظر فيه والقيام عليه وتسهيلا وتيسيرا للعملية الإدارية جمع الخليفة عثمان لمعاوية بن أبي سفيان الشام والجزيرة وولاية ثغورهما في إدارة موحدة، وكلفه بغزو ثغر شمشاط بنفسه، أو أن يولي ذلك من يرتضيه من كبار قواده من أصحاب الخبرة والشجاعة الراغبين في الجهاد والحرب مع الروم. كما كتب أيضا لمعاوية بن أبي سفيان أن يلزم ثغر أنطاكية قوما، وأن يقطعهم القطائع به ففعل ذلك وكان يهتم بأمر الثغور ويبعث من يستعلم له عن بعضها، وعندما غزا معاوية بن أبي سفيان عمورية وجد الحصون التي فيها بين ثغر أنطاكية وثغر طرسوس خالية من مقاتلة الروم، فجعل به جماعة من جند الشام والجزيرة وقنسرين وأمرهم بالوقوف عندها لتحمي ظهره أثناء انسحابه وانصرافه من غزواته، ثم أغزى بعد ذلك بسنة أو سنتين يزيد بن الحر العبسي الصائفة وأمره بفعل الشيء نفسه، وكانت ولاة الصوائف والشواتي إذا دخلوا بلاد الروم فعلوا ذلك؛ حيث يخلفون بها جندا كثيفا إلى خروجهم من أرض العدو، وقد أبلى معاوية بن أبي سفيان في أثناء إدارته للسواحل الشامية وفي تحصينها بلاء حسنا وكتب عثمان لعبد الله بن سعد بن أبي السرح يأمره بالحفاظ على ثغر الإسكندرية بإلزام الجند المرابطة به وأن يجري عليهم أرزاقهم، وأن يعقب بين المرابطين من أجل أنه لا يضر بهم التجمير، فقال له: قد علمت كيف كان هم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بالإسكندرية، وقد نقضت الروم مرتين، فألزم الإسكندرية مرابطيها، ثم أجرِ عليهم أرزاقهم وأعقب بينهم في كل ستة أشهر وكان من عادة قادة الخليفة عثمان بن عفان إذا تقدموا في الفتوح واستولوا على حصون العدو قاموا بترميمها كمن سبقهم من القادة، ثم إسكانها جند المسلمين من المرابطين، بالإضافة إلى استحداثهم لتحصينات دفاعية جديدة، فمن تلك الحصون التي قام بترميمها معاوية بن أبي سفيان: حصون الفرات وهي سميساط، وملطية وسمشاط وكمخ, وقاليقلا، وهي حصون استولى عليها المسلمون عند فتحهم لأرمينية في عهد عثمان ، وقاموا بترميمها وإسكانها الجند ففي قاليقلا قام القائد حبيب بن مسلمة الفهري بإسكان ألفي رجل وأقطعهم بها القطائع، وجعلهم مرابطين بها وقد كلف الخليفة عثمان القائد حبيب بن مسلمة بأن يقيم بثغور الشام والجزيرة لإدارتها وحمايتها وعندما فتح البراء بن عازب ثغر قزوين رتب فيهم خمسمائة رجل من جند المسلمين وعين عليهم قائدا وأقطعهم أرضا وضياعا لا حق فيها لأحد، فعمروا وأجروا أنهارها وحفروا آبارها وحين فتح سعيد بن العاص طميسة جعل بها مرابطة من ألفي رجل وعين عليهم قائدا إلى غير ذلك من التحصينات التي أنشئت بالثغور في إدارة الخليفة عثمان بن عفان ، والتي كانت تشحن بالجند لحماية حدود الدولة الإسلامية وعني الخليفة عثمان في إدارته بأمر الصوائف والشواتي؛ حيث عمل على تسييرها وتسهيل أمرها في كل عام، وكان يتولاها كبار قادته وولاته أمثال معاوية بن أبي سفيان الذي بنى جسرا بمنبج لمرور الصوائف عليه فلم يكن قبل إذ، وقد فوض الخليفة عثمان إلى واليه معاوية في غزو الروم وتولى قيادة الصائفة من يختاره، فولي معاوية سفيان بن عوف الذي لم يزل على الصوائف في عهد عثمان t، ولم تقتصر حملات الصوائف والشواتي على الحدود البرية بل شملت كذلك البحر في عهد عثمان 5- قسمة الغنائم بين أهل الشام والعراق: استطاع حبيب بن مسلمة أن يهزم الروم في أرمينية قبل وصول مدد الوليد بن عقبة من الكوفة، وغنم أهل الشام غنائم كثيرة، وبعد وصول مدد أهل الكوفة اختلفوا في أمر الغنائم، مما جعل حبيبا يكتب بذلك إلى معاوية فكتب معاوية, إلى الخليفة عثمان يخبره بذلك، فحكم عثمان بن عفان على أهل الشام أن يقاسموا أهل العراق ما غنموا من تلك الغنائم، فلما ورد كتاب الخليفة عثمان بن عفان حبيب بن مسلمة قرأه على جند أهل الشام، فقالوا: السمع والطاعة لأمير المؤمنين، ثم قاسموا أهل العراق وغنموا 6- الحرص على وحدة الكلمة في مواجهة العدو: في عهد عثمان استخلف عبد الله بن عامر على خراسان قيس بن الهيثم السلمي، حيث خرج منها فجمع قارن جمعا كثيرا من ناحية الطبسين وأهل بادغيس وهراة وقستهان، فأقبل في أربعين ألفا، فاستشار قيس بن الهيثم عبد الله بن خازم قائلا له: ما ترى؟ قال: أرى أن تخلي البلاد فإني أميرها ومعي عهد من ابن عامر، إذا كانت حرب بخراسان فأنا أميرها، وأخرج كتابا قد افتعله عمدا، فكره قيس مشاغبته وخلاه والبلاد أحب قيس بن الهيثم بفعله هذا أن يجمع الكلمة بدلا من تفريقها حتى لا يحدث الفشل والوهن للجنود، فتكون الهزيمة، وقد تم النصر للمسلمين على الأعداء بحمد الله 7- شرط ما يحتاج إليه الجنود في بنود الصلح: في عهد عثمان زادت الفتوحات الإسلامية اتساعا مما جعل قادته يشترطون في بعض عهودهم للصلح بأن تكون من المواشي والطعام والشراب لإعداد ما يحتاج إليه الجيش؛ من زاد وتموين وميرة حتى تساعدهم في فتوحاتهم، فلا يتكلفون عناء حمل الميرة من القيادة المركزية ويستغنون عن طلبها؛ ليكونوا على الحرب أوفر وعلى منازلة العدو أقدر 8- جمع المعلومات عن الأعداء: استمرت الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة عثمان بن عفان , وكان يهتم بالأخبار ويتقصاها بنفسه، وسار قادته على منوال من سبقهم من القادة بالاعتناء بأمر العيون وتقصي أخبار العدو كما أنهم جعلوها شرطا من شروط المعاهدات بينهم وبين المعاهدين حيث طلبوا منهم بأن ينصحوا وينذروا المسلمين بسير عدوهم إليهم, ومعاونتهم بأن يكونوا عليهم جواسيس وإبلاغ المسلمين بتحركاتهم. 9- عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي من قادة الفتوح في عهد عثمان: كان عبد الرحمن قائدا عَقَديًّا من الطراز الرفيع، وكان لتمسكه الشديد بعقيدته موضع ثقة رؤسائه ومرؤوسيه على حد سواء، بالإضافة إلى شجاعته وإقدامه وعلمه بأمور الدين، لذلك بقي قائدا لمنطقة (باب الأبواب) وواليا عليها منذ وفاة سراقة بن عمرو حتى استشهد، لم يعزل من منصبه على الرغم من تبدل الخلفاء وتغير الولاة والقادة في الكوفة مرجع عبد الرحمن المباشر، وكان عبد الرحمن يؤمن بوسائل حرب الفروسية الشريفة، فلا يخون ولا يغدر ولا يضرب من الخلف. وكان لسيرته الحسنة في منطقة (باب الأبواب) وجنوب بحر الخزر وغربه أثر أي أثر في استقرار الأمور واستتباب الأمن والنظام في تلك الربوع، فأصبحت تلك المناطق قاعدة أمامية لنشر الإسلام والفتح شمالا، فثبت الإسلام في تلك الأصقاع النائية في وجه مختلف المحن والتيارات منذ أربعة عشر قرنا حتى ومن مواقفه الخالدة التي سطرها على صفحات التاريخ عندما خرج بالناس حتى قطع (الباب) فقال له الملك شهريار: ماذا تريد أن تصنع؟ قال: أريد (بَلَنْجَر) والترك، قال: إنا لنرضى منهم أن يدعونا من دون (الباب). قال عبد الرحمن: لكنا لا نرضى منهم ذلك حتى نأتيهم في ديارهم، وتالله إن معنا لأقواما لو يأذن أميرنا في الإمعان لبلغت فيهم (الرَدْم). قال الملك: وما هو؟ فأجابه عبد الرحمن: أقوام صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ودخلوا في هذا الأمر بنية، كانوا أصحاب حياء وتكرم في الجاهلية، فازداد حياؤهم وتكرمهم, فلا يزال هذا الأمر دائما لهم، ولا يزال النصر معهم حتى يغيرهم من يغلبهم، وحتى يلفتوا عن حالهم وقد غزا عبد الرحمن (بلنجر) غزاة في زمن عمر بن الخطاب، فقال الترك: ما اجترأ علينا إلا ومعه الملائكة تمنعهم من الموت، فهرب منه الترك وتحصنوا فرجع بالغنيمة والظفر بعد أن بلغه خيله (البيضاء) على رأس مائتي فرسخ من (بلنجر)، وعادوا ولم يقتل منهم أحد ومن الواضح أن معنويات المسلمين كانت عالية جدا لتتابع انتصاراتهم، ولتمسكهم بدينهم، كما أن معنويات الأمم التي حاربوها كانت منهارة؛ لأن المسلمين غلبوا الأمم التي قاتلوها، لذلك هرب الأتراك من المسلمين وتحصنوا، فلم يحدث قتال فعلي في هذه الغزوة، فلم يسقط من المسلمين شهيد لقد كان عبد الرحمن بن ربيعة الباهلي على جانب عظيم من التقوى والخلق الكريم، وكان تصرفه مع المغلوبين له الأثر في استتباب الأمن واستقرار النظام وانتشار الإسلام، فقد كان وفيًّا غاية الوفاء، أمينا غاية الأمانة؛ فقد أرسل ملك الباب رسولا إلى ملك (الصين) مع هدايا -وذلك قبل أن يفتح المسلمون بلاده- فعاد رسوله من رحلته بعد فتح المسلمين لتلك البلاد، وكان مع الرسول العائد هدايا من ملك الصين بينها ياقوتة حمراء ثمينة، وكان ملك (الباب) حين عودة رسوله في مجلس عبد الرحمن، فتناول الملك من رسوله تلك الياقوتة ثم ناولها عبد الرحمن، ولكن عبد الرحمن ردها فورا إلى الملك بعد أن نظر إليها، فهتف الملك متأثرا وقال: لهذه -يعني الياقوتة- خير من هذا البلد (أي باب الأبواب)، وأيم الله لأنتم أحب إليَّ حكاما من آل كسرى، فلو كنت في سلطانهم ثم بلغهم خبرها لانتزعوها مني، وأيم الله لا يقوم لكم شيء ما وفيتم ووفى ملككم الأكبر. * * * تابع... |
|
02-08-2013, 06:34 AM | #12 |
|
رد: حيــــــــــــ ذى(عثمـــــان بن عفـــــان) النــورين ــــــــــــاة
|
|
02-08-2013, 06:35 AM | #13 |
|
رد: حيــــــــــــ ذى(عثمـــــان بن عفـــــان) النــورين ــــــــــــاة
|
|
02-08-2013, 06:36 AM | #14 |
|
رد: حيــــــــــــ ذى(عثمـــــان بن عفـــــان) النــورين ــــــــــــاة
وقائع فتنة مقتل عثمان وما ترتب عليها من أحداث والحكمة من إخباره صلى الله عليه وسلم بوقوعها أولاً: وقائع فتنة مقتل عثمان وما ترتب عليها من أحداث في الجمل وصفين وغيرهما: ورد عن كثير من السلف والعلماء الأمر بالتوقف عن الخوض في تفاصيل ما وقع بين الصحابة، وإيكال أمرهم إلى الله الحكم العدل، مع الترضِّي عنهم، واعتقاد أنهم مجتهدون، مأجورون إن شاء الله، والحذر من الطعن فيهم والوقوع في أعراضهم؛ لما يجر ذلك من الطعن في الشريعة؛ إذ هم حملتها وحاملوها إلينا، ومن ذلك ما روى عن عمر بن عبد العزيز أنه سئل عن أهل صفين فقال: تلك دماء طهر الله منها يدي، فلا أحب أن أخضب لساني فيها. وسئل أحدهم عن ذلك فقال متمثلا قوله تعالى: "تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [البقرة: 134]. وهذا النهي معلل، علته الخوف مما ذكرناه من الطعن فيهم والوقوع في أعراضهم، وما يستوجب ذلك من غضب الله ونقمته، فإذا انتفت هذه العلة فالظاهر أنه لا حرج في ذلك، إذا كان الكلام والبحث في تفاصيل ما وقع بينهم لا يؤدي إلى الطعن فيهم مطلقا، فلا بأس من دراسة ذلك والتعمق في أسبابه ودوافعه وتفصيلاته الدقيقة ونتائجه وتداعياته على مجتمع الصحابة، ثم على من بعدهم، وقد كتب من العلماء عن الفتنة، أمثال: ابن كثير والطبري وغيرهما حول أحداث تلك الفترة الحرجة من تاريخ الإسلام، وفصلوا في قضايا كثيرة تتعلق بتلك الفتنة، ومنهم من ذهب إلى حد تخطئة أحد الطرفين، أو كليهما اعتمادا على روايات ونصوص كثيرة اختلط فيها الصحيح بغيره. وهناك أسباب تدعو علماء أهل السنة وطلاب العلم منهم للغوص في أعماق فتنة الهرج التي وقعت في صدر الإسلام والبحث عن تفاصيلها، ومن هذه الأسباب: 1- أن المؤلفات المعاصرة التي تناولت أحداث الفتنة بين الصحابة والتابعين انقسمت إلى ثلاثة أنواع: أ- مصنفات تربى أصحابها على موائد الفكر الغربي الحاقد على التاريخ الإسلامي, أو الجاهل بالتاريخ الإسلامي، فلم يروا فيه شيئا جميلا، فراحوا يطعنون في الصحابة والتابعين بطريقة تخدم أهداف أعداء الإسلام وخصومه، الذين قاموا لدراسة أحداث تلك الفتنة وتفاصيلها، وإعطائها تفسيرات تطعن في جموع الصحابة، وتضرب الإسلام في أصوله، وتجعل من هذه الأحداث صراعا سياسيا على مناصب وكراسي، تخلي فيه الصحابة عن إيمانهم وتقواهم وصدقهم مع الله، وانقلبوا إلى طلاب دنيا، وعشاق زعامة، لا يهمهم أن تراق الدماء، وتزهق الأرواح وتسلب الأموال وتستباح الحرمات إذا كان في ذلك ما يحقق لهم ما يريدون من الرياسة والزعامة. وممن تولى كبر هذه الفرية طه حسين (الفتنة الكبرى) ، الذي هو بحق فتنة كبرى على عقول الناشئة من أبناء المسلمين؛ فقد راح طه حسين يشنع على الصحابة ويشكك في نياتهم، ويتهمهم باتهامات مغرضة خدمة لأهداف أعداء الإسلام والمسلمين. وقد تأثر الكثير بمنهجه، ويبدو أن أمثال هؤلاء اعتمدوا على الروايات التاريخية التي أوردها المؤرخون كالطبري وابن عساكر وغيرهما، والتي اختلط فيها الغث بالسمين، والكذب بالصدق، أخذها دون مراعاة لمنهج هؤلاء في مصنفاتهم، وهذا خطأ كبير. وقد تأثرت هذه الكتابات بالفكر الرافضي والكتابات الشيعية الرافضية للتاريخ الإسلامي؛ فقد تعمد الروافض الإساءة في كتاباتهم للتاريخ الإسلامي، كما في روايات وأخبار الكلبي, وأبى مخنف, ونصر بن مزاحم المنقري, والتي توجد حتى عند الطبري في تاريخه، لكن الطبري يذكرها مسندة لهؤلاء، فيعرف أهل العلم حالها. وكما في كتابات المسعودي في مروج الذهب واليعقوبي في تاريخه. وقد أشار الأستاذ محب الدين الخطيب في حاشية (العواصم) إلى أن التدوين التاريخي إنما بدأ بعد الدولة الأموية, وكان للأصابع الباطنية والشعوبية المتلفعة برداء التشيع دور في طمس معالم الخير فيه، وتسويد صفحاته الناصعة. ويظهر هذا الكيد لمن تدبر كتاب (العواصم من القواصم) لابن العربي مع الحاشية الممتازة التي وضعها العلامة محب الدين الخطيب، لقد سود شيوخ الروافض آلاف الصفحات بسبِّ أفضل قرن عرفته البشرية، وصرفوا أوقاتهم وجهودهم لتشويه تاريخ المسلمين. وكانت هذه المادة (الرافضية) الكبيرة والتي تجدها في كتب التاريخ التي وضعها الروافض أو شاركوا في بعض أخبارها، وتراها في كتب الحديث عندهم كالكافي، والبحار، وفيما كتبه شيوخهم في القديم؛ كإحقاق الحق، وفي الحديث ككتاب الغدير، هذه المادة السوداء المظلمة الكريهة الشائهة هي المرجع لما كتبه أعداء المسلمين من المستشرقين وغيرهم، وجاء ذلك الجيل المهزوم روحيا، والذي يرى في الغرب قدوته وأمثولته من المستغربين، فتلقف ما كتبته الأقلام الاستشراقية وجعلها مصدره ومنهله، وتبنى أفكارهم ونشر شبهاتهم في ديار المسلمين، وكان لذلك أثره الخطير في أفكار المسلمين وثقافتهم، وكان الرفض هو الأصل في هذا الشر كله. وإن دراسة آراء المستشرقين وصلتها بالتشيع لهي موضوع مهم يستحق الدراسة والتتبع، لقد بدأت استفادة العدو الكافر من شبهات الروافض وأكاذيبهم ومفترياتهم على الإسلام والمسلمين منذ عهد الإمام ابن حزم (ت 456هـ) . ب- مصنفات لبعض علماء هذه الأمة من المعاصرين، وهي مفيدة إجمالا، ولكن طريقة عرضهم للأحداث وتفسيرهم لمواقف بعض الصحابة والتابعين فيها كثير -أو بعض- من عدم الإنصاف، مثل ما كتبه أبو الأعلى المودودي -رحمه الله- في كتابه (الخلافة والملك)، وما دونه الشيخ محمد أبو زهرة -رحمه الله- في كتابه (تاريخ الأمم الإسلامية) و(الإمام زيد بن علي)، فالكتابان مشحونان بكثير من التحامل على مقام بعض الصحابة والطعن على خلفاء بني أمية، وتنقصهم وتجريدهم من أية خصلة حميدة أو عمل صالح. ويبدو أن أمثال هؤلاء العلماء لم يحققوا في الروايات التاريخية، فتورطوا في الروايات الرافضية الشيعية وبنوا عليها تحليلاتهم واستنتاجاتهم، غفر الله لنا ولهم. ج- مصنفات حاول أصحابها أن يسلكوا فيها منهج علماء الجرح والتعديل في نقد الروايات التاريخية وعرضها على أصول منهج المحدثين من حيث السند والمتن من أجل تمييز صحيحها من سقيمها, وسليمها من عليلها. وفي هذه المؤلفات محاولة جيدة وجهد مشكور للوقوف في وجه هذا الزيف، وتفسير الأحداث التفسير الصحيح الذي لا يتعارض مع فضل الصحابة وإيمانهم وجهادهم, ومن هذه المؤلفات الجيدة ما كتبه الدكتور يوسف العش في (تاريخ الدولة الأموية)، وما كتبه محب الدين الخطيب تعليقا على كتاب (العواصم من القواصم) لأبي بكر بن العربي، وما كتبه صادق عرجون في كتابه (عثمان بن عفان)، وما سطره الدكتور سليمان بن حمد العودة في كتابه (عبد الله بن سبأ وأثره في أحداث الفتنة في صدر الإسلام)، وما كتبه محمد أمحزون في كتابه (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة)، وما كتبه الدكتور أكرم العمري في كتابه (الخلافة الراشدة), وما كتبه عثمان الخميس في كتابه (حقبة من التاريخ)، وما كتبه الدكتور محمد حسن شراب في كتابه (المدينة النبوية.. فجر الإسلام والعصر الراشدي)، وما قام به محب الدين من تحقيقات نافعة وتعليقات صائبة على كتاب (العواصم من القواصم) و(المنتقى)، وغيرها من الكتب والبحوث والرسائل التي سارت على نفس المنهج؛ فقد ظهر من هذا البيان شدة الحاجة إلى وجود مؤلفات ومصنفات ترد على هذه المزاعم والأخطاء، ولا يتم الرد على هؤلاء المزيفين للتاريخ الإسلامي ومقام الصحابة إلا بمحاولة دراسة تفاصيل تلك الأحداث، وغربلة الأخبار والروايات الواردة بميزان الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف.وقد جاء عن ابن تيمية قوله: لكن إذا ظهر مبتدع، يقدح فيهم بالباطل, فلا بد من الذب عنهم، وذكر ما يبطل حجته بعلم وعدل.وقد ذهب الإمام الذهبي -رحمه الله- في هذا مذهبا آخر، فهو يدعو إلى إحراق هذه الكتب التي فيها هذا الكذب والتشويه لمقام الصحابة، قال رحمه الله: كما تقرر الكف عن كثير مما وقع بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا فينبغي طيه وإخفاؤه بل إعدامه؛ لتصفو القلوب وتتوافر على حب الصحابة والترضي عنهم. وقد أفادنا الذهبي في كلامه فائدة كبيرة، وهو تصريحه بكون أكثر ما ينقل من ذلك في الكتب والدواوين كذبا وزورا وافتراء على مقام الصحابة رضي الله عنهم، إلا أن اقتراح الذهبي بحرق تلك المؤلفات لم يعد ممكنا؛ فقد انتشرت هذه الكتب، وتولت طباعتها كثير من دور النشر، وكثير من ذوي النيات السيئة فلم يبق إلا وضعها موضع الدراسة وبيان ما فيها من عوار وخطأ وكذب؛ حفظا لأجيال المسلمين من انحراف السلوك والعقيدة. 2- تظهر أهمية دراسة فتنة مقتل عثمان وما ترتب عليها من أحداث لمعرفة أسباب الفتنة الحقيقية، سواء كانت هذه الأسباب داخلية أو خارجية، ومعرفة نصيب كل سبب من الأسباب فيما حدث، وهل هناك أسباب يمكن إدراجها في هذا السبيل؟ إن الذي يقرأ طرفا مما كتب عن هذه الفتنة يحس أن مؤامرة كبرى جرى التخطيط لها، وتعاون المجوس والنصارى واليهود والمنافقون على تنفيذها؛ فقضية تآمر الأعداء ترافق الأمة الإسلامية في كل مراحل تاريخها الطويل. إلا أن هذه المؤامرة ما كانت لتنجح لولا وجود عوامل ضعف داخلية أسهمت في التمكين لنجاح هذه المؤامرة. ألا يصح دراسة عهد الصحابة -والحالة هذه- واجبا من الواجبات في سبيل معرفة أسباب ضعف الأمة الإسلامية، وتحديد مكامن الداء التي أوتيت منها، والاستفادة من ذلك في إصلاح حاضر هذه الأمة وتجنبها هذه المزالق في مستقبل حياتها؟ أم كتب عليها أن تظل ترزأ تحت ثقل أدوائها من الداخل وكيد أعدائها من الخارج. إن ما وقع من أحداث جسام في فتنة مقتل عثمان وما ترتب عليها من أحداث تحتاج لدراسة عميقة ومتأنية لكي نستخرج من تلك الحقبة التاريخية دروسا وعبرا نستضيء بها في حاضرنا؛ لكي نسترشد بها في سعينا الجاد لإعادة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، حتى تسعد البشرية بدين الله وشرعه، وتخرج من شقاوتها وتعاستها وضنكها بسبب بعدها عن شرع الله تعالى. ثانيًا: الحكمة من إخباره صلى الله عليه وسلم بوقوعها: لقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من أحاديثه بأن هذه الأمة ستختلف وستتقاتل، وتعددت الأحاديث التي تشير إلى ذلك بإجمال أو بتفصيل، وتنوعت أساليب الإخبار عن ذلك من ذكر لأسباب الفتن أو لنتائجها، أو لبعض أحداثها ووقائعها، أو لمن يثيرونها، وغير ذلك، وكان كثير من هذا البيان والتوضيح منه صلى الله عليه وسلم جوابا لأسئلة الصحابة الكرام الذين كانوا يطرحونها عليه، وهم يشاهدون ويتذوقون النعمة العظيمة التي أفاءها الله عليهم، وهي نعمة الأخوة ووحدة الصف واجتماع الكلمة، فراحوا يسألون عما إذا كانت هذه النعمة ستدوم أم تزول، ولما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم بالوحي أنها لن تدوم كما هي أحب أن يربيهم على الاستعداد لهذه المحن والفتن حتى يحسنوا التصرف يوم يقدر الله لهذه الفتنة أن تقع، فيسعوا إلى علاجها في وقتها، ومن خلال النظر في جملة الأحاديث الواردة في ذكر الفتن نلمح الحكم التالية 1- أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو يذكر هذه الفتن والوقائع يريد أن يربي الأمة على الاستعداد لها حتى تحسن التصرف يوم تقع هذه الفتن، فتسعى إلى علاجها في وقتها. 2- إن في هذه الأحاديث إشارات إلى من يثيرونها، وأنها أحيانا تكون من قوم ظاهري الإيمان والتشدد، ولكن عقولهم منحرفة، وقلوبهم ملتوية، وهم في جملة حالهم غير مدركين ولا فاقهين. 3- إن هذه الفتنة تكشف المنافقين وتصقل قلوب المؤمنين فيزدادون إيمانا، ويتحفزون للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو نوع من الابتلاء تصقل به النفوس وتتعود المجاهدة وتتعرف الخير فتأمر به والشر فتنهى عنه 4- إن الإخبار عن هذه الفتن يحمل في مضمونه تحذيرا شديدا من الوقوع فيها, أو ملابسة شيء منها؛ ذلك أن المؤمنين من هذه الأمة -من الصحابة وغيرهم- حين يسمعون خبر النبي صلى الله عليه وسلم بأن منهم من سيحدث منه القتل، ومنهم من سيتعلق بالدنيا، ومنهم من سيترك الجهاد، ومنهم، ومنهم.. تتحرك في نفوسهم مشاعر المواجهة لهذه الفتن، ويقول كل واحد منهم: لعلي أنجو، ويصبح الموقف منها الخوف على الدوام أن يقع في تلك المهالك على غفلة، والخوف في هذا الباب من أعظم سبل النجاة. قال ابن تيمية -رحمه الله- بعد أن أورد عدة أحاديث مرفوعة في وقوع هذا الخلاف والاختلاف في هذه الأمة: وهذا المعنى محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه، يشير إلى أن التفرقة والاختلاف لا بد من وقوعها في الأمة، وكان يحذر أمته لينجو من شاء الله له السلامة. 5- إن الإخبار عن هذه الفتن أدق في تحديد سبل النجاة منها؛ فإن الإنسان مهما بالغت في تحذيره من خطر يهدده -دون أن تحدد له هذا الخطر أو تبين له كيفية الوقوع فيه- قد لا يتصور الطريقة التي سيحدث بها، ولا يستبين طبيعة المشكلة التي سيواجهها، وقد يقع في المحذور دون أن يعرف أنه المقصود بالتحذير. 6- إن الإخبار عن تلك الفتن اقترن في بعض الأحاديث بذكر أسبابها، أو بيان نتائجها، أو موقف المسلم منها، وهذا ينفع المسلم أو الأمة كلها في نبذ أسباب الفتن، أو الحكم على وقائع معينة من خلال النظر في نتائجها، أو اتخاذ الموقف السليم منها ابتداء. 7- ثم إن فيها دليلا واضحا على صدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، يزداد به إيمان الصحابة الذين سمعوا الحديث ثم رأوا تأويله في مواقفهم بعد مدة، ويزداد به إيمان المؤمن -كل مؤمن- في كل عصر ومصر، وهو يعيش وقائع الفتن والاختلافات التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوعها. وقد جمع الدكتور عبد العزيز صغير دخان أحاديث الفتنة وقام بدراستها، وبيان صحيحها من ضعيفها في كتابه (أحداث وأحاديث الفتنة الأولى)، ثم استخرج من الأحاديث الصحيحة معاني دلت عليها تلك الأحاديث، منها: 1- أن الفتنة سنة الله -عز وجل- في الأمم، وفي هذه الأمة إلى قيام الساعة، وهي فتن كقطع الليل المظلم، عمياء صماء بكماء، من سعى فيها هلك في الدنيا والآخرة، ومن كف يده أفلح، لا يكاد يبصر فيها أحد موقفه إلا من أحياه الله بالعلم وزوده بالتقوى، وهداه إلى ما اختلف فيه من الحق بإذنه. 2- وفي هذه الأحاديث أن فتنة القتال بين المسلمين أمر واقع لا محالة، ولا سبيل لإنكاره واستغرابه بدءا بما وقع بين الصحابة والتابعين، ومرورا بالعصور الإسلامية إلى اليوم، ولكن الواجب هو معرفة أسباب هذا القتال لتلافيها، أو السعي في إطفاء نار الفتنة حينما تشب في ديار المسلمين، وألا ينبغي أن يقف المسلم منها موقف المتفرج. 3- ومن رحمة الله بهذه الأمة أن يكفر عنها ذنوبها في الدنيا، وليس القتل والفتن التي تنزل ساحتها والزلازل التي تصيبها إلا كفارة لهذه الذنوب. 4- وفي بعض هذه الأحاديث إشارة واضحة وصريحة إلى أن منبت معظم هذه الفتن من قبل المشرق، وكذلك كان الواقع؛ فإن الفتنة الأولى بدأ تحريكها في الكوفة والبصرة، وفتنة الجمل كانت هناك. 5- وفي الفتنة يبيع قوم دينهم بعرض من الدنيا يسير، وتتحكم فيها الشهوات والشبهات، ويصير أهل الإسلام الصحيح غرباء في سلوكهم وتصرفاتهم، ويصبح المتمسك بدينه أشبه ما يكون بالذي يقبض على الجمر أو على الشوك، صابرا محتسبا ما يصيبه من الألم والأذى في سبيل دينه وما يعتقد أنه حق. 6- وفي الفتنة يحفظ الله طائفة من الناس، فلا تلتبس بالفتنة، ولا تتلطخ أيديهم من دماء المسلمين، يسعون في إصلاح ذات البين، والدعوة إلى مبادئ الإسلام الصحيحة من رحمة وأخوة وسيكون موقفهم غريبا بدون شك وسط الجموع الهائجة والأهواء المستحكمة. 7- وفي الفتنة يلعب اللسان دورا أخطر من السيف، بل إن اللسان يكون غالبا منشأ الفتن والبلايا، فرب كلمة شر مسمومة انطلقت فأشعلت النار في القلوب، وهيجت ما كان مستكنا في النفوس، وشحذت العواطف، وكانت سببا في فتن ضارية. 8- وفي الفتنة ينقص العلم؛ إما بموت العلماء أو بسكوتهم واعتزالهم إيثارا للسلامة، أو لانصراف الناس عنهم لسبب من الأسباب، ويسود عندها الجهل، ويتخذ الناس رؤساء جهالا، فيفتوا بغير علم، فيُضِلوا ويَضِلوا، ويسود الرويبضة -وهو التافه من الناس- ويستعلي السفهاء منهم. 9- وفي هذه الأحاديث أن الله -عز وجل- ضمن لرسوله صلى الله عليه وسلم ألا يهلك هذه الأمة بالسنين والمجاعات، وألا يسلط عليهم عدوا فيتمكن منها دائما، مهما كانت قوة هذه العدو وإمكانياته وجبروته، ولكن الأمر الذي لم يضمنه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم هو ألا تختلف هذه الأمة، وسيكون هذا هو الباب الذي يدخل منه العدو الخارجي؛ إذ أن الأمة إذا اختلفت فيما بينها وقتل بعضها بعضا، ضعفت عوامل القوة فيها، وتمكن منها عدوها فعبث بخيراتها ومقدراتها، ولن يرفع عنها حتى تعود إلى تحقيق القوة في نفسها بالوحدة، وجمع الكلمة، والاحتكام إلى شرع الله. 10- وفي الأحاديث أن وقوع الفتنة واستمرارها مظنة ظهور فرق المنحرفين عن هدى الإسلام، وتمكن أهل الباطل وظهورهم. 11- وفي الفتنة تتغير أخلاق الناس وتتبدل، ويزهد الناس في العمل الصالح، ومشاريع الخير، ويلقى بين الناس العداوة والبغضاء والحقد، ويختلط الأمر على الناس. 12- وفي الأحاديث أن هذه الفتن يسبقها أمن واستقرار وصلاح أحوال الناس المادية والأمنية، حتى يسير الراكب بين العراق ومكة لا يخاف إلا ضُلاَّل الطريق، ويظهر هذا في عهد عثمان ؛ فقد كان عهد أمن واستقرار وتدفق الأموال والخيرات، ثم حدثت فتنة الهرج فقُوض ذلك كله، حتى تبدل الحال من الأمن إلى الخوف. 13- وفي الفتنة يقتل خيار الناس وذوو العقول والرأي فيهم، ويبقى رجرجة من الناس لا تعرف معروفا ولا تنكر منكرا.هذه بعض المعاني من أحاديث الفتن * * * |
|
02-08-2013, 06:37 AM | #15 |
|
رد: حيــــــــــــ ذى(عثمـــــان بن عفـــــان) النــورين ــــــــــــاة
اشـــــــــــتعال الفتنـــــة نجح الموتورون الحاقدون الكاذبون في إزاحة الوليد بن عقبة عن ولاية الكوفة، وعين عثمان سعيد بن العاص واليا جديدا على الكوفة، وعندما وصل سعيد إلى ولايته صعد المنبر، وبعدما حمد الله وأثنى عليه قال: والله لقد بعثت إليكم وإني لكاره، ولكني عندما أمرني عثمان، لم أجد بدًّا من التنفيذ، ألا وإن الفتنة قد أطلت رأسها فيكم، والله لأضربن وجهها حتى أقمعها أو تغلبني، وإني رائد نفسي اليوم, واطلع سعيد على أحوال الكوفة، وعرف توجهات الناس فيها، وأدرك تعمق الفتن فيها، وضلوع مجموعة من الخوارج والموتورين والحاقدين وأعداء الإسلام في التآمر والكيد والفتنة وسيطرة الرعاع والغوغاء والأعراب على الرأي فيها. وكتب سعيد رسالة إلى أمير المؤمنين عثمان يخبره فيها بالأوضاع المتردية في الكوفة، ومما قال فيها: إن أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم, وقد غلب فيها أهل الشرف والسابقة والقِدمة، والغالب على تلك البلاد روادف ردفت, وأعراب لَحَتْ حتى ما ينظر فيها إلى ذي شرف وبلاء.. فرد عليه عثمان t برسالة طلب منه فيها إعادة ترتيب أوضاع أهلها وتصنيفهم على أساس السبق والجهاد، وتقديم أهل العلم والصدق والجهاد على غيرهم، ومما قال له فيها: فضل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله على أيديهم تلك البلاد، واجعل الذين نزلوا البلاد بعد فتحها من الأعراب تبعا لأولئك السابقين المجاهدين إلا أن يكون السابقون تثاقلوا عن الجهاد والحق، وتركوا القيام به، وقام به من بعدهم. واحفظ لكل إنسان منهم منزلته وأعطهم جميعا قسطهم بالحق، فإن المعرفة بالناس يتحقق بها العدل بينهم. وقام سعيد بتنفيذ توجيهات عثمان t وأخبر الخليفة بما فعل، وجمع عثمان أهل الحل والعقد في المدينة، وأبلغهم بأوضاع الكوفة ورسوخ الفتنة فيها، وإجراءات سعيد بن العاص لمواجهتها، فقالوا: أصبت بما فعلت، ولا تسعف أهل الفتنة بشيء ولا تقدمهم على الناس، ولا تطعمهم فيما ليسوا له بأهل، فإنه إذا تولى الأمور من ليس أهلا لها، لم يقم بها بل يفسدها، فقال عثمان لهم: يا أهل المدينة، إن الناس قد تحركوا للفتنة، فاستعدوا لمواجهتها، واستمسكوا بالحق، وسوف أخبركم بأخبارها وأنقلها لكم أولا بأول. أولاً: تأذى أصحاب الأهواء من الإصلاح: تأذى الرعاع وأجلاف الأعراب من تقديم أصحاب السابقة والجهاد والبلاء والعلم والتقوى في المجالس والرئاسة والاستشارة، وصاروا يعيبون على الولاة تقديم هؤلاء عليهم واستشارتهم دونهم ويعتبرونهم تمييزا, وجفوة وإقصاء لهم، واستغل الحاقدون الموتورون هذا الأمر في نفوسهم، وغرسوا فيهم كره الخليفة والدولة ورفض أعمال الوالي سعيد بن العاص، ونشر الإشاعات ضده بين الناس، ورفض عامة الناس في الكوفة كلام الموتورين الخارجين، فسكت هؤلاء الحاقدون وصاروا يخفون شبهاتهم ولا يظهرونها؛ لرفض معظم المسلمين لها، ولكنهم كانوا يسرون بها إلى من يؤيدهم من الأعراب أو الغوغاء أو المعاقبين المغررين. وكان أعداء الإسلام الموتورون من اليهود والنصارى والمجوس يتآمرون على الإسلام والمسلمين، وينشرون الإشاعات الكاذبة ضد الخليفة والولاة، ويستثمرون الأخطاء التي تصدر عن بعضهم في تهييج العامة ضدهم، ويزيدون عليها الكثير من الافتراءات والتزويرات، وهم يهدفون من ذلك إلى نشر الفوضى وتعميق الفرقة بين المسلمين، وذلك لتغذية غيظهم وحقدهم على الإسلام, الذي قضى على أديانهم الباطلة وهدم نظام الحكم الإسلامي، الذي حطم دولهم وقضى على جيوشهم، وجند هؤلاء الأعداء لتحقيق أهدافهم الموتورين من الرعاع والسذج والبلهاء والتف حولهم الحاقدون ممن أدَّبهم أو حدَّهم أو عزَّرهم الخليفة أو أحد ولاته، ونظم هؤلاء الأعداء (جمعية سرية) خبيثة جعلوا أعضاءها هؤلاء الذين استجابوا لهم، وجعلوا لهم أتباعا في المدن الكبيرة والأقاليم العديدة، وكونوا شبكة اتصالات سرية بينهم. وكانت أهم فروع جمعيتهم الخبيثة في: الكوفة، والبصرة، ومصر، ولهم بعض العناصر في المدينة المنورة والشام. ثانيًا: عبد الله بن سبأ اليهودي على رأس العصابة: أوصى ابن سبأ أتباعه المجرمين في جمعيته السرية الخبيثة، المنتشرين في بلاد المسلمين، فقال لهم: انهضوا في هذا الأمر، فحركوه وابدأوا بالطعن على أمرائكم وولاتكم الذين يعينهم الخليفة، وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لتستميلوا الناس إليكم، وادعوهم إلى هذا الأمر. وبث عبد الله بن سبأ دعاته في الأمصار، وكاتب أتباعه الذين أفسدهم في الأمصار وضمهم إليه وكاتبوه، وتحرك أتباعه في البلدان بدعوتهم ودعوا مؤيديهم في السر إلى ما هم عليه من الخروج على الولاة والخليفة، والعمل على عزل عثمان عن الخلافة، وكانوا في الظاهر يظهرون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ليؤثروا في الناس، ويستميلوهم ويخدعوهم، وصار أتباع ابن سبأ يؤلفون الأكاذيب والافتراءات عن عيوب أمرائهم وولاتهم، وينشرونها في كتب يرسلها بعضهم إلى بعض في الأمصار، وصار أهل كل مصر منهم يكتبون كتبا بهذه الأكاذيب إلى أهل مصر آخر، فيقرأ أهل كل مصر تلك الكتب المزورة على الناس عندهم فيسمع الناس عندهم عن عيوب وأخطاء الوالي في ذلك البلد فيقولون: إنا لفي عافية مما ابتلى به المسلمون في ذلك البلد، ويصدقون ما يسمعون. وبذلك أفسد السبئيون الأرض وأفسدوا المسلمين، ومزقوا كلمتهم، وزعزعوا أخوتهم ووحدتهم، وهيجوا الناس على الولاة والأمراء، ونشروا الافتراءات ضد الخليفة عثمان نفسه،وكانوا يقومون بهذه الجرائم المنظمة والمدروسة بمهارة يريدون غير ما يظهرون، ويسرون غير ما يعلنون، ويهدفون إلى عزل عثمان والقضاء على دولة الإسلام. توجه ابن سبأ إلى الشام ليفسد بعض أهلها ويؤثر فيهم، ولكنه لم ينجح في هدفه الشيطاني، فقد كان له معاوية t بالمرصاد. ودخل البصرة ليجند الأتباع له من المارقين أو الحاقدين أو الرعاع البلهاء، وكان والي البصرة عبد الله بن عامر بن كريز، وكان حازما عادلا صالحا، ولما وصل ابن سبأ البصرة، نزل عند رجل خبيث من أهلها كان لصا فاتكا، هو حكيم بن جبلة. وبلغ عبد الله بن عامر أن رجلا غريبا نازل على حكيم بن جبلة، وكان حكيم بن جبلة لصا، وعندما كانت تعود جيوش الجهاد إلى البصرة، كان حكيم يتخلف عنها ليسعى في أرض فارس فسادا، ويغير على أرض أهل الذمة، ويعتدي على أرض المسلمين، ويأخذ منها ما يشاء، فشكاه أهل الذمة والمسلمون إلى عثمان، فكتب عثمان إلى عبد الله بن عامر، وقال له: احبس حكيم بن جبلة في البصرة، ولا تتركه يخرج منها حتى تأنس منه رشدا، فحبسه ابن عامر في بيته، وكان لا يستطيع أن يخرج من البصرة، وبينما كان اللص ابن جبلة تحت الإقامة الجبرية في بيته، نزل عليه اليهودي عبد الله بن سبأ، واستغل ابن سبأ زعارة ابن جبلة وانحرافه وحقده ولؤمه فجنده لصالحه، وصار ابن جبلة رجل ابن سبأ في البصرة، وصار ابن جبلة يقدم لابن سبأ أمثاله من المنحرفين والموتورين، فيغرس ابن سبأ في نفوسهم أفكاره، ويجندهم بجمعيته السرية. ولما علم ابن عامر بابن سبأ، استدعاه، وقال له: ما أنت؟ قال ابن سبأ: أنا رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام فأسلم، ورغب في جوارك فأقام عندك. قال ابن عامر: ما هذا الكلام الذي يبلغني عنك؟ اخرج عني. أخرجه ابن عامر من البصرة، فغادرها ابن سبأ بعد أن ترك فيها رجالا وأتباعا له، وجعل فيها فرعا لحزبه السبئي اليهودي. ذهب ابن سبأ إلى الكوفة فوجد فيها رجالا من المنحرفين جاهزين لاستقباله، فجندهم لجماعته وحزبه، ولما علم به سعيد بن العاص أخرجه من الكوفة، فتوجه إلى مصر، فأقام فيها وعشش فيها وباض، وفرخ فيها وأفسد، واستمال أناسا هناك من الرعاع والبلهاء، ومن الحاقدين والموتورين، ومن العصاة والمذنبين. وكان ابن سبأ يرتب الاتصالات السرية بين مقره في مصر، وبين أتباعه في المدينة والبصرة والكوفة، ويتحرك رجاله بين هذه البلدان. واستمرت جهود ابن سبأ وأعوانه حوالي ست سنوات، حيث بدأوا أعمالهم الشيطانية سنة ثلاثين، ونجحوا في آخر سنة خمس وثلاثين في قتل الخليفة عثمان، واستمر إفسادهم طيلة خلافة علي ، وقرر (السبئيون) أن تكون بداية الفتنة في الكوفة. ثالثـًا: أهل الفتنة يفسدون في مجلس سعيد بن العاص: في يوم من أيام سنة ثلاث وثلاثين جلس سعيد بن العاص في مجلسه العام وحوله عامة الناس، وكانوا يتحدثون ويتناقشون فيما بينهم، فتسلل هؤلاء الخوارج من السبئيين إلى المجلس، وعملوا على إفساده، وعلى إشعال نار الفتنة. جرى كلام وحوار في المجلس بين سعيد بن العاص وبين أحد الحضور، وهو (خنيس ابن حُبيش الأسدي) واختلفا على أمر، وكان سبعة من الخوارج، أصحاب الفتنة جالسين: منهم جندب الأزدي، الذي قتل ابنه السارق بسبب تورطه في قضية قتل، ومنهم الأشتر النخعي، وابن الكواء، وصعصعة ابن صوحان، فاستغل أصحاب الفتنة المناسبة، وقاموا بضرب خنيس الأسدي في المجلس، ولما قام أبوه يساعده وينقذه ضربوه، وحاول سعيد منعهم من الضرب فلم يمتنعوا، وأغمى على الرجل وابنه من شدة الضرب، وجاء بنو أسد للأخذ بثأر أبنائهم، وكادت الحرب تقع بين الفريقين، ولكنَّ سعيدا تمكن من إصلاح الأمر، ولما علم عثمان بالحادثة طلب من سعيد بن العاص أن يعالج الموضوع بحكمة، وأن يضيق على الفتنة ما استطاع. ذهب الخوارج المفتونون إلى بيوتهم وصاروا ينشرون الإشاعات ويذيعون الافتراءات والأكاذيب ضد سعيد وضد عثمان، وضد أهل الكوفة ووجوهها، فاستاء أهل الكوفة منهم وطلبوا من سعيد أن يعاقبهم، فقال لهم سعيد: إن عثمان قد نهاني عن ذلك، فإذا أردتم ذلك فأخبروه، وكتب أشراف أهل الكوفة وصلحاؤهم إلى عثمان بشأن هؤلاء النفر، وطلبوا منه إخراجهم من الكوفة ونفيهم عنها، فهم مفسدون مخربون فيها، فأمر عثمان واليه سعيد بن العاص بإخراجهم من الكوفة، وكانوا بضعة عشر رجلا، وأرسلهم سعيد إلى معاوية في الشام بأمر عثمان، وكتب عثمان إلى معاوية بشأن هؤلاء فقال له: إن أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفرا خلقوا للفتنة، فَرُعْهم وأخفهم وأدبهم وأقم عليهم، فإن آنست منهم رشدا فاقبل منهم. ومن الذين تم نفيهم إلى الشام: الأشتر النخعي، وجندب الأزدي، وصعصعة بن صوحان، وكميل بن زياد، وعمير بن ضابئ، وابن الكواء. رابعًا: أهل الفتنة منفيون عند معاوية: لما قدموا على معاوية رحب بهم وأنزلهم كنيسة تسمى مريم، وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يجري عليهم بالعراق، وجعل لا يزال يتغدى ويتعشى معهم، فقال لهم يوما: إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة, وقد أدركتم بالإسلام شرفا وغلبتم الأمم، وحويتم مراتبهم ومواريثهم، وقد بلغني أنكم نقمتم قريشا، وإن قريشا لو لم تكن لعدتم أذلة كما كنت. كان عثمان يدرك أن معاوية للمعضلة، فله من فصاحته وبلاغته, وله من حلمه وصبره، وله من ذكائه ودهائه ما يواجه به الفتن، ومن أجل ذلك ما إن تقع المعضلة حتى يرسلها لابن أبي سفيان كي يحلها، وفعلا بذل معاوية ما بوسعه من أجل إقناع هؤلاء النفر؛ أكرمهم أولا، وخالطهم وجالسهم, وعرف سرائرهم من خلال هذه المجالس قبل أن يحكم عليهم بما نقلوا عنهم، وبعد أن أزال الوحشة عنهم وأزال الكلفة بينه وبينهم، لاحظ أن النعرة القبلية هي التي تحركهم، وأن شهوة الحكم والسلطة هي التي تثيرهم، فكان لا بد من أن يلج عليهم من زاويتين اثنتين: الأولى: أثر الإسلام في عزة العرب. الثانية: دور قريش في نشر الإسلام وتحمل أعبائه. فإن كان للإسلام أثر في تكوينهم فلا بد أن يرعووا لهذا الحديث، بعد هذا وضع أمامهم صورة لوضع العرب، وقد انقلبوا بالإسلام أمة واحدة تخضع لإمام واحد، وودعوا حياة الفوضى وسفك الدماء والقبلية المنتنة. ويتابع معاوية حديثه معهم فيقول: إن أئمتكم لكم إلى اليوم جُنَّة فلا تشذوا عن جنتكم، وإن أئمتكم اليوم يصبرون لكم على الجور، ويحتملون منكم المؤونة، والله لتنتهين أو ليبتلينكم الله بمن يسومكم، ثم لا يحمدكم على الصبر, ثم تكونون شركاءهم فيما جررتم على الرعية في حياتكم وبعد موتكم، فقال رجل من القوم: أما ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر العرب، ولا أمنعها في الجاهلية فتخوفنا، وأما ما ذكرت من الجُنة، فإن الجنة إذا اخترقت خلص إلينا، فقال معاوية: عرفتكم الآن، علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول، وأنت خطيب القوم ولا أرى لك عقلا، أعظم عليك أمر الإسلام، وأذكِّرك به، وتذكرني الجاهلية؟ وقد وعظتك وتزعم لما يُجِنك أنه يخترق، ولا ينسب ما يخترق إلى الجنة، أخزى الله أقواما أعظموا أمركم ورفعوا إلى خليفتكم. وعرف معاوية أن الإشارة العابرة لن تقنعهم، لا بد من شرح مسهب لواقع قريش أولا فقال: افقهوا ولا أظنكم تفقهون؛ إن قريش لم تعز في جاهلية ولا في إسلام إلا بالله عز وجل، لم تكن أكثر العرب ولا أشدهم، ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابا، وأمحضهم أنسابا، وأعظمهم أخطارا، وأكملهم مروءة، ولم يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم بعضا إلا بالله الذي لا يُسْتذل من أعز، ولا يوضع من رفع، هل تعرفون عربا أو عجما أو سودا أو حمرا إلا قد أصابه الدهر في بلده وحرمته بدولة, إلا ما كان من قريش؛ فإنه لم يردهم أحد بكيد إلا جعل الله خده الأسفل، حتى أراد الله أن ينتقذ من أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة فارتضى لذلك خير خلقه، ثم ارتضى له أصحابا فكان خيارهم قريشا, ثم بنى هذا الملك عليهم، وجعل هذه الخلافة فيهم، ولا يصلح ذلك إلا عليهم، فكان الله يحوطهم وهم على دينه، وقد حاطهم الله في الجاهلية من الملوك الذين كانوا يدينونكم؟ أفٍّ لك ولأصحابك، ولو أن متكلما غيرك تكلم، ولكنك ابتدأت، فأما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر قرى عربية، أنتنها نبتًا، وأعمقها واديًا، واعرفها بالشر، وألأمها جيرانا، لم يسكنها شريف قط ولا وضيع إلا سُبَّ بها، وكانت عليه هجنة، ثم كانوا أقبح العرب ألقابا وألأمهم أصهارا، نزَّاع الأمم، وأنتم جيران الخط وفعلة فارس، حتى أصابتكم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ونكبتكم دعوته, وأنت نزيع شطير في عمان لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم, فأنت شر قومك، حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس وحملك على الأمم التي كانت عليك، أقبلت تبغي دين الله عوجا، وتنزع إلى اللآمة والذلة ولا يضع ذلك قريشا، ولن يضرهم, ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم، إن الشيطان عنكم غير غافل، قد عرفكم بالشر من بين أمتكم، فأغرى بكم الناس، وهو صارعكم، لقد علم أنه لا يستطيع أن يرد بكم قضاء الله، ولا أمرا أراده الله، ولا تدركون بالشر أمرا إلا فتح الله عليكم شرا منه وأخزى، ثم قام وتركهم فتذامروا، فتقاصرت إليهم أنفسهم. وبذلك بذل معاوية كل طاقاته الفكرية والثقافية والسياسية لإقناعهم: * عرض لهم أولا أمر قريش في الجاهلية والإسلام. * تناول قبائل هؤلاء النفر ووضعها في الجاهلية؛ حيث كانت تعاني سوء المناخ ونتن المنبت من الناحية الطبيعية، ثم الذلة والتبعية لفارس من الناحية السياسية، إلى أن أكرمهم الله بالإسلام فعزت بعد ذلٍّ، وارتفعت بعد هوان. * تناول معاوية صعصعة بن صوحان خطيب القوم، وكيف تلكأ عن تلبية نداء الرسالة، وقد دخل قومه بها، ثم عاد وانضم إلى الإسلام، ورفعه الإسلام ثانية بعد انحدار. * كشف معاوية عن مخططات صعصعة وأصحابه، وكيف يبغون الفتنة، ويبغون دين الله عوجا. وإن الشيطان هو وكر هذه الفتنة, ومحرك هذا الشر، وبذلك ربط تاريخ الأمة بالله ثم بالإسلام والعقيدة، ثم كشف عن زيف هؤلاء النفر، وفضحهم عن آخرهم، وأبان عن مخططاتهم وصلتها بدعوى الجاهلية. * جلسة أخرى: ثم أتاهم القابلة فتحدث عندهم طويلا ثم قال: أيها القوم، ردوا عليَّ خيرا، أو اسكتوا وتفكروا، وانظروا فيما ينفعكم, وينفع أهليكم، وينفع عشائركم، وينفع جماعة المسلمين، فاطلبوه تعيشوا ونعش بكم. قال صعصعة: لست بأهل ذلك، ولا كرامة لك أن تطاع في معصية الله. قال معاوية: أو ليس ما ابتدأتكم به أن أمرتكم بتقوى الله، وطاعته, وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن تعتصموا بحبله جميعا ولا تفرقوا؟! قالوا: بل أمرت بالفرقة وخلاف ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إني آمركم الآن إن كنت فعلت فأتوب إلى الله وآمركم بتقواه وطاعته وطاعة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولزوم الجماعة وكراهة الفرقة، وأن توقروا أئمتكم، وتدلوهم على كل حسن ما قدرتم، وتعظوهم في لين ولطف في شيء إن كان منهم. قال صعصعة: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك، فإن من المسلمين من هو أحق به منك. قال معاوية: من هو؟ قالوا: من كان أبوه أحسن قدما من أبيك، وهو بنفسه أحسن قدما منك في الإسلام. قال معاوية: والله إن لي في الإسلام قدما، ولغيري كان أحسن قدما مني، ولكنه ليس في زماني أحد أقوى على ما أنا فيه مني، ولقد رأى ذلك عمر ابن الخطاب، فلو كان غيري أقوى مني لم يكن لي عند عمر هوادة ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث ما ينبغي لي أن أعتزل عملي، ولو رأى ذلك أمير المؤمنين وجماعة المسلمين لكتب بخط يده فاعتزلت عمله، ولو قضى الله أن يفعل ذلك لرجوت أن لا يعزم له على ذلك إلا هو خير. فمهلا فإن في ذلك وأشباهه ما يتمنى الشيطان ويأمر، ولعمري لو كانت الأمور تقضى على رأيكم وأمانيكم ما استقامت الأمور لأهل الإسلام يوما ولا ليلة، ولكن الله يقضيها ويدبرها وهو بالغ أمره، فعاودوا الخير وقولوه. قالوا: لست لذلك أهلا، قال معاوية: أما والله إن لله سطوات ونقمات، وإني لخائف عليكم أن تتابعوا في مطاوعة الشيطان حتى تُحلَّكم مطاوعة الشيطان ومعصية الرحمن دار الهوان من نقم الله في عاجل الأمر والخزي الدائم في الآجل، فوثبوا عليه فأخذوا بلحيته ورأسه فقال: مه، إن هذه ليست بأرض الكوفة، والله لو رأى أهل الشام ما صنعتم بي وأنا إمامهم ما ملكت أن أنهاهم عنكم حتى يقتلوكم، فلعمري إن صنيعكم ليشبه بعضه بعضا، ثم قام من عندهم فقال: والله لا أدخل عليكم مدخلا ما بقيت. هذه المحاولة الأخيرة التي بذل فيها معاوية أمير الشام كل جهده، واستعمل حلمه وثقافته وأعصابه كي يثنيهم عن الفتنة، إنه يدعوهم إلى تقوى الله وطاعته، والاستمساك بالجماعة والابتعاد عن الفرقة، وإذا بهم يرفعون عقيرتهم قائلين: ليس لك أن تطاع في معصية الله. وبحلمه الكبير، وصدره الواسع عاد فذكرهم بأنه لا يأمرهم إلا بطاعة الله، وعلى حد زعمهم فهو يتوب من المعصية إن وقعت، ثم يعود لدعوتهم إلى الطاعة والجماعة والابتعاد عن تفريق كلمة الأمة، ولو كان الوعظ يجدي معهم لأمكن أن تتأثر قلوبهم لهذه المعاملة، وهذا اللطف وهذا الحلم، لكنهم اعتبروا ذلك ضعفا وتهاونا منه؛ خاصة وهو يوجههم إلى أن يستعملوا الأسلوب الهادئ في العظة واللين في النصح، فوجدوا المجال رحبا أن يكشفوا عن مكنون قلوبهم. فقالوا: فإنا نأمرك أن تعتزل عملك؛ فإن بالمسلمين من هو أحق به منك، وانتبه معاوية انتباها مفاجئا إلى ما يكنُّون، فأحب أن يتعرف على جانب غامض عليه، لعل في هذا التعرف ما يوصله إلى من يحركهم، ويبث في ذهنهم الأراجيف المغرضة، ولكنهم أخفوا ما يكنون, واكتفوا بالإشارة إلى أنهم يحبون أن يدع العمل لمن هو أفضل منه، ولِمَنْ أَبُوه أفضل من أبيه، ثم تحلم عليهم أكثر فأكثر، رغم الأسلوب الفج الذي سلكوه معه، وهم يأمرونه بأن يعتزل العمل. وهنا نجد لمعاوية جوابا مستفيضا عن وجهة نظره في الحكم والإمارة والقيادة، وقد لخص معاوية إجابته في ست نقاط أساسية ومهمة: 1- هي أن له قدما وسابقة في الإسلام، فهو حامي ثغر الشام منذ وفاة أخيه يزيد بن أبي سفيان رضي الله عنهما. 2- إن هناك في المسلمين من هو أفضل منه وأكرم، وأحسن سابقة وأكثر بلاء، وهو يرى أنه أقوى من يحمي هذا الثغر الإسلامي العظيم (الشام)، فمنذ أن تولاه تمكن من ضبطه وسياسته، وفهم نفسيات أهله حتى أحبوه. 3- إن الميزان الحساس والمعيار الدقيق الذي يقيم الولاة هو عمر بن الخطاب t الذي لا تأخذه في الله لومة لائم، فلو وجد في معاوية شططا أو انحرافا أو ضعفا لعزله، ولما أبقى عليه يوما واحدا، فقد عمل له طيلة خلافته، كما ولاه من قبل رسوله الله صلى الله عليه وسلم على بعض عمله، واستخدمه كاتبا بين يديه، وولاه أبو بكر الصديق من بعده ولم يطعن في كفاءته أحد. 4- إن اعتزال العمل يجب أن يستند لأسباب موجبة للاعتزال، فما الحجة التي يقدمها دعاة الفتنة ليتم الاعتزال على أساسها؟ 5- إن الذي يقرر العزل عن العمل أو البقاء في الإمارة ليس هؤلاء الأدعياء، إن ذلك من حق أمير المؤمنين عثمان t، وهو الذي له الحق في تعيين الولاة وعزلهم. 6- إن أمير المؤمنين عثمان يوم يقرر عزل معاوية، فهو واثق أن أمره خير كله، ولا غضاضة في ذلك؛ فهو أمير مأمور وهو أمر خليفة المسلمين كان ختام الجلسة مؤسفا أشد الأسف, مؤلما أشد الألم، لقد حذرهم نقمة الله وغضبه، وحذرهم مهاوي الشيطان ومنزلقاته، وحذرهم فرقة الكلمة ومعصية الإمام، وحذرهم الانقياد إلى أهوائهم وغرورهم، فماذا كان منهم مقابل ذلك؟ وثبوا عليه وأخذوا برأسه ولحيته، وعندئذ زجرهم وقمعهم، ووجه لهم كلاما قاسيا مبطنا بالتهديد، وعرف أن هؤلاء يستحيل أن ينصاعوا للحق، فلا بد من إبلاغ أمرهم لأمير المؤمنين عثمان ، وكشف هوياتهم وخطرهم ليرى فيهم أمير المؤمنين رأيا آخر كتاب معاوية إلى عثمان -رضي الله عنهما- بشأن أهل الفتنة من الكوفة: كتب معاوية إلى عثمان -رضي الله عنهما- قائلا: بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عثمان أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان، أما بعد: يا أمير المؤمنين، فإنك بعثت إليَّ أقواما يتكلمون بألسنة الشياطين، وما يملون عليهم، ويأتون الناس - زعموا- من قبل القرآن فيشبهون على الناس، وليس كل الناس يعلم ما يريدون، وإنما يريدون فرقة، ويقربون فتنة، قد أثقلهم الإسلام وأضجرهم، وتمكنت رقى الشيطان من قلوبهم، فقد أفسدوا كثيرا من الناس ممن كانوا بين ظهرانيهم من أهل الكوفة، ولست آمن إن أقاموا وسط أهل الشام أن يغروهم بسحرهم وفجورهم, فارددهم إلى مصرهم، فلتكن دارهم في مصرهم الذي نجم فيه نفاقهم خامسًا: رجوع أهل الفتنة إلى الكوفة ثم نفيهم إلى الجزيرة: كتب عثمان إلى سعيد بن العاص، فردهم إليه، فلم يكونوا إلا أطلق ألسنة منهم حين رجعوا، وكتب سعيد إلى عثمان يضج منهم، فكتب عثمان إلى سعيد أن سيِّرهم إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد -وكان أميرا على حمص- فلما وصلوا إلى عبد الرحمن ابن خالد بن الوليد استدعاهم، وكلمهم كلاما شديدا، وكان مما قاله لهم: يا آلة الشيطان، لا مرحبا بكم ولا أهلا، لقد رجع الشيطان محسورا خائبا، وأنتم ما زلتم نشيطين في الباطل!! خسَّر الله عبد الرحمن إن لم يؤدبكم ويخزكم، يا معشر من لا أدري من أنتم: أعرب أم عجم، لن تقولوا لي كما كنتم تقولون لسعيد ومعاوية، أنا ابن خالد بن الوليد، أنا ابن من قد عجمته العاجمات، أنا ابن فاقئ الردة، والله لأذلنكم. وأقامهم عبد الرحمن بن خالد عنده شهرا كاملا، وعاملهم بمنتهى الحزم والشدة، ولم يلن معهم كما لان سعيد ومعاوية، وكان إذا مشى مشوا معه، وإذا ركب ركبوا معه, وإذا غزا غزوا معه، وكان لا يدع مناسبة إلا ويذلهم فيها، وكان إذا قابل زعيمهم (صعصة بن صوحان) يقول له: يا ابن الخطيئة، هل تعلم أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر، وأن من لم يصلحه اللين أصلحته الشدة، وكان يقول لهم: لماذا لا تردون عليَّ كما كنتم تردون على سعيد في الكوفة، وعلى معاوية بالشام؟ لماذا لا تخاطبوني كما كنتم تخاطبونهما؟ ونفع معهم أسلوب عبد الرحمن بن خالد، وأخرسهم حزمه وشدته وقسوته, وأظهروا له التوبة والندم، وقالوا له: نتوب إلى الله ونستغفره، أقلنا أقالك الله، وسامحنا سامحك الله. وبقى القوم في الجزيرة عند عبد الرحمن بن خالد, وأرسل عبد الرحمن أحد زعمائهم -وهو الأشتر النخعي- إلى عثمان ليخبره بتوبتهم وصلاحهم، وتراجعهم عما كانوا عليه من الفتنة، فقال عثمان للأشتر: احلل أنت ومن معك حيث شئتم فقد عفوت عنكم. قال الأشتر: نريد أن نبقى عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وذكر له من فضل عبد الرحمن وحزمه، فأقاما عند عبد الرحمن في الجزيرة مدة أظهروا فيها التوبة والاستقامة والصلا، وسكت أصحاب الفتنة في الكوفة إلى حين، وكان هذا في شهور سنة ثلاث وثلاثين، بعدما تم نفي رؤوس الفتنة إلى معاوية في الشام، ثم عبد الرحمن بن خالد، فرأى أصحاب الفتنة في الكوفة أن المصلحة تقتضي أن يسكنوا إلى حين. 1- أهل الفتنة بالبصرة يفترون على أشج عبد القيس: أما أهل الفتنة بالبصرة بزعامة حكيم بن جبلة فقد كانوا ضد أهل الفضل فيها, وتآمروا وكذبوا عليهم، وكان من أفضل وأتقى أهل البصرة (أشج عبد القيس) واسمه عامر بن عبد القيس، وكان زعيما لقومه، وقد وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلم منه، ومدحه رسول الله بقوله: «إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة». وكان عامر بن عبد القيس من قادة الجهاد في القادسية وغيرها، وكان مقيما في البصرة، وكان على قسط كبير من الصلاح والتقوى، فكذب الخارجون عليه، واتهموه بالباطل، فسيَّره عثمان إلى معاوية بالشام، ولما كلمه معاوية وعامله، وعرف براءته وصدقه، وكذب الخوارج وافتراءهم عليه، وكان الذي تولى الكذب على عامر بن عبد القيس هو (حمران بن أبان) وهو رجل عاص بدون دين؛ حيث تزوج امرأة في أثناء عدتها، ولما علم عثمان بذلك فرق بينهما، وضربه ونكل به لمعصيته، ونفاه إلى البصرة، وهناك التقى مع زعيم السبئيين فيها؛ اللص حكيم بن جبلة. 2- ابن سبأ يحدد سنة أربع وثلاثين للتحرك: وفي سنة أربع وثلاثين - السنة الحادية عشرة من خلافة عثمان - أحكم عبد الله بن سبأ اليهودي خطته، ورسم مؤامراته, ورتب مع جماعته السبئيين الخروج على الخليفة وولاته، فقد اتصل ابن سبأ اليهودي من وكر مؤامراته في مصر بالشياطين من حزبه في البصرة والكوفة والمدينة، واتفق معهم على تفاصيل الخروج، وكاتبهم وكاتبوه، وراسلهم وراسلوه، وكان ممن كاتبهم وراسلهم، السبئيون في الكوفة، وقد كان بضعة عشر رجلا منهم منفيين في الشام، ثم في الجزيرة عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وبعد نفي أولئك الخارجين كان زعيم السبئيين الحاقدين في الكوفة يزيد بن قيس، وقد خلت الكوفة في سنة أربع وثلاثين من وجوهها وأشرافها، لأنهم توجهوا للجهاد في سبيل الله، ولم يبق إلا الرعاع والغوغاء، الذي أثر فيهم السبئيون والمنحرفون وشحنوهم بأفكارهم الخبيثة، وهيَّجوهم ضد والي عثمان على الكوفة سعيد بن العاص. 3- أوضاع أهل الكوفة عند تحرك أهل الفتنة: قال الطبري عن أوضاع الكوفة سنة أربع وثلاثين: وفد سعيد بن العاص إلى عثمان في سنة إحدى عشرة من إمارة عثمان، وقد بعث سعيد قبل خروج الأشعث بن قيس إلى أذربيجان، وسعيد بن قيس إلى الري، والنسير العجلي إلى همذان، والسائب بن الأقرع إلى أصبهان، ومالك بن حبيب إلى ماه، وحكيم بن سلامة إلى الموصل، وجرير بن عبد الله إلى قرقيسيا، وسلمان بن ربيعة إلى الباب، وعتيبة بن النهاس إلى حلوان، وجعل على الحرب القعقاع بن عمرو التميمي، وكان نائبه بعد خروجه عمرو بن حريث، وبذلك خلت الكوفة من الوجوه والرؤساء، ولم يبق فيها إلا منزوع أو مفتون.وفي هذا الجو خرج زعيم السبئيين في الكوفة (يزيد بن قيس) بعد اتفاق مع شيطانه ابن سبأ في مصر، وخرج معه أهل الفتنة الذين انضموا إلى جمعية ابن سبأ السرية، والغوغاء الذين تأثروا بها. 4- القعقاع بن عمرو التميمي يقضي على التحرك الأول: خرج يزيد بن قيس في الكوفة، وهو يريد خلع عثمان، فدخل المسجد وجلس فيه, وتجمع عليه في المسجد السبئيون, الذين كان ابن السوداء يكاتبهم من مصر، ولما تجمع الخارجون في المسجد، علم بأمرهم القعقاع بن عمرو أمير الحرب، فألقى القبض عليهم، وأخذ زعيمهم يزيد بن قيس معه، ولما رأى يزيد شدة القعقاع ويقظته وبصيرته لم يجاهره بهدفهم وخطتهم في الخروج على الخليفة عثمان وخلعه، وأظهر له أن كل ما يريده هو وجماعته عزل الوالي سعيد بن العاص، والمطالبة بوال آخر مكانه، فاستجيب لطلبهم, ولذلك أطلق القعقاع سراح الجماعة لما سمع كلام يزيد، ثم قال ليزيد: لا تجلس لهذا الهدف في المسجد ولا يجتمع عليك أحد واجلس في بيتك، واطلب ما تريد من الخليفة وسيحقق لك ذلك. 5- يزيد بن قيس يكاتب أهل الفتنة عند عبد الرحمن بن خالد: جلس يزيد بن قيس في بيته، واضطر إلى تعديل خطته في الخروج والفتنة، واستأجر هذا السبئي (يزيد بن قيس) رجلا وأعطاه دراهم وبغلا، وأمره أن يذهب بسرعة وكتمان إلى السبئيين من أهل الكوفة الذين نفاهم عثمان بن عفان إلى الشام, ثم إلى الجزيرة، وهم مقيمون عند عبد الرحمن بن خالد بن الوليد هناك، وقد أظهروا له التوبة والندم، وقال يزيد لإخوانه الشياطين في كتابه: إذا وصلكم كتابي فلا تضعوه من أيديكم حتى تأتوا إليَّ، فقد راسلنا إخواننا في مصر -وهم السبئيون هناك- واتفقنا معهم على الخروج. ولما قرأ الأشتر كتاب يزيد خرج فورا للكوفة، ولحق به إخوانه الخارجون، وفقدهم عبد الرحمن بن خالد فلم يجدهم فأرسل جماعة في طلبهم فلم يدركوهم، واتصل يزيد بن قيس بجماعته مرة ثانية، واتصل جماعته بالرعاع والغوغاء في الكوفة، وتجمعوا في المسجد، ودخل عليهم الأشتر النخعي في المسجد وعمل على إثارتهم وتهييجهم ودفعهم للثورة والخروج، وكان مما قال لهم: لقد جئتكم من عند الخليفة عثمان، وتركت واليكم سعيد بن العاص عنده، وقد اتفق عثمان وسعيد على إنقاص عطائكم، وخفض أموالكم من مئتي درهم إلى مئة درهم. وقد كذب الأشتر فيما قال، ولم يتحدث عثمان وسعيد بذلك، ولكنه كيد السبئيين في نشر الأكاذيب والافتراءات لتهييج العامة، واستخف الأشتر بكلامه الناس في المسجد، وأثر في الرعاع والغوغاء وهيجهم، وكانت ضجة كبيرة في المسجد، وصار يكلمه عقلاء المسلمين من وجوههم وأشرافهم وصالحيهم وأتقيائهم؛ كأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن مسعود، والقعقاع بن عمرو، فلم يسمع لهم، ولم يستجب لهم. وصاح يزيد بن قيس في الغوغاء والرعاع داخل المسجد وخارجه، وقال: إني خارج إلى طرق المدينة لأمنع سعيد بن العاص من دخول الكوفة، ومن شاء أن يخرج معي لمنع سعيد من الدخول والمطالبة بوال مكانه فليفعل، فاستجاب لندائه السبئيون والرعاع، وخرج معه حوالي ألف منهم. 6- القعقاع بن عمرو يرى قتل قادة أهل الفتنة: ولما خرج السبئيون والغوغاء طلبا للفتنة والتمرد وإحداث القلاقل، بقى في المسجد وجوه المسلمين وأشرافهم وحلماؤهم، فصعد المنبر نائب الوالي عمرو بن حُريث وطالب المسلمين بالأخوة والوحدة ونهاهم عن التفرق والاختلاف والفتنة والخروج، ودعاهم إلى عدم الاستجابة للخارجين والمتمردين، فقال القعقاع بن عمرو: أترد السيل عن عبابه، فاردد الفرات عن أدراجه، هيهات، لا والله لا تُسَكِّن الغوغاء إلا المشرفية، ويوشك أن تُنْتَضَى ثم يعجِّون عجيج العتدان، ويتمنون ما هم فيه فلا يرده عليهم أبدا، فاصبر، فقال: أصبر, وتحول إلى منزله. 7- أهل الفتنة يمنعون سعيد بن العاص من دخول الكوفة: سار يزيد بن قيس ومعه الأشتر النخعي بالألف من الخارجين إلى مكان على طريق المدينة يسمى (الجَرَعة)، وبينما كانوا معسكرين في الجرعة، طلع عليهم سعيد بن العاص عائدا من عند عثمان، فقالوا له: عُد من حيث أتيت ولا حاجة لنا بك، ونحن نمنعك من دخول الكوفة، وأخبر عثمان أننا لا نريد واليا علينا، ونريد من عثمان أن يجعل أبا موسى الأشعري واليا مكانك، قال لهم سعيد: لماذا خرجتم ألفا لتقولوا لي هذا الكلام؟ كان يكفيكم أن تبعثوا رجلا إلى أمير المؤمنين بطلبكم، وأن توقفوا لي رجلا في الطريق ليخبرني بذلك، وهل يخرج ألف رجل لهم عقول لمواجهة رجل واحد؟ رأى سعيد بن العاص أن من الحكمة عدم مواجهتهم، وعدم تأجيج نار الفتنة، بل محاولة إخمادها، أو تأجيل اشتعالها على الأقل، وهذا رأي أبي موسى الأشعري، وعمرو بن حريث, والقعقاع بن عمرو في الكوفة. وعاد سعيد بن العاص إلى عثمان وأخبره خبر القوم الخوارج، قال له عثمان: ماذا يريدون؟ هل خلعوا يدا من طاعة؟ وهل خرجوا على الخليفة وأعلنوا عدم طاعتهم له؟ قال له سعيد: لا لقد أظهروا أنهم لا يريدونني واليا عليهم، ويريدون واليا آخر مكاني، قال له عثمان: من يريدون واليا؟ قال سعيد بن العاص: يريدون أبا موسى الأشعري، قال عثمان: قد عينا وأثبتنا أبا موسى واليا عليهم، والله لن نجعل لأحد عذرا، ولن نترك لأحد حجة، ولنصبرن عليهم كما هو مطلوب منا، حتى نعرف حقيقة ما يريدون. وكتب عثمان إلى أبي موسى بتعيينه واليا على الكوفة. وقبل وصول كتاب عثمان بتعيين أبي موسى واليا كان في مسجد الكوفة بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد حاولوا ضبط الأمور وتهدئة العامة، ولكنهم لم يتمكنوا من ذلك؛ لأن السبئيين والحاقدين سيطروا على الرعاع والغوغاء وهيجوهم، فلم يعودوا يسمعون صوت عقل أو منطق. وكان في مسجد الكوفة وقت التمرد والفتنة اثنان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هما: حذيفة بن اليمان، وأبو مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري، وكان أبو مسعود غاضبا لتمرد وثورة الرعاع وخروجهم إلى الجرعة، وعزلهم الوالي سعيد، وعصيانهم له، وهي أول مرة تحصل، بينما كان حذيفة بعيد النظر، يتعامل مع الحدث بموضوعية وتفكير. قال أبو مسعود لحذيفة: لن يعودوا من الجرعة سالمين، وسيرسل الخليفة جيشا لتأديبهم، وستسفك فيها دماء كثيرة، فرد عليه حذيفة قائلا: والله سيعودون إلى الكوفة، ولن يكون هناك اشتباك أو حرب ولن تسفك هناك دماء، وما أعلم من هذه الفتن شيئا، إلا وقد علمته من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حي؛ حيث أخبرنا عن هذه الفتن التي نراها اليوم قبل وفاته، ولقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرجل يصبح على الإسلام ثم يمسي وليس معه من الإسلام شيء، ثم يقاتل المسلمين، فيرتد وينكص قلبه ويقتله الله غدا، وسيكون هذا فيما بعد. لقد كان حذيفة بن اليمان متخصصا في علم الفتن، وتعامل مع فتن السبئيين في الكوفة وغيرها وفق ما سمعه وعلمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستحضر ما حفظه من تلك الأحاديث, ففهم حقيقة ما يجري حوله، ولم يستبعده ولم يستغربه وحاول الإصلاح ما أمكنه. 8- أبو موسى الأشعري يهدئ الأمور وينهى عن العصيان: قام أبو موسى الأشعري بتهدئة الأمور، ونهى الناس عن العصيان، وقال لهم: أيها الناس، لا تخرجوا في مثل هذه المخالفة، ولا تعودوا لمثل هذا العصيان، الزموا جماعتكم والطاعة، وإياكم والعجلة، اصبروا فكأنكم بأمير. فقالوا: فصلِّ بنا، قال: لا، إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان، قالوا: على السمع والطاعة لعثمان وما كانوا صادقين في ذلك، لكنهم كانوا يخفون أهدافهم الحقيقية عن الآخرين، وكان أبو موسى يصلي بالناس إلى أن جاءه كتاب عثمان بتعيينه واليا على الكوفة، ولما هدأت الأمور في الكوفة إلى حين - في سنة أربع وثلاثين - عاد حذيفة بن اليمان إلى أذربيجان والباب يقود جيوش الجهاد هناك، وعاد العمال والولاة إلى أعمالهم في مناطق فارس. 9- كتاب عثمان إلى الخارجين في الكوفة: كتب عثمان بن عفان إلى الخارجين من أهل الكوفة كتابا يبين فيه الحكمة من استجابته لطلبهم في عزل سعيد وتعيين أبي موسى بدله، وهي رسالة ذات دلالات هامة، وتبين طريقة عثمان في مواجهة هذه الفتن، ومحاولته تأجيل اشتعالها ما استطاع، مع علمه اليقيني أنها قادمة، وأنه عاجز عن مواجهتها، فهذا ما علمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال لهم عثمان في رسالته: أما بعد، فقد أمَّرت عليكم من اخترتم، وأعفيتكم من سعيد، والله لأفرشن لكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولأستصلحنكم بجهدي، واسألوني كل ما أحببتم مما لا يعصى الله فيه، فسأعطيه لكم، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه، أنزل فيه عند ما أحببتم حتى لا يكون لكم عليَّ حجة، وكتب بمثل ذلك في الأمصار. رضي الله عن أمير المؤمنين عثمان، ما أصلحه، وأوسع صدره، وكم ظلمه السبئيون والخارجون والحاقدون وكذبوا وافتروا عليه سياسة عثمان في التعامل مع الفتنة من خلال النصوص التاريخية في العديد من المصادر يتضح أن عثمان قد واجه الفتنة بعدد من الأساليب وهي: أولاً: رأي بعض الصحابة بأن يرسل عثمان لجان تفتيش وتحقيق: اهتز محمد بن مسلمة وطلحة بن عبيد الله وغيرهما لما سمعوا من الإشاعات التي بثها عبد الله بن سبأ في الأمصار، فدخلوا على أمير المؤمنين عثمان على عجل وقالوا: يا أمير المؤمنين، أيأتيك عن الناس الذي يأتينا؟ قال: لا والله، ما جاءني إلا السلامة. قالوا: فإنا قد أتانا، وأخبروه بما تناهى لسمعهم عن الفتنة التي تموج بها الأمصار الإسلامية، وعن الهجوم الشرس على ولاته في كل صقع، وقال: أنتم شركائي وشهود المؤمنين، فأشيروا عليَّ؟ قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إلى الأمصار حتى يرجعوا إليك بخبرهم، فقام عثمان بإجراء سديد عظيم، وتخير نفرا من الصحابة لا يختلف اثنان في صدقهم وتقواهم وورعهم، ونصحهم، اختار محمد بن مسلمة الذي كان عمر يأتمنه على محاسبة ولاته والتفتيش عليهم في الأقاليم، وأسامة بن زيد حِبّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حِبِّه، وأمير الجيش الذي أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بإنفاذه في آخر عهده بالدنيا، فقال: أنفذوا بعث أسامة. وعمار بن ياسر السبَّاق إلى الإسلام، والمجاهد العظيم، وعبد الله بن عمر، التقي الفقيه الورع. فأرسل محمد بن مسلمة إلى الكوفة، وأسامة إلى البصرة، وعمار إلى مصر، وابن عمر إلى الشام، وكانوا على رأس جماعة، فأرسلهم إلى تلك الأمصار الكبيرة، فمضوا جميعا إلى عملهم الشاق المضني الخطير العظيم، ثم عادوا جميعا عدا عمار بن ياسر الذي استبطأ في مصر ثم عاد، وقدموا بين يدي أمير المؤمنين ما شاهدوه وسمعوه وسألوا الناس عنه. وكان ما جاء به هؤلاء واحد في كل الأمصار، وقالوا: أيها الناس، ما أنكرنا شيئا، ولا أنكر المسلمون إلا أن أمراءهم يقسطون بينهم، ويقومون عليهم. وأما ما روي من اتهام عمار بن ياس بالتأليب على عثمان فإن أسانيد الروايات التي تتضمن هذه التهمة ضعيفة، لا تخلو من علة، كما أن في متونها نكارة. رجع مفتشو الأمصار، واتضح بأنه ليس هناك ما يوجب على الخليفة أن يعزل واحدا من ولاته، والناس في عافية وعدل وخير ورحمة واطمئنان، وأمير المؤمنين يعدل في القضية، ويقسم بالسوية، ويرعى حق الله وحق الرعية، وما يثار هو شكوك وأراجيف وأكاذيب يبثها الحاقدون في الظلمات لكي لا يعرف مصدرها، ولكن الخليفة البار الراشد العظيم لم يكتفِ بهذا، بل كتب إلى أهل الأمصار. ثانيًا: كتب إلى أهل الأمصار كتابا شاملا بمثابة إعلان عام لكل المسلمين: أما بعد: فإني آخذ العمال بموافاتي في كل موسم، وقد سلطت الأمة منذ وليت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يرفع على شيء ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته، وليس لي ولعيالي حق قبل الرعية إلا متروك لهم، وقد رفع إلىَّ أهل المدينة أن أقواما يشتمون، وآخرون يضربون، فيا من ضُرب سرا، وشُتم سرا، من ادعى شيئا من ذلك فليواف الموسم فليأخذ بحقه حيث كان، مني أو من عمالي، أو تصدقوا فإن الله يجزي المتصدقين، فلما قرئ في الأمصار أبكى الناس، ودعوا لعثمان، وقالوا: إن الأمة لتمخَّض بِشَرّ . فهل تريد الدنيا أن تسمع بحزم وعزم أعلى وأشمخ من هذا الحزم والعزم من رجل زادت سنه على اثنتين وثمانين سنة، وهو في هذه الفورة والقوة من المتابعة والتنقيب عن المظالم؟ أم هل يريد الناس أن يروا عدلا أرفع وأسمى من هذا العدل والإنصاف، حتى إن حق أمير المؤمنين الشخصي متروك لرعيته، ما دام حق الله قائما وحدوده مرعية؟ نعم عند عثمان، الذي لم يقف عند ذلك، ولم يكتفِ بأن أرسل أمناءه للتفتيش عن أحوال الناس، وكتابته من ثم إلى أهل الأمصار بأن يأتوا موسم الحج ليرفعوا شكاتهم -إن كانت لهم- أمام جموع الحجيج، ولم يكتف عثمان بذلك كله؛ بل بعث إلى عمال الأمصار أنفسهم ليواجهوا الناس عندما يرفعون مظالمهم -إن وجدت- ثم ليسألهم أمير المؤمنين عما يتناقله الناس، وليشيروا عليه بالرأي الناصح السديد الرشيد. ثالثـًا: مشورة عثمان لولاة الأمصار: بعث عثمان إلى ولاة الأمصار واستدعاهم على عجل؛ عبد الله بن عامر، ومعاوية ابن أبي سفيان، وعبد الله بن سعد، وأدخل معهم في المشورة سعيد بن العاص، وعمرو بن العاص -وهم من الولاة السابقين-، وكانت جلسة مغلقة وخطيرة جرت فيها الأبحاث التالية التي تقرر خطة العمل الجديدة على ضوء الأخبار المتناهية إلى المدينة عاصمة دولة الإسلام. قال عثمان: ويحكم ما هذه الشكاية؟ وما هذه الإذاعة؟ إني والله لخائف أن يكون مصدوقا عليكم وما يعصب هذا إلا بي، فقالوا له: ألم تبعث؟ ألم يرجع إليك الخبر عن القوم؟ ألم يرجعوا ولم يشافههم أحد بشيء؟ لا والله ما صدقوا ولا بروا، ولا نعلم لهذا الأمر أصلا، وما كنت لتأخذ به أحد فيضمنك على شيء، وما هي إلا إذاعة لا يحل الأخذ بها، ولا الانتهاء إليها. قال: فأشيروا عليَّ، فقال سعيد بن العاص: هذا أمر مصنوع يصنع في السر، فيلقى به غير ذي معرفة، فيخبر به فيتحدث به في مجالسهم، قال: فما دواء ذلك؟ قال: طلب هؤلاء القوم، ثم قتل هؤلاء الذين يخرج هذا من عندهم. وقال عبد الله بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم، فإنه خير من أن تدعهم. قال معاوية: قد وليتني فوليت قوما لا يأتيك عنهم إلا الخير، والرجلان أعلم بناحيتهما، قال: فما الرأي؟ قال: حسن الأدب، قال: فما ترى يا عمرو؟ قال: أرى أنك قد لنت لهم، وتراضيت عنهم، وزدتهم عما كان يصنع عمر، فأرى أن تلزم طريقة صاحبك فتشد في موضع الشدة, وتلين في موضع اللين، إن الشدة تنبغي لمن لا يألو الناس شرا، واللين لمن يخلف الناس بالنصح، وقد فرشتهما جميعا اللين. وقام عثمان فحمد الله وأثنى عليه وقال: كل ما أشرتم به عليَّ قد سمعت، ولكل أمر باب يؤتى منه، إن هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمة كائن، وإن بابه الذي يغلق عليه فيكفكف به اللين والمؤاتاة والمتابعة، إلا في حدود الله تعالى ذكره، التي لا يستطيع أحد أن يبادي بعيب أحدها، فإن سده شيء فرفق، فذاك والله ليفتحن، وليست لأحد علىَّ حجة حق، وقد علم الله أني لم آل الناس خيرا، ولا نفسي، ووالله إن رحى الفتنة لدائرة فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها، كفكفوا الناس، وهبوا لهم حقوقهم، واغتفروا لهم، وإذا تعوطيت حقوق الله فلا تُدْهنوا فيها. لقد خالف عثمان رأي أخيه عمرو باتباع الشدة، ولم يخالفه في اتباع سنة صاحبيه، فرحى الفتنة دائرة، ولا تعالج بالعنف؛ لأن العنف هو الذي يدير هذه الرحى، ولن يرضى أمير المؤمنين أن يكون صاحبها (فطوبى لعثمان إن مات ولم يحركها)، وكان واضحا صريحا فيما لا هوادة فيه وهي حدود الله، فلا مداهنة فيها وما غير ذلك؛ فالرفق أولى والمغفرة أفضل، ولا بد من تأدية الحقوق كلها. وقد جاءت روايات بسند فيه ضعيف ومجهولون تشوه العلاقة بين عمرو بن العاص وعثمان رضي الله عنهما، وساهمت روايات ساقطة في مسخ صورة عمرو بن العاص، وتحويل علاقته بعثمان إلى علاقة فاتك خطط لقتل أميره، ثم عاد بانتهازية ليطالب بدمه. وهذه الرواية ضعيفة ومرفوضة عند أهل التاريخ وأهل الحديث. وقد جاء في رواية بسند فيها ضعفاء ومجهولون أيضا بأن عمرو بن العاص قال: يا عثمان: إنك قد ركبت الناس بمثل بني أمية فقلت وقالوا, وزغت وزاغوا، فاعتدل أو اعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزما وامض قدما. وجاء في نفس الرواية أن عبد الله بن عامر قال: أرى لك أن تجمرهم في هذه البعوث حتى يهم كل رجل منهم قمل فروة رأسه ودبر دابته، وتشغلهم عن الإرجاف بك. إن عثمان t منع الولاة من التنكيل بمثيري الشغب (حبسهم أو قتلهم)، وقرر أن يعاملهم بالحسنى واللين, وطلب من عماله أن يعودوا إلى أعمالهم، وفق ما أعلنه لهم من أسلوب مواجهة الفتنة التي كان كل بصير يرى أنها قادمة. 1- اقتراحان لمعاوية يرفضهما عثمان رضي الله عنهما: قبل أن يتوجه معاوية بن أبي سفيان إلى الشام، أتى إلى عثمان وقال له: يا أمير المؤمنين, انطلق معي إلى الشام، قبل أن يهجم عليك من الأمور والأحداث ما لا قبل لك بها. قال عثمان: أنا لا أبيع جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء ولو كان فيه قطع خيط عنقي. قال له معاوية: إذن أبعث لك جيشا من أهل الشام، يقيم في المدينة، لمواجهة الأخطار المتوقعة ليدافع عنك وعن أهل المدينة، قال عثمان: لا، حتى لا أقتِّر على جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم الأرزاق بجند تساكنهم، ولا أضيق على أهل الهجرة والنصرة. قال له معاوية: يا أمير المؤمنين, والله لتغتالن أو لتغزين، قال عثمان: حسبي الله ونعم الوكيل. لكأنما معاوية كان يعلم أن وراء تلك الفتن والشائعات يدا خبيثة تخطط لهدف مرهوب ليس دونه ضرب الخليفة والخلافة، لكن عثمان الخليفة الراشد كان له رأي آخر، فهو يريد أن يسير مع هؤلاء لآخر الطريق حتى لا يترك لهم حجة عند الله وعند الناس، فيفضحهم في الدنيا والآخرة، وتلك مصابرة عظيمة من هذا الإمام العادل العظيم. 2- عثمان يخترق صفوف المتآمرين بعد مجيئهم للمدينة: كان أمير المؤمنين عثمان من اليقظة والوعي ما يجعله يحقق بقلم استخباراته مع هؤلاء المتآمرين، حيث بث في صفوفهم رجلين من المسلمين كانا قد عوقبا من الخليفة ليطمئن المتآمرون إليهم، فقد أرسل عثمان رجلين، مخزوميا وزهريا فقال: انظرا ما يريدون واعلما علمهم، وكانا مما نالهما من عثمان أدب فاصطبرا للحق ولم يضطغنا، فلما رأوهما باثوهما وأخبروهما بما يريدون، فقالا: من معكم على هذا من أهل المدينة، قالوا: ثلاثة نفر، فقالا: هل إلا؟ قالوا: لا، قالا: فكيف تريدون أن تصنعوا؟ وشرح هؤلاء القوم للرجلين أبعاد المؤامرة كاملة والخطة المقترحة، وقالوا: نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب الناس ثم نرجع إليهم فنزعم لهم أنا قررناه بها فلم يخرج ولم يتب، ثم نخرج كأنا حجاج حتى نقدم فنحيط به فنخلعه، فإن أبى قتلناه وكانت إياها، فرجعا إلى عثمان فضحك وقال: اللهم سلم هؤلاء فإنك إن لم تسلمهم شقوا. فأرسل إلى الكوفيين والبصريين ونادى: الصلاة جامعة، وهم عنده في أصل المنبر، فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحاطوا بهم، فحمد الله وأثنى عليه، وأخبرهم خبر القوم، وحقيقة ما يريدون من تأكيد الشبهات عليه تمهيدا للخروج عليه وخلعه أو قتله، وقام الرجلان اللذان حادثا السبئيين، فشهدا بما أخبروهما به، فقال المسلمون جميعا في داخل المسجد: اقتلهم يا أمير المؤمنين، لأنهم يريدون الخروج على أمير المؤمنين، وتفريق كلمة المسلمين. ورفض عثمان دعوة الصحابة لقتلهم؛ لأنهم مسلمون في الظاهر، من رعيته، ولا يرضى أن يقال: عثمان يقتل مسلمين مخالفين له، ولذلك رد عثمان بن عفان على تلك الدعوة قائلا: لا نقتلهم، بل نعفو ونصفح، ونبصرهم بجهدنا، ولا نقتل أحدا من المسلمين، إلا إذا ارتكب حدًّا يوجب القتل، أو أظهر ردة وكفرا رابعًا: إقامة الحجة على المتمردين: ثم دعا عثمان القوم السبئيين إلى عرض ما عندهم من شبهات وإظهار ما يرونه من أخطاء وتجاوزات ومخالفات وقع هو فيها، وكانت جلسة مصارحة ومكاشفة في المسجد على مرأى ومسمع من الصحابة والمسلمين، فتكلم السبئيون وعرضوا الأخطاء التي ارتكبها عثمان - على حد زعمهم-, وقام عثمان بالبيان والإيضاح وقدم حججه وأدلته فيما فعل، والمسلمون المنصفون يسمعون هذه المصارحة والمحاسبة والمكاشفة، وأورد عثمان ما أخذوه عليه، ثم بين حقيقة الأمر ودافع عن حسن فعله، وأشهد معه الصحابة الجالسين في المسجد. 1- قال: قالوا: إني أتممت الصلاة في السفر، وما أتمها قبلي رسول الله ولا أبو بكر ولا عمر، لقد أتممت الصلاة لما سافرت من المدينة إلى مكة، ومكة بلد فيها أهلي فأنا مقيم بين أهلي ولست مسافرا، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم. 2- وقالوا: إني حميت حمى، وضيَّقت على المسلمين، وجعلت أرضا واسعة خاصة لرعي إبلي، ولقد كان الحمى قبلي لإبل الصدقة والجهاد، حيث جعل الحمى كل من رسول الله وأبو بكر وعمر، وأنا زدت فيه لما كثرت إبل الصدقة والجهاد، ثم لم نمنع ماشية فقراء المسلمين من الرعي في ذلك الحمى، وما حميت لماشيتي، ولما وليت الخلافة كنت من أكثر المسلمين إبلا وغنما، وقد أنفقتها كلها، ومالي الآن ثاغية ولا راغية، ولم يبق لي إلا بعيران، خصصتهما لحجي، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم. 3- وقالوا: إني أبقيت نسخة واحدة من المصاحف، وحرقت ما سواها، وجمعت الناس على مصحف واحد، ألا إن القرآن كلام الله، من عند الله، وهو واحد، ولم أفعل سوى أن جمعت المسلمين على القرآن، ونهيتهم عن الاختلاف فيه، وأنا في فعلي هذا تابع لما فعله أبو بكر، لما جمع القرآن، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم. 4- وقالوا: إني رددت الحكم بن أبي العاص إلى المدينة، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نفاه إلى الطائف، إن الحكم بن العاص مكي، وليس مدنيا، وقد سيره رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الطائف، وأعاده الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكة بعدما رضي عنه، فالرسول صلى الله عليه وسلم سيره إلى الطائف، وهو الذي رده وأعاده، أكذلك؟ فقال الصحابة: اللهم نعم. 5- وقالوا: إني استعملت الأحداث ووليت الشباب صغار السن، ولم أولِّ إلا رجلا فاضلا محتملا مرضيا، وهؤلاء الناس أهل عملهم فسلوهم عنهم. ولقد ولى الذين من قبلي من هم أحدث منهم وأصغر منهم سنا، ولقد ولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد وهو أصغر ممن وليته، وقالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشد مما قالوا لي، أكذلك؟ قال الصحابة: اللهم نعم، إن هؤلاء الناس يعيبون للناس ما لا يفسرونه ولا يوضحونه. 6- وقالوا: إني أعطيت عبد الله بن سعد بن أبي السرح ما أفاء الله به، وإنما أعطيته خمس الخمس -وكان مئة ألف- لما فتح أفريقية، جزاء جهده، وقد قلت له: إن فتح الله عليك أفريقية فلك خمس الخمس من الغنيمة نفلا، وقد فعلها قبلي أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- ومع ذلك قال لي الجنود المجاهدون: إنا نكره أن تعطيه خمس الخمس ولا يحق لهم الاعتراض والرفض، فأخذت خمس الخمس من ابن سعد ورددته على الجنود، وبذلك لم يأخذ ابن سعد شيئا، أكذلك؟ قال الصحابة: اللهم نعم. 7- وقالوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي لأهل بيتي فإنه لم يحملني على أن أميل معهم إلى جور وظلم الآخرين، بل أحمل الحقوق عليهم وآخذ الحق منهم، وأما إعطاؤهم فإني أعطيهم من مالي الخاص، وليس من أموال المسلمين، لأني لا أستحل أموال المسلمين، ولا لأحد من الناس. ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي، وفني عمري، وجعلت مالي الذي لي لأهلي وأقاربي، قال الملحدون ما قالوا؟ وإني والله ما أخذت من مصر من أمصار المسلمين مالا ولا فضلا، ولقد رددت على تلك الأمصار الأموال، ولم يحضروا إلى المدينة إلا الأخماس من الغنائم، ولقد تولى المسلمون تقسيم تلك الأخماس، ووضعها في أهلها، ووالله ما أخذت من تلك الأخماس وغيرها فِلْسًا فما فوقه، وإنني لا آكل إلا من مالي، ولا أعطي أهلي إلا من مالي. 8- وقالوا: إني أعطيت الأرض المفتوحة لرجال معينين، وإن هذه الأرضين المفتوحة قد اشترك في فتحها المهاجرون والأنصار وغيرهم من المجاهدين، ولما قسمت هذه الأراضي على المجاهدين الفاتحين، منهم من أقام بها واستقر فيها، ومنهم من رجع إلى أهله في المدينة أو غيرها، وبقيت تلك الأرض ملكا له، وقد باع بعضهم تلك الأراضي، وكان ثمنها في أيديهم. وبذلك أورد عثمان أهم الاعتراضات التي أثيرت عليه، وتولي توضيحها، وبيان وجه الحق فيها. وترى من ذلك الدفاع المحكم الذي دافع به عثمان بن عفان, وساجل الصحابة فيه وذاكرهم إياه صورة لما كان يجري من النقد المر العنيف له وما كان يشيعه السبئيون من قالة السوء، وما يعملون على ترويجه من باطل مزيف، فقد أجمل ذكر الاعتراضات التي كانوا يعترضون بها عليه، وبيَّن وجه الحق فيما يفعل، وأنه كان على بينة من أمره وعلى حجة من دينه، ولكنهم مغرضون لا يريدون رشادا، ولا يبغون سدادا، فمجادلته لهم مجادلة رجل مخلص مع آخر يتربص به الدوائر ويتسقط هفواته لينفذ أغراضا, ويلقى في نفوس الناس عنه إعراضا، ومن كان شأنه كذلك لا تقنعه الحجة، ولا يهديه الدليل، ومن يضلل الله فلا هادي له. وقد سمع كلامه وتوضيحه زعماء أهل الفتنة الذين بجانب المنبر، كما سمعه الصحابة الكرام ومن معهم من المسلمين الصالحين، وتأثر المسلمون بكلام عثمان وبيانه وتوضيحه وصدقوه فيما قال، وازدادوا له حبًّا، وأما السبئيون دعاة الفتنة والفرقة، فلم يتأثروا بذلك ولم يتراجعوا؛ لأنهم لم يكونوا باحثين عن حق، ولا راغبين في خير، إنما كان هدفهم الفتنة، والكيد للإسلام والمسلمين. وقد أشار الصحابة والمسلمون على عثمان بقتل أولئك السبئيين (زعماء الفتنة) بسبب ما ظهر من كذبهم وتزويرهم، وحقدهم بل أصروا عليه في قتلهم، ليتخلص المسلمون من شرهم، وتستقر بلاد المسلمين ويقضي على الفتنة التي يثيرها هؤلاء وأتباعهم، ولكن عثمان كان له رأي آخر وتحليل مغاير، فآثر أن يتركهم، ورأي عدم قتلهم محاولة منه لتأخير وقوع الفتنة، ولم يتخذ عثمان ضد السبئيين القادمين من مصر والكوفة والبصرة أي إجراء مع علمه بما يخططون ويريدون، وتركهم يغادرون المدينة ويعودون إلى بلادهم. خامسًا: الاستجابة لبعض مطالبهم: استجاب لبعض مطالبهم في خلع بعض الولاة وتولية من طلبوا توليته، هذه الأساليب كافية في المعالجة وإقامة الحق والعدل لو كانت الأمور تسير في وضعها الطبيعي، لكن الواقع أن وراء هذه الشكاوى والإثارات أمورًا خفية، وأحقادا جاهلية تسعى لإثارة الفتنة بين المسلمين وتفريق وحدتهم، ووقوع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من استشهاد عثمان سادسًا: ضوابط التعامل مع الفتن عند عثمان : إن المتأمل في هدي عثمان في تعامله مع الفتنة التي وقعت في عهده يمكنه أن يستنبط بعض الضوابط التي تعين المسلم في مواجهته للفتن، ومن هذه الضوابط: 1- التثبت:فقد أرسل لجان تفتيش للأمصار واستمع لأهلها، واستطاع أن يخترق جماعة السبئيين ويقف على حقيقة أمرهم، ولم يستعجل في إصداره للأحكام عليهم. 2- لزوم العدل والإنصاف:فقد اتضح هذا الضابط في كتابه للأمصار، وطلب ممن ادعى أنه شتم أو ضرب من الولاة فليواف الموسم فليأخذ بحقه حيث كان منه أو من عماله. 3- الحلم والأناة:ويتضح هذا الضابط في كتابه لأهل الكوفة عندما طلبوا عزل سعيد بن العاص وتعيين أبا موسى الأشعري وقد جاء في هذا الكتاب: «.. والله لأفرشنكم عرضي، ولأبذلن لكم صبري، ولاستصلحنَّكم بجهدي، فلا تدعوا شيئا أحببتموه لا يعصى الله فيه إلا سألتموه، ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا استعفيتم منه». 4- الحرص على ما يجمِّع، ونبذ ما يفرق بين المسلمين: ولذلك جمع الناس على مصحف واحد كما مر معنا، وعندما عرض عليه الأشتر النخعي عروضا ثلاثة -يأتي تفصيلها بإذن الله- قال عثمان: «... وإن قتلتموني فلم أرتكب ما يوجب قتلي، والله لئن قتلتموني فإنكم لا تتحابون بعدي أبدا، ولا تصلون جميعا بعدي أبدا، ولا تقاتلون العدو جميعا بعدي». 5- لزوم الصمت والحذر من كثرة الكلام: من خلال سيرة عثمان تتضح صفة قلة كلامه إلا فيما ينفع من علم أو نصح أو توجيه أو رد اتهامات باطلة، وقد كان كثير الصمت قليل الكلام. 6- استشارة العلماء الربانيين:فقد كان يستشير علماء الصحابة كعلي، وطلحة، والزبير، ومحمد بن مسلمة، وابن عمر، وعبد الله بن سلام رضي الله عنهم جميعا، فالعلماء هم صمام الأمان، والملجأ في الخطوب المدلهمة والفتن المظلمة؛ لأنهم أبصر الناس بحالها، وأعرفهم بمآلها، فمن التجأ إليهم وجد الفهم السليم والنظر الصحيح، والموقف الشرعي الواضح. 7- الاسترشاد بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتن: إن منهج عثمان أثناء الفتنة ومسلكه مع المتمردين الذين خرجوا عليه لم تفرضه عليه مجريات الأحداث ولا ضغط الواقع؛ بل كان منهجا نابعا من مشكاة النبوة؛ حيث أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصبر والاحتساب وعدم القتال حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا، وقد وفَّى ذو النورين بوعده وعهده لرسول الله صلى الله عليه وسلم طوال أيام خلافته حتى خر شهيدا مضرجًا بدمائه الطاهرة الزكية وقد قال محب الدين الخطيب: الذي يدل عليه مجموع الأخبار عن موقف عثمان من أمر الدفاع عنه أو الاستسلام للأقدار، هو أنه كان يكره الفتنة، ويتقي الله في دماء المسلمين، إلا أنه صار في آخر الأمر يود لو كانت لديه قوة راجحة يهابها البغاة، فيرتدعون عن بغيهم، بلا حاجة إلى استعمال السلاح للوصول إلى هذه النتيجة، وقبل أن تبلغ الأمور مبلغها عرض عليه معاوية أن يرسل إليه قوة من جند الشام تكون رهن إشارته فأبى أن يضيق على أهل دار الهجرة بجند يساكنهم، وكان لا يظن أن الجرأة تبلغ بفريق من إخوانه المسلمين إلى أن يتكالبوا على دم أول مهاجر إلى الله في سبيل دينه، فلما تذاءب عليه البغاة واعتقد أن الدفاع عنه تسفك فيه الدماء جزافا، عزم على كل من له عليهم سمع وطاعة أن يكفوا أيديهم وأسلحتهم عن مزالق العنف. والأخبار بذلك مستفيضة في مصادر أوليائه وشانئيه، على أنه لو ظهرت في الميدان قوة منظمة ذات هيبة تقف في وجوه الثوار، وتضع حدا لغطرستهم وجاهليتهم، لارتاح عثمان لذلك وسر به، مع ما هو مطمئن إليه من أنه لن يموت إلا شهيدا * * * يتبـعـ ...
|
|
02-08-2013, 06:38 AM | #16 |
|
رد: حيــــــــــــ ذى(عثمـــــان بن عفـــــان) النــورين ــــــــــــاة
مقتله :
قتل عثمان بن عفان من طرف أهل الفتنة في السنة 35 للهجرة فسقطت أول قطرة من دمه على قول الله تعالى (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ). وكان سنه عند قتله اثنتان و ثمانون عاما. ودفن باالبقيع. كان مقتله مقدمة لأحداث عظام في تاريخ المسلمين مثل حرب الجمل و موقعة صفين.أقوال الرسول صلى الله عليه و سلم في مقتل عثمان عن ابن عمر قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه و سلم فتنة، فمر رجل، فقال: يقتل فيها هذا المقنع يومئذ مظلوما، قال: فنظرت، فإذا هو عثمان بن عفان . عن كعب بن عجرة، قال: ذكر فتنة، فقربها فمر رجل مقنع رأسه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: هذا يومئذ على الهدى ، فوثبت فأخذت بضبعي عثمان، ثم استقبلت رسول الله فقلت: هذا؟ قال: هذا عن مرة البهزي قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه و سلم و قال -بهز من رواة الحديث- قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: 'تهيج فتنة كالصياصي، فهذا و من معه على الحق'. قال: فذهبت فأخذت بمجامع ثوبه، فإذا هو عثمان بن عفان . عن أبي الأشعث قال: قامت خطبة بإيلياء في إمارة معاوية فتكلموا، و كان آخر من تكلم مرة بن كعب فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه و سلم ما قمت، سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يذكر فتنة فقربها فمر رجل مقنع فقال: هذا يومئذ و أصحابه على الحق و الهدى، فقلت هذا يا رسول الله ؟ و أقبلت بوجهه إليه فقال: هذا، فإذا هو عثمان . ان عثمان بن عفان أشد حياءً منه حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم يستحي من ويقول"ألا تستحي من رجل تستحي منه الملائكة" * * * موقف الصحابة من مقتل عثمان رضي الله عنهم شوهت بعض كتب التاريخ مواقف الصحابة من فتنة مقتل عثمان، وذلك بسبب الروايات الرافضية التي ذكرها كثير من المؤرخين، فالمتتبع لأحداث الفتنة في تاريخ الإمام الطبري، وكتب التاريخ الأخرى من خلال روايات أبي مخنف، والواقدي وابن أعثم، وغيرهم من الإخباريين يشعر أن الصحابة هم الذين كانوا يحركون المؤامرة ويثيرون الفتنة، فأبو مخنف ذو الميول الشيعية لا يتورع في اتهام عثمان بأنه الخليفة الذي كثرت سقطاته فاستحق ما استحقه، ويظهر طلحة في مروياته كواحد من الثائرين على عثمان والمؤلبين ضده. ولا تختلف روايات الواقدي عن روايات أبي مخنف؛ فعمرو بن العاص يقدم المدينة ويأخذ في الطعن على عثمان، وقد كثرت الروايات الرافضية التي تتهم الصحابة بالتآمر ضد عثمان , وأنهم هم الذين حركوا الفتنة وأثاروا الناس، وهذا كله كذب وزور. وخلافا للروايات الرافضية والموضوعة والضعيفة، فقد حفظت لنا كتب المحدثين -بحمد الله- الروايات الصحيحة التي يظهر فيها الصحابة من المؤازرين لعثمان والمنافحين عنه، المتبرئين من قتله، والمطالبين بدمه بعد مقتله، وبذلك يستبعد أي اشتراك لهم في تحريك الفتنة أو إثارتها. إن الصحابة جميعا -رضي الله عنهم- أبرياء من دم عثمان ، ومن قال خلاف ذلك فكلامه باطل لا يستطيع أن يقيم عليه أي دليل ينهض إلى مرتبة الصحة، ولذلك أخرج خليفة في تاريخه عن عبد الأعلى بن الهيثم، عن أبيه قال: قلت للحسن: أكان فيمن قتل عثمان أحد من المهاجرين والأنصار؟ قال: لا، كانوا أعلاجا من أهل مصر. وقال الإمام النووي: ولم يشارك في قتله أحد من الصحابة، وإنما قتله همج ورعاع من غوغاء القبائل سفلة الأطراف والأراذل، تحزبوا وقصدوه من مصر، فعجز الصحابة الحاضرون عن دفعهم فحصروه حتى قتلوه . وقد وصفهم الزبير بأنهم غوغاء من الأمصار، ووصفتهم السيدة عائشة بأنهم نُزَّاع القبائل. ووصفهم ابن سعد بأنهم حثالة الناس متفقون على الشر. ووصفهم ابن تيمية بأنهم خوارج مفسدون وضالون باغون معتدون. ووصفهم الذهبي بأنهم رؤوس شر وجفاء. ووصفهم ابن العماد الحنبلي في الشذرات بأنهم أراذل من أوباش القبائل. ويشهد على هذا الوصف تصرف هؤلاء الرعاع منذ الحصار إلى قتل الخليفة ظلما وعدوانا، فكيف يمنع الماء عنه والطعام وهو الذي طالما دفع من ماله الخاص ما يروي ظمأ المسلمين بالمجان، وهو الذي ساهم بأموال كثيرة عندما يلم بالناس مجاعة أو مكروه، وهو الدائم العطاء عندما يصيب الناس ضائقة أو شدة من الشدائد؟حتى إن عليا يصف هذا الحال وهو يؤنب المحاصرين بقوله: يا أيها الناس، إن الذي تفعلونه لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين، فلا تمنعوا عن هذا الرجل الماء ولا المادة (الطعام)؛ فإن الروم وفارس لتأسر وتطعم وتسقي. لقد صحت الأخبار وأكدت حوادث التاريخ على براءة الصحابة من التحريض على عثمان أو المشاركة في الفتنة ضده. وإليك أقوال الصحابة في البراءة من دم عثمان: أولاً: ثناء أهل البيت على عثمان وبراءتهم من دمه: 1- موقف السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها: أ- عن فاطمة بنت عبد الرحمن اليشكرية عن أمها، أنها سألت عائشة: وأرسلها عمها فقال: إن أحد بنيك يقرئك السلام ويسألك عن عثمان بن عفان، فإن الناس قد أكثروا فيه، فقالت: لعن الله من لعنه، فوالله لقد كان قاعدا عند نبي الله، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسند ظهره إليَّ، وإن جبريل -عليه السلام- ليوحي إليه القرآن وإنه ليقول: «اكتب عثمان»، فما كان الله لينزل تلك المنزلة إلا كريما على الله ورسوله. ب- وعن مسروق، عن عائشة قالت حين قتل عثمان: تركتموه كالثوب النقي من الدنس، ثم قربتموه تذبحونه كما يذبح الكبش، فقال لها مسروق: هذا عملك، أنت كتبت إلى الناس تأمرينهم بالخروج إليه، قالت عائشة: لا والذي آمن به المؤمنون وكفر به الكافرون، ما كتبت إليهم بسوداء في بيضاء حتى جلست مجلسي هذا. وقد مر معنا كذب السبئيين، وأنهم كتبوا رسائل لأهل الأمصار ونسبوها كذبا وزورا للسيدة عائشة رضي الله عنها. ج- ولما سمعت بموت عثمان في طريق عودتها من مكة إلى المدينة رجعت إلى مكة ودخلت المسجد الحرام، وقصدت الْحِجْر فتسترت فيه، واجتمع الناس إليها فقالت: أيها الناس، إن الغوغاء من أهل الأمصار، وأهل المياه وعبيد أهل المدينة اجتمعوا أن عاب الغوغاء على هذا المقتول بالأمس الإرب، واستعمال من حدثت سنه، وقد استعمل أسنانهم قبله، ومواضع من الحمى حماها لهم، وهي أمور قد سبق بها لا يصلح غيرها، فتابعهم ونزع لهم عنها استصلاحا لهم، فلما لم يجدوا حجة ولا غدرا خلجوا, وبادروا بالعدوان، ونبا فعلهم عن قولهم، فسفكوا الدم الحرام، واستحلوا البلد الحرام، وأخذوا المال الحرام، واستحلوا الشهر الحرام، والله لإصبع عثمان خير من طباق الأرض أمثالهم، فنجاة من اجتماعكم عليه حتى يَنْكل بهم غيرهم، ويشرد من بعدهم، ووالله لو أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه، أو الثوب من دَرَنه إذ ماصوه كما يماص الثوب بالماء. وعلى العكس من الصورة الطيبة التي نفهمها من الروايات السابقة الموثوقة للعلاقة بين أم المؤمنين عائشة وعثمان، فإنه تبقى عند الطبري وغيره روايات أخرى صورت العلاقة بين عائشة وعثمان على صورة متناقضة تماما لما انتهينا إليه، وشوهت الدور الرائع الناصع الواعي الذي قامت به رضي الله عنها، دفاعا عن حرمات الله عز وجل، ودفعا عن عثمان ، وفهما لألاعيب السبئية. إن الروايات التي جاءت في العقد الفريد, وفي الأغاني, وتاريخ اليعقوبي, وتاريخ المسعودي، وأنساب الأشراف، وما انتهت إليه من استدلالات في شأن الدور السياسي للسيدة عائشة -رضي الله عنها- في حياة عثمان بن عفان ، إن جميع ما تؤدي إليه استدلالات تدين الموقف السياسي للسيدة عائشة -رضي الله عنها- لا يعتد بها لمخالفتها للروايات الصحيحة، وقيامها على روايات واهية؛ فأغلبها روايات غير مسندة، والمسند مجروح الإسناد لا يحتج بروايته، هذا إلى فساد متونها إذا ما قورنت بالروايات الأخرى الأكثر صحة وقربا بالحقيقة. وقد قامت السيدة أسماء محمد أحمد زيادة بدراسة الأسانيد والمتون للروايات التي تحدثت عن الدور السياسي للسيدة عائشة في أحداث الفتنة، ونقدت الروايات القائلة بالخلاف السياسي بين عائشة وعثمان عند الطبري وغيره وبينت زيفها وكذبها، ثم قالت: وكان الأحرى بنا أن نعرض عن ذكرها جميعا -كما ذكرت آنفا- لعدم وصولها إلينا عن طريق معتمد، بل الطرق التي وصلت منها رُمى أصحابها بالتشيع والكذب والرفض لكننا عرضنا لها لشيوعها في أغلب الدراسات الحديثة، وللتدليل على سقوطها، فهي روايات -كما اتضح لنا- حاولت خلق تاريخ لا وجود له أصلا من الخلاف، والتنكر بين عثمان وعائشة وبين عثمان والصحابة جميعا. ولو صح أن عائشة اتفقت مع المتمردين على التحريض على عثمان لكان من المتوقع أن يكون عندها نوع من التماس العذر لهؤلاء المتمردين، لكن لم يصح عنها -رضي الله عنها- شيء من هذا، وإنه لو صح شيء من هذه الروايات في وصف موقف السيدة عائشة -رضي الله عنها- من مقتل عثمان فهي روايات كفيلة بإسقاط العدالة عن عائشة رضي الله عنها، وعن الصحابة الذين اشتركوا معها، وهو ما لا نقبل به للخبر الصادق عن الله ورسوله في تقرير عدالتهم التي كانت كافية لدحض هذه الروايات، لكننا توقفنا أمام الروايات تأكيدا منا على سقوط هذه الرواية ومن بعدها الاستدلالات القائمة عليها، حتى تجتمع الأدلة الدينية والعلمية والتاريخية في صعيد واحد يؤكد بعضها بعضا 2- علي بن أبي طالب : كان علي وآل البيت يجلونه ويعترفون بحقه فكان: أ- أول من بايعه بعد عبد الرحمن بن عوف علي بن أبي طالب وعن قيس بن عباد قال: سمعت عليا وذكر عثمان فقال: هو رجل قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة» . ب- وقد شهد له بالجنة، فعن النزال بن سبرة قال: سألت عليا عن عثمان فقال: ذاك امرؤ يدعى في الملأ الأعلى ذا النورين، كان ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابنتيه, ضُمن له بيت في الجنة. ج- وكان طائعا معترفا بإمامته وخلافته، لا يعصي له أمرا؛ فقد روى ابن أبي شيبة بإسناده عن ابن الحنفية عن علي: قال لو سيرني عثمان إلى صرار لسمعت وأطعت. والصرار: هو الخيط الذي تشد به التوادي على أطراف الناقة لئلا يرضعها ولدها، وفيه دليل على مدى اتباعه وطاعته لعثمان رضي الله عنهما. د- ولما جمع عثمان الناس على قراءة واحدة بعد استشارة الصحابة رضوان الله عليهم وإجماعهم على ذلك، قال علي : لو وليت الذي ولى، لصنعت مثل الذي صنع. هـ- ولقد أنكر علي قتل عثمان وتبرأ من دمه، وكان يقسم على ذلك في خطبه وغيرها أنه لم يقتله، ولا أمر بقتله، ولا مالأ ولا رضي، وقد ثبت ذلك عنه بطرق تفيد القطع, خلافا لما تزعمه الرافضة من أنه كان راضيا بقتل عثمان رضي الله عنهما. وقال الحاكم بعد ذكر بعض الأخبار الواردة في مقتله : فأما الذي ادعته المبتدعة من معونة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فإنه كذب وزور، فقد تواترت الأخبار بخلافه. وقال ابن تيمية: وهذا كله كذب على عليٍّ وافتراء عليه، فعلي لم يشارك في دم عثمان، ولا أمر ولا رضي، وقد روى عنه ذلك وهو الصادق البار. وقد قال علي : اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان. وروى الحاكم بإسناده عن قيس بن عباد قال: سمعت عليا يوم الجمل يقول: اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان، ولقد طاش عقلي يوم قتل عثمان، وأنكرت نفسي وجاءوني للبيعة، فقلت: والله إني لأستحي من الله أن أبايع قوما قتلوا رجلا قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أستحي ممن تستحي منه الملائكة»، وإني لأستحي من الله أن أبايع وعثمان قتيل على الأرض لم يدفن بعد، فانصرفوا, فلما دفن رجع الناس، فسألوني البيعة، فقلت: اللهم إني مشفق مما أقدم عليه، ثم جاءت عزيمة فبايعت فلقد قالوا: يا أمير المؤمنين، فكأنما صدع قلبي، وقلت: اللهم خذ مني لعثمان حتى ترضى.وروى الإمام أحمد بسنده عن محمد بن الحنفية قال: بلغ عليا أن عائشة تلعن قتلة عثمان في المربد قال: فرفع يده حتى بلغ بهما وجهه، فقال: وأنا ألعن قتلة عثمان، لعنهم الله في السهل والجبل، قال مرتين أو ثلاثا وروى ابن سعد بسنده عن ابن عباس أن عليا قال: والله ما قتلت عثمان ولا أمرت بقتله، ولكني نهيت، والله ما قتلت عثمان ولا أمرت ولكني غلبت، قالها ثلاثا. وجاء عنه أيضا أنه قال t: من تبرأ من دين عثمان فقد تبرأ من الإيمان، والله ما أعنت على قتله ولا أمرت ولا رضيت. و- وقال علي عن عثمان : «... كان أوصلنا للرحم، وأتقانا للرب تعالى». ز- وعن أبي عون قال: سمعت محمد بن حاطب قال: سألت عليا عن عثمان فقال: هو من الذين آمنوا ثم اتقوا ثم آمنوا ثم اتقوا. ولم يختم الآية. ح- عن عميرة بن سعد قال: كنا مع عليٍّ على شاطئ الفرات، فمرت سفينة مرفوع شراعها فقال علي: يقول الله عز وجل: "وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأعْلاَمِ" [الرحمن: 24] والذي أنشأها في بحر من بحاره ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله. ط- وروى الإمام أحمد في مسنده، عن محمد بن حاطب قال: سمعت عليا يقول: "إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ" [الأنبياء: 101] منهم عثمان، وقال علي : إنما وهنت يوم قتل عثمان. وقد اعتنى الحافظ ابن عساكر بجمع الطرق الواردة عن علي أنه تبرأ من دم عثمان، وكان يقسم على ذلك في خطبه وغيرها، أنه لم يقتله ولا رضي بذلك، ثبت ذلك عنه من طرق تفيد القطع عند كثير من أئمة الحديث. 3- عبد الله بن عباس : روى الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس أنه قال: لو اجتمع الناس على قتل عثمان لرموا بالحجارة كما رمى قوم لوط. وقال في مدح عثمان وذم من ينتقصه: رحم الله أبا عمرو، كان والله أكرم الحفدة وأفضل البررة، هجَّادا بالأسحار، كثير الدموع عند ذكر النار، نهَّاضا عند كل مكرمة، سبَّاقا إلى كل محنة، حبيبًا أبيًّا وفيًّا، صاحب جيش العسرة، ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعقب الله على من يلعنه لعنة اللاعنين إلى يوم الدين. 4- زيد بن علي رحمه الله: روى ابن عساكر بإسناده إلى السدي قال: أتيته -أي زيد- وهو في بارق حي من أحياء الكوفة، فقلت له: أنتم سادتنا وأنتم ولاة أمورنا، فما تقول في أبي بكر وعمر؟ فقال: تولهما، وكان يقول البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان البراءة من علي، والبراءة من علي البراءة من أبي بكر وعمر وعثمان 5- علي بن الحسين رحمه الله: وقد ثبت عن علي بن الحسين البراءة من قول الرافضة في أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فقد روى أبو نعيم بسنده عن محمد بن علي عن أبيه علي بن الحسين أنه قال: جلس قوم من أهل العراق فذكروا أبا بكر وعمر، فنالوا منهما، ثم ابتدأوا في عثمان فقال لهم: أخبروني أأنتم من المهاجرين الأولين "الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ"؟ [الحشر: 8] قالوا: لا، قال: فأنتم من الذين "تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ"؟ [الحشر: 9] قالوا: لا، فقال لهم: أما أنتم فقد أقررتم وشهدتهم على أنفسكم أنكم لستم من هؤلاء ولا من هؤلاء، وأنا أشهد أنكم لستم من الفرقة الثالثة الذين قال الله -عز وجل- فيهم: "وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا" [الحشر: 10], فقوموا عني، لا بارك الله فيكم، ولا قرب دوركم، أنتم مستهزئون بالإسلام، ولستم من أهله ثانيًا: موقف عمار بن ياسر : جاء في الروايات التاريخية التي تحمل في طياتها غثا وسمينا أن هناك خلافا بين عمار وعثمان رضي الله عنهما، وقد خطم بعضها بأسانيد، وأخرى لا خطام لها ولا زمام، ولم أجد من أغنى فيه بحثا وتحليلا إلا لَمَاما، والتعرض لمثل هذا الموضوع الذي يمس كرامة أطهر خلق الله وأحبهم إليه وإلى نبيه، لا يمكن معه الاعتماد على روايات تسرح فيه أعراض الصحابة كما تشاء وتمرح من غير زمام أو خطام. ومن التهم الساقطة التي ساقتها الروايات الضعيفة: 1- ضرب عمار بن ياسر: تعتبر الروايات التي تحدثت عن ضرب عثمان لعمار من أشهر الروايات في هذا الموضوع وأكثرها، ولقد تفنن واضعوها في ذكر الأساليب التي استخدمها عثمان بالضرب، وفي ذكر ما نتج عنه، وهي مع فساد أسانيدها تحمل نكارة شديدة في متونها. يقول القاضي أبو بكر بن العربي في عواصمه ضمن تفنيده لما نسب إلى عثمان من افتراءات: وأما ضربه لابن مسعود ومنعه عطاءه فزور، وضربه لعمار إفك مثله، ولو فتق أمعاءه ما عاش أبدا، وقد اعتذر عن ذلك العلماء بوجوه لا ينبغي أن يشتغل بها؛ لأنها مبنية على باطل، ولا يبنى حق على باطل، ولا نذهب الزمان في مماشاة الجهال، فإن ذلك لا آخر له. إن أخلاق عثمان في سنه وإيمانه وحيائه ولين عريكته ورقة طبعه وسابقته وجليل مكانته في الإسلام أجَلّ من أن تنزل به إلى هذا الدرك من التصرف مع رجل من أجلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم, يعرف له عثمان سابقته وفضله مهما كان بينهما من اختلاف في الرأي، أفيرضى عثمان لنفسه وهو الذي أبى على الناس أن يقاتلوا دونه، ورضي بالموت صابرا محتسبا حقنا لدماء المسلمين واتقاء للفتنة العامة، أفيرضى أن يصنع بعمار -وهو أعلم بسابقته وفضله في الإسلام- ما ذكرت الروايات المزعومة بأنه أمر غلمانه بأن يضربوه حتى أغمى عليه، ثم يقوم عثمان في هذه الحال فيطأه في بطنه؟ ثم هل ترضى أخلاق عثمان وحياؤه بأن يدعو بدعوة الجاهلية فيعير عمارا بأمه سمية وهي من أهل السابقة والفضل، وعثمان يعرف شرف انتساب عمار إلى أمه سمية رضي الله عنها، أول شهيدة في الإسلام؟ كلا إن الأخبار الصحيحة والموثوقة لا يوجد فيها ما يدني عثمان من هذا الأسلوب المنحط في الزجر والتأديب، علاوة على أن أخلاقه وطبيعته وسيرته تستبعد ذلك تماما، ومما لا شك فيه أن عرض أمثال تلك الروايات الموضوعة على ما عرف من مواقف وأخلاق أولئك الأئمة الأعلام، والأخذ بالاعتبار مقاييس ذلك العصر ومعاييره لهو أصدق ميزان في النقد لكشف دخائل الوضاعين والمفترين. 2- اتهام عمار بالمساهمة في الفتنة وإثارة الشغب ضد عثمان: اعتمد المؤرخون في نسبة هذه الافتراءات إلى عمار على روايات لم تسلم إحداها من الطعن في صحة أسانيدها أو في استقامة متونها، وتتنوع التهم المنسوبة إلى عمار في تحريكه لأمر الفتنة، وتحريضه على عثمان، وسعيه بين العامة للتمرد عليه، فمنها ما يذكر من إرسال عثمان له إلى مصر لاستجلاء ما يحدث فيها مما نقل إليه عن تمرد العامة هناك، وأن السبئيين استطاعوا استقطاب عمار والتأثير عليه. وهذا الخبر الذي يرويه الطبري فيه شعيب بن إبراهيم التميمي الكوفي راوية كتب سيف، فيه جهالة، وقال عنه الراوي: ليس بالمعروف وله أحاديث وأخبار، فيها بعض النكارة، وفيها ما فيها من تحامل على السلف. ورواه عمر بن شبة في تاريخ المدينة وفيه شيخ عمر: علي بن عاصم، قال عنه ابن المديني: كان على بن عاصم كثير الغلط، وإذا رد عليه لم يرجع، وكان معروفا في الحديث، ويروي أحاديث منكرة، وقال يحيى بن معين: ليس بشيء، وقال مرة: كذاب ليس بشيء, وقال النسائي: متروك الحديث، وقال البخاري: ليس بالقوي عندهم، يتكلمون فيه. وهناك من تلطف بالكلام عليه وقال عنه ابن حجر: صدوق يخطئ ويصر، ورمي بالتشيع. وخبرٌ هذا حال إسناده لا يمكن الاطمئنان إليه لاسيما ما عرف عن عمار من الورع الذي يربأ به عن الانغماس في مثل تلك الأوحال, التي ما عهدنا مرتادا لها إلا سبئيا يهوديا حاقدا، ومعاذ الله أن يصل الحال بصحابي من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المستوى، يقول خالد الغيث: وهذا الخبر يعارضه ما ثبت من عدالة الصحابة رضوان الله عليهم، هذا فضلا عن عدم وروده من طريق صحيح. ومن الروايات الباطلة في هذا الباب ما نسب إلى سعيد بن المسيب، وفيها أن الصحابة بمجملهم نقموا على عثمان مع من نقم، وحنقوا عليه، وخاصة أبا ذر وابن مسعود وعمار بن ياسر رضي الله عنهم. وآفة هذه الرواية أن فيها تدليسًا ليس من النوع الممكن إقراره والتجاوز عنه، فقد أسقط منها راوٍ متهم بالوضع والكذب وهو إسماعيل بن يحيى بن عبيد الله، ولذلك جاء تضعيف علماء الحديث لهذه الرواية، وبيان زيفها عند ترجمتهم لمحمد بن عيسى بن سميع راوي الخبر عن ابن أبي ذئب، يقول الإمام البخاري عن ابن سميع: يقال إنه لم يسمع من ابن أبي ذئب هذا الحديث، يعني حديثه عن الزهري في مقتل عثمان. ويقول ابن حبان: إن ابن سميع لم يسمع حديثه من ابن أبي ذئب، وإنما سمعه من إسماعيل ابن يحيى، فدلس عنه. وقال الحاكم: أبو محمد -يعني ابن سميع- روى عن ابن أبي ذئب حديثا منكرا وهو حديث مقتل عثمان، ويقال: كان في كتابه عن إسماعيل بن يحيى عن ابن أبي ذئب فأسقطه، وإسماعيل ذاهب الحديث. ويقول الدكتور يوسف العش: والرواية المنسوبة إلى سعيد بن المسيب يجب استبعادها، فهي بعد التحري تظهر موضوعة، فقد نص الحاكم النيسابوري أن أحد رجال سندها قد أسقط من السند رجلا واهيا، وأنها منكرة، والواقع أنها لا تنبئ عن الاحترام الذي يكنه سعيد بن المسيب للصحابة في أقواله الأخرى الصحيحة. 3- براءة عمار من دم عثمان رضي الله عنهما: وما يروى في ذلك اتهام مسروق وأبي موسى لعمار بذلك عند قدومه مع الحسن لاستنفار أهل الكوفة، وهذه الرواية قد وهي إسنادها بشعيب المجهول، وسيف المعلول، كما أن الرواية التي في صحيح البخاري لا تذكر شيئا من ذلك، فزيادتها لا تحتمل القبول، لا سيما مع طعنها في صحابي مثل عمار بن ياسر المجار - على لسان النبي صلى الله عليه وسلم - من الشيطان، والملئ إلى المُشاش من الإيمان. وقد بيَّن العلماء بطلان مثل هذا الاتهام الذي لم يختص بعمار فحسب، بل تعداه إلى مجموعة أخرى من أجِلَّة الصحابة، يقول ابن كثير: أما ما يذكره بعض الناس من أن بعض الصحابة أسْلَمَه ورضي بقتله، فهذا لا يصح عن أحد من الصحابة، بل كلهم كرهه ومقته وسب من فعله. ويقول القاضي أبو بكر بن العربي: فهذا أشبه ما روي في الباب، وبه يتبين -وأصل المسألة سلوك سبيل أهل الحق- أن أحدا من الصحابة لم يسعَ عليه، ولا قعد عنه، ولو استنصر ما غلب ألف أو أربعة آلاف غرباء عشرين ألفا بلديين أو أكثر من ذلك، ولكنه ألقى بيده إلى المصيبة ويقول: وقد انتدبت المردة والجهلة إلى أن يقولوا: إن كان فاضل من الصحابة كان عليه مشاغبا مؤلبا، وبما جرى عليه راضيا واخترعوا كتابا فيه فصاحة, وأمثال كتب عثمان به مستصرخا إلى علي, وذلك كل مصنوع، ليوغروا قلوب المسلمين على السلف الماضيين والخلفاء الراشدين، فالذي يُنْخل من ذلك أن عثمان مظلوم محجوج بغير حجة، وأن الصحابة براء من دمه بأجمعهم، لأنهم أتوا إرادته، وسلموا له رأيه في إسلام نفسه. ثالثـًا: براءة عمرو من دم عثمان: لما أحيط بعثمان خرج عمرو بن العاص من المدينة متوجها إلى الشام وقال: والله يا أهل المدينة ما يقيم بها أحد فيدركه قتل هذا الرجل إلا ضربه الله عز وجل بذل، ومن لم يستطع نصره فليهرب، فسار وسار معه ابناه عبد الله ومحمد، وخرج بعده حسان بن ثابت، وتتابع على ذلك ما شاء الله. وعندما جاءه الخبر عن مقتل عثمان وبأن الناس بايعوا علي بن أبي طالب قال عمرو: أنا أبو عبد الله تكون حرب من حك فيه قرحة نكأها، رحم الله عثمان ورضي الله عنه وغفر له، فقال سلامة بن زنباغ الجذامي: يا معشر العرب، إنه قد كان بينكم وبين العرب باب فاتخذوا بابا إذا كسر الباب، فقال عمرو: وذاك الذي نريد ولا يصلح الباب إلا أشاف تخرج الحق من حافرة البأس ويكون الناس في العدل سواء، ثم تمثل عمرو بن العاص بهذه الأبيات: فيا لهف نفسي على مالك وهل يصرف مالك حفظ القدر؟ أنزع من الحرِّ أودى بهم فأعذرهم أم بقومي سكر ثم ارتحل راجلا يبكي ويقول: يا عثماناه، أنعي الحياء والدين حتى قدم دمشق هذه هي الصورة الصادقة عن عمرو والمتتالية مع شخصيته، وخط حياته وقربه من عثمان، أما الصورة التي تمسخه إلى رجل مصالح وصاحب مطامع وراغب دنيا، فهي الرواية المتروكة الضعيفة، رواية الواقدي عن موسى بن يعقوب وقد تأثر بالروايات الضعيفة والسقيمة مجموعة من الكتاب والمؤرخين فأهووا بعمرو إلى الحضيض، كالذي كتبه محمود شيت خطاب، وعبد الخالق سيد أبو رابية، وعباس محمود العقاد الذي يتعالى عن النظر في الإسناد ويستخف بقارئه، ويظهر له صورة معاوية وعمرو -رضي الله عنهما- بأنهما: انتهازيان صاحبا مصالح، ولو أجمع الناقدون التاريخيون على بطلان الروايات التي استند إليها في تحليله، فهذا لا يعني للعقاد شيئا، فقد قال بعد أن ذكر روايات ضعيفة واهية لا تقوم بها حجة: «... وليقل الناقدون التاريخيون ما بدا لهم أن يقولوا في صدق هذا الحوار، وصحة هذه الكلمات، وما ثبت نقله ولم يثبت منه سنده ولا نصه، فالذي لا ريب فيه ولو أجمعت التواريخ قاطبة على نقضه أن الاتفاق بين الرجلين كان اتفاق مساومة ومعاونة على الملك والولاية، وأن المساومة بينهما كانت على النصيب الذي آل على كل منهما، ولولاه لما كان بينهما اتفاق. إن شخصية عمرو بن العاص الحقيقية، أنه رجل مبادئ غادر المدينة حين عجز عن نصرة عثمان، وبكى عليه بكاء مرًّا حين قُتل، فقد كان من أقرب أصحابه وخلانه ومستشاريه، وكان يدخل في الشورى - في عهد عثمان- من غير ولاية، ومضى إلى معاوية -رضي الله عنهما- ليتعاونا معا على حرب قتلة عثمان والثأر للخليفة الشهيد. لقد كان مقتل عثمان كافيا لأن يحرك كل غضبه على أولئك المجرمين السفاكين، وكان لا بد من اختيار مكان غير المدينة للثأر من هؤلاء الذين تجرأوا على حرم رسول الله وقتلوا خليفته على أعين الناس، وأي غرابة أن يغضب عمرو لعثمان؟ وإن كان هناك من يشك في هذا الموضوع فمداره على الروايات المكذوبة التي تصور عمرًا كل همه السلطة والحكم. رابعًا: من أقوال الصحابة في الفتنة: 1- أنس بن مالك : قيل لأنس بن مالك: إن حبَّ علي وعثمان لا يجتمعان في قلب، فقال أنس: كذبوا، لقد اجتمع حبهما في قلوبنا. 2- حذيفة بن اليمان : عن خالد بن الربيع قال: سمعنا بوجع حذيفة، فركب إليه أبو مسعود الأنصاري في نفر فيهم إلى المدائن، قال: ثم ذكر قتل عثمان، فقال: اللهم إني لم أشهد، ولم أقتل, ولم أَرْضَ. وأخرج أحمد بن حنبل عن ابن سيرين عن حذيفة قال: لما بلغه قتل عثمان قال: اللهم إنك تعلم براءتي من دم عثمان، فإن كان الذين قتلوه أصابوا، فإني برئ منهم، وإن كانوا أخطأوا فقد تعلم براءتي من دمه، وستعلم العرب لئن كانت أصابت بقتله لحلبنا بذلك لبَنًا، وإن كانت أخطأت بقتله لتحتلبن بذلك دمًا، فاحتلبوا بذلك دمًا، ما رفعت عنهم السيوف ولا القتل. وروى ابن عساكر عن جندب بن عبد الله -له صحبة- أنه لقى حذيفة فذكر له أمير المؤمنين عثمان فقال: أما إنهم سيقتلونه، قال: قلت: فأين هو؟ قال: في الجنة، قلت: فأين قاتلوه؟ قال: في النار. 3- أم سليم الأنصارية رضي الله عنها: قالت أم سليم الأنصارية - رضي الله عنها- لما سمعت بقتل عثمان: رحمه الله، أما إنه لم يحلبوا بعده إلا دما. 4- أبو هريرة : وعن أبي مريم قال: رأيت أبا هريرة يوم قتل عثمان وله ضفيرتان، وهو ممسك بهما وهو يقول: قتل والله عثمان على غير وجه الحق 5- أبو بكرة : روى ابن كثير في البداية والنهاية عن أبي بكرة قال: لأن أخِرَّ من السماء إلى الأرض أحبّ إليَّ من أن أُشرك في قتل عثمان 6- أبو موسى الأشعري : عن أبي عثمان النهدي قال أبو موسى الأشعري : إن قتل عثمان لو كان هدي احتلبت به الأمانة لبنًا، ولكنه كان ضلالا فاحتلبت به دما. 7- سمرة بن جندب : روى ابن عساكر بإسناده إلى سمرة بن جندب قال: إن الإسلام كان في حصن حصين، وإنهم ثلموا في الإسلام ثلمة بقتلهم عثمان، وإنهم شرطوا أشرطة, وإنهم لم يسدوا ثلمتهم أو لا يسدونها إلى يوم القيامة، وإن أهل المدينة كانت فيهم الخلافة فأخرجوها ولم تعد فيهم. 8- عبد الله بن عمرو بن العاص : وأخرج أبو نعيم في (معرفة الصحابة) بسنده إلى عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: عثمان بن عفان ذو النورين قتل مظلوما، أوتي كفلين من الأجر 9- عبد الله بن سلام قال t: لا تقتلوا عثمان، فإنكم إن فعلتم لم تصلُّوا جميع أبدا. وفي رواية: والله لا تهرقون محجما من دم -أي: من دم عثمان- إلا ازددتم به من الله بُعدا. 10- الحسن بن علي : عن طلق بن خشاف قال: انطلقنا إلى المدينة ومعنا قُرط بن خيثمة، فلقينا الحسن بن علي فقال له قرط: فيم قُتل أمير المؤمنين عثمان؟ فقال: قتل مظلوما. 11- سلمة بن الأكوع : وعن يزيد بن أبي عبيدة قال: لما قتل عثمان خرج سلمة بن الأكوع -وهو بدري- من المدينة قبل الربذة، فلم يزل بها حتى كان قبيل أن يموت. 12- عبد الله بن عمر: فعن أبي حازم قال: كنت عند عبد الله بن عمر بن الخطاب فذكر عثمان، فذكر فضله ومناقبه وقرابته حتى تركه أنقى من الزجاجة، ثم ذكر علي بن أبي طالب فذكر فضله وسابقته وقرابته حتى تركه أنقى من الزجاجة، ثم قال: من أراد أن يذكر هذين فليذكرهما هكذا أو فليدع. وقال ابن عمر -رضي الله عنهما- أيضا: لا تسبوا عثمان؛ فإنا كنا نعده من خيارنا. خامسًا: أثر مقتل عثمان في حدوث فتن أخرى: لقد كانت فتنة قتل عثمان سببا في حدوث كثير من الفتن الأخرى، وألقت بظلالها على أحداث الفتن التي تلتها، فتغيرت قلوب الناس وظهر الكذب، وبدأ الخط البياني للانحراف عن الإسلام في عقيدته وشريعته. وكان مقتل عثمان من أعظم الأسباب التي أوجبت الفتن بين الناس، وبسببه تفرقت الأمة إلى اليوم؛ فتفرقت القلوب، وعظمت الكروب، وظهرت الأشرار وذل الأخيار، وسعى في الفتنة من كان عاجزا عنها، وعجز عن الخير والصلاح من كان يحب إقامته، فبايعوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو أحق الناس بالخلافة حينئذ، وأفضل من بقي, لكن القلوب متفرقة ونار الفتنة متوقدة، فلم تتفق الكلمة ولم تنتظم الجماعة، ولم يتمكن الخليفة وخيار الأمة من كل ما يريدون من الخير، ودخل في الفرقة والفتنة أقواما وبدأ ضعف الفتوحات تدريجيا خلال السنين الأخيرة من خلافة عثمان، عندما بدأت الفتن تضرب بلاد الإسلام ومركز الخلافة، ثم توقفت عندما قتل عثمان، واستمرت متوقفة بل تراجعت في بعض الأماكن إلى بداية عهد معاوية؛ حيث استقرت أحوال المسلمين فانطلقت الفتوحات شرقا وغربا وشمالا. سادسًا: الظلم والاعتداء على الآخرين من أسباب الهلاك في الدنيا والآخرة: إن الظلم والاعتداء على الآخرين بغير حق من أسباب الهلاك في الدنيا والآخرة، كما قال الله -عز وجل-: "وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا" وإن المتتبع لأحوال أولئك الخارجين على عثمان المعتدين عليه يجد أن الله تعالى لم يمهلهم, بل أذلهم وأخزاهم وانتقم منهم فلم ينجُ منهم أحدا روى خليفة بن خياط في تاريخه بإسناد صحيح إلى عمران بن الحدير قال: إن لم يكن عبد الله بن شقيق حدثني أن أول قطرة قطرت من دمه -يعني عثمان- على "فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ" [البقرة: 137] فإن أبا حُريت ذكر أنه ذهب وسهيل النميري، فأخرجوا إليه المصحف, فإذا القطرة على "فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ"، فإنها في المصحف ما حكت. وفي تاريخ ابن عساكر عن محمد بن سيرين قال: كنت أطوف بالكعبة، فإذا رجل يقول: اللهم اغفر لي، وما أظن أن تغفر لي، قلت: يا عبد الله، ما سمعت أحدا يقول ما تقول، قال: كنت أعطيت الله عهدا إن قدرت أن ألطم وجه عثمان إلا لطمته، فلما قُتل وضع على سريره في البيت، والناس يجيئون فيصلون عليه، فدخلت كأني أصلي عليه، فوجدت خلوة، فرفعت الثوب عن وجهه فلطمت وجهه، وسجيته, وقد يبست يميني، قال محمد بن سيرين: رأيتها يابسة كأنها عود.ولو لم يكن من آثار ظلم هؤلاء الحاقدين إلا سل المسلمين السيف عليهم إلى يوم القيامة لكفى بذلك رادعا لهم ولكل من سار في فلكهم، قال القاسم بن محمد: مر عليٌّ على رجلين بالمدينة بعدما قتل عثمان، وقبل بيعته وهما يقولان: قتل ابن بيضاء، ومكانه من الإسلام والعرب، ثم والله ما انتطح فيه عنزان، فقال علي: ما قلتما؟ فأعادا عليه فقال: بلى والله، ورجال بعد رجال، وكتائب بعد كتائب، أو يخرج ابن مريم. سابعًا: تأثر المسلمين لمقتل عثمان وما قيل من أشعار: كان وقع المصيبة على نفوس المؤمنين عظيما، فجللهم الحزن وفاضت مآقيهم بالدموع، ولهجت ألسنتهم بالثناء على عثمان، والترحم عليه، وقام حسان بن ثابت يرثي أمير المؤمنين ويكثر التفجع لمقتله، ويهجو قاتليه، ويقرعهم بما كسبت أيديهم فيقول: أتركتم غزو الدروب وراءكم وغزوتمونا عند قبر محمد فلبئس هدى المسلمين هديتم ولبئس أمر الفاجر المتعمد إن تُقْدموا نجعل قِرى سرواتكم حول المدينة كل لين مذود أو تدبروا فلبئس ما سافرتم ولَمِثلُ أمر أميركم لم يرشد وكأن أصحاب النبي عشية بُدن تُذَبَّحُ عند باب المسجد أبكي أبا عمرو لحسن بلائه أمسى مقيما في بقيع الغرقد وقال حسان أيضا: ماذا أردتم من أخي الدين باركت يدُ الله في ذاك الأديم المقدَّدِ قتلتم ولي الله في جوف داره وجئتم بأمر جائر غير مهتد فهلا رعيتم ذمة الله بينكم وأوفيتم بالعهد عهد محمد ألم يك فيكم ذا بلاء ومصدق وأوفاكم عهدا لدى كل مشهد فلا ظفرت أيمان قوم تبايعوا على قتل عثمان الرشيد المسدد وقال حسان أيضا: من سره الموت صرفا لا مزاج له فليأت مأسدة في دار عثمانا مستشعري حلق الماذىِّ قد شُفعت قبل المغاطم بيض زان أبدانا صبرا فِدًى لكم أمي وما ولدت قد ينفع الصبر في المكروه أحيانا فقد رضينا بأهل الشام نافرة وبالأمير وبالإخوان إخوانا إني لمنهم وإن غابوا وإن شهدوا ما دمت حيًّا وما سُمِّيت حسانا لتسمعن وشيكا في ديارهم الله أكبر يا ثارات عثمانا وقال أيضا: إن تُمسِ دار ابن أروى منه خاوية باب صريع وباب محرق خرب فقد يصادق باغي الخير حاجته فيها ويهوى إليها الذكر والحسب يا أيها الناس أبدوا ذات أنفسكم لا يستوي الصدق عند الله والكذب قوموا بحق مليك الناس تعترفوا بغرة عُصَب من خلفها عُصب فيهم حبيب شها بالوت يَقْدُمُهم مستلئما قد بدا في وجهه الغضب وقال كعب بن مالك : ويحٌ لأمر قد أتاني رائع هدَّ الجبال فأنغضت برجوف قتل الإمام له النجوم خواضع والشمس بازغة له بكسوف يا لهف نفسي إذا تولوا غدوة بالنعش فوق عواتق وكتوف ولَّوا ودلَّوا في الضريح أخاهم ماذا أجنَّ ضريحه المسقوف من نائل أو سؤدد وحمالة سبقت له في الناس أو معروف كم من يتيم كان يجبر عظمه أمسى بمنزلة الضياع يطوف فرجتها عنه برحمك بعد ما كادت وأيقن بعدها بحتوف ما زال يقبلهم ويرأب ظلمهم حتى سمعت برنة التلهيف أمسي مقيما بالبقيع وأصبحوا متفرقين قد أجمعوا بحفوف النار موعدهم بقتل إمامهم عثمان صهر في البلاد عفيف جمع الحمالة بعد حلم راجح والخير فيه مبين معروف يا كعب لا تنفك تبكي هالكا ما دمت حيا في البلاد تطوف وقال كعب أيضا: فكفَّ يديه ثم أغلق بابه وأيقن أن الله ليس بغافل وقال لأهل الدار لا تقتلوهم عفا الله عن كل امرئ لم يقاتل فكيف رأيت الله صبَّ عليهم العداوة والبغضاء بعد التواصل؟ وكيف رأيت الخير أدبر بعده عن الناس إدبار النعام الجوافل؟ وقال راعي الإبل النميري في ذلك: عشية يدخلون بغير إذن على متوكل أوفى وطابا خليل محمد وزير صدق ورابع خير من وطئ الترابا وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين تمـ بحمد الله |
|
02-08-2013, 06:40 AM | #17 |
|
رد: حيــــــــــــ ذى(عثمـــــان بن عفـــــان) النــورين ــــــــــــاة
اتمنى ان ينال الموضوع اعجابكم فى حفظ الله ورعايته ,, ابو ادم |
|
02-08-2013, 02:58 PM | #18 |
|
رد: حيــــــــــــ ذى(عثمـــــان بن عفـــــان) النــورين ــــــــــــاة
ابوآدم
كتب الله لك اجر كل حرف بهذا الموضوع صحابي جليل صحابي يستحق ان يكتب عنه هذا طــــرح جميــــــــل وراقي ومميز منك دام التألق ... ودام عطاء نبضك كل الشكر لهذا الإبداع,والتميز لك مني كل التقدير ...!! وبآنتظار روائع جديدك بكل شوق...! ودي وعبق وردي |
للتـوآصل تَوَاضَعْ تَكُنْ كالنَّجْمِ لاح لِنَاظـِـــرِ . على صفحـات المــاء وَهْوَ رَفِيــعُ ولا تَكُ كالدُّخَانِ يَعْلُـــو بَنَفْسـِـــهِ . على طبقــات الجـوِّ وَهْوَ وَضِيــعُ (`*•.¸(`*•.¸ A ¸.•*´)¸.•*´) ˜”*°•˜..♥..(-->♥ عابرسبيل♥<-- )♥..˜ •°*”˜ (¸.•*´(¸.•*´ A `*•.¸)`*•.¸) تقييم منتديات قبيلة ال شراحيل بفيفاء زوروني هنا
•
رسالة لمن غابوا عنا اين انتم
• ██▓▒░( ♥-.♪¸ بوح ـآلنبضآتـ¸لـع ـابرسبيل♪.-♥ )░▒▓██ • طلباتكم وآرائكم أوامر قيد التنفيذ. |
02-08-2013, 03:30 PM | #19 |
مجلس الادارة
|
رد: حيــــــــــــ ذى(عثمـــــان بن عفـــــان) النــورين ــــــــــــاة
وش دخل هذا في قسم القران
النــورين , ذى(عثمـــــان , حيــــــــــــ , عفـــــان) , ــــــــــــاة ينقل الى قــسم لإسلامي |
|
02-08-2013, 05:42 PM | #20 |
|
رد: حيــــــــــــ ذى(عثمـــــان بن عفـــــان) النــورين ــــــــــــاة
شرفني واسعدني مروركم الراقي...
لكم خالص الود... ودمتم...... |
|
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 0 والزوار 2) | |
|
|
|